العمل بكتاب الله
إبراهيم بن سلطان العريفان
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوة الإيمان والعقيدة .. يقول الله ربُّنا في محكم النزيل ]وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ بيان من الله أن هذا القرآن إنما أُنزِل لأجل الاتباع والعمل به.
واعلموا – يا عباد الله - إن من أعظم أسباب شقاء اليهود: أنهم اكتفوا بقراءة التوراة وسماعها دون أن يتبع ذلك عمل، فَشَبَّهَهم الله تعالى بالحمير، فقال ]مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ فهؤلاء اليهود حُمِّلوا التوراة؛ أي: عَلِمُوها وكُلِّفوا العمل بها، ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها؛ كمثل الحمار يحمل كتباً يتعب في حملها ولا ينتفع بها.
وفي هذا تحذير لأمة محمد أن لا يتشبهوا باليهود، الذين اكتفوا بقراءة الكتاب المنزل عليهم دون الاتباع والعمل به.
يقول أبو الدرداء t : كنا مع النبيِّ ﷺ فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال "هذا أوَانُ يُخْتَلَسُ العِلمُ مِنَ الناسِ، حتى لا يَقْدِرُوا مِنْهُ على شَيءٍ" فقال زيادُ بنُ لَبِيدٍ الأنصاريُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا، وقد قَرَأْنا القُرآنِ؟ واللهِ، لَنَقْرَأَنَّهُ، ولَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنا وأَبْنَاءَنَا؟ قال ﷺ "ثَكِلَتْكَ أُمُّك يا زِيَادُ، إِنْ كُنتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهاءِ أهلِ المَدينَةِ؛ هذه التَّوراةُ والإنجيلُ عند اليهودِ والنصارى فماذا تُغْنِي عَنْهُمْ".
والمقصُودُ: أنَّ أهل الكتاب لَم يَعمَلُوا بما في التوراة والإنجيل، ولَم يَفهَموا معانِيَهما وحرَّفُوهما "فماذا تُغْني عنهم؟" ما نفَعَتْهم، وما استفادوا منها، لأنهم ما عملوا بها.
فرسول الله ﷺ يدعو الأمة إلى العمل بالقرآن بعد قراءته وفهمه، لا إلى الاقتصار على القراءة فقط، فيفعلون كما فعل بنو إسرائيل، قال الله تعالى عنهم ]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ[ والأمانِيُّ: وهي التِّلاوةُ. وهذا غالِبُ المسلمين اليوم - إلاَّ مَنْ رحم ربي - لا يعلمون مِنَ القرآن إلاَّ تلاوته.
وقد حذَّر النبيُّ ﷺ أصحابَه من أفعالِ طائفةٍ تأتي مِنْ بعدهم يقرؤون القرآن، غيرَ أنَّ القراءة لا تتعدَّى حناجرهم، وتبقى في حيِّز الأصوات بلا عمل، فقال ﷺ "يَخْرُجُ في هذه الأُمَّةِ قومٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمُ مَعَ صَلاتِهمُ، يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أو حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرِقُونَ مِنَ الدِّين مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ".
إن الواجب علينا -عباد الله- قراءة القرآن قراءة تدبر وتفكر، والعمل به، قال الله تعالى ] كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[.
لمَّا جَرَتْ حادثة الإفك، وتكلم ناسٌ في عائشة الصدِّيقة - رضي الله عنها - كان مِمَّنْ تكلَّم فيها مِسْطَحُ بنُ أُثاثةَ، وهو رجل فقير ذو قرابة لأبي بكر، وكان أبو بكر t يُنفق عليه من ماله الخاص، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ضمن سياق حديث الإفك: فَلَمَّا أنزلَ اللهُ هذا في بَراءَتِي، قال أبو بكر الصدِّيقُ t وكان يُنْفِقُ على مِسْطَحِ بنِ أُثاثةَ لِقَرَابَتِهِ منه وفَقْرِهِ: واللهِ لا أُنْفِقُ على مِسْطَحٍ شيئاً أبداً، بعد الذي قال لعائشةَ ما قال، فَأَنْزَلَ اللهُ ]وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ قال أبو بكر: بَلَى، واللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي، فَرَجَعَ إلى النَّفَقَةِ التي كان يُنْفِقُ عليه، وقال: واللهِ لا أَنْزِعُها مِنْهُ أبداً.
فأبو بكر - رضي الله عنه - لمَّا قرأ الآية وفهمها عمل بما فيها، وأعاد النفقة على من تكلم في عرضه وآذاه في ابنته زوج النبي ﷺ بل حلف بالله تعالى ألاَّ ينزع منه النفقة أبداً، فأين نحن في هذه الأخلاق العظيمة، والقدوات المباركة؟!
لمَّا نزلت ] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ[ قالَ أبو الدَّحداحِ الأنصاريُّ: يا رسولَ اللَّهِ، وإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَيريدُ منَّا القرَضَ؟ قالَ "نعَم يا أبا الدَّحداحِ" قالَ: أرِني يدَكَ يا رسولَ اللَّهِ، فَناولَه يدَهُ قالَ: فإني قد أقرضتُ ربِّي عزَّ وجلَّ حائطي -وحائطٌ لهُ فيهِ ستُّمائةِ نخلةٍ وأمُّ الدَّحداحِ فيهِ وعيالُهُ- فجاءَ أبو الدَّحداحِ، فَناداها: يا أمَّ الدَّحداحِ، قالت: لبَّيكَ. قالَ: اخرُجي فقد أقرضتُهُ ربِّي عزَّ وجلَّ.
هكذا المسلم يقف مع آيات الله، تدبرا وتفهما وتعقلا وتفكرا .. والعمل به
أقول ما تسمون ...
الحمد لله رب العالمين ..
معاشر المؤمنين .. عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، لمَّا أَنْزَلَ اللهُ ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[ شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ -أي: شققن الكساء (القماش) فاخْتَمَرْن بِهَا. أي: غطَّينَ وجوههن، كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار. استجابة لأمر الله.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: لَمَّا نَزَلَتْ ]يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ[ خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ على رُؤُوسِهِنَّ الغرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ.
وهكذا كانت نساؤهم؛ كرجالهم، يُسارعن إلى امتثال أمرِ الله تعالى ]وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[ وأمرِه تعالى ]يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ[ فلا ينتظرن شراء خُمُرٍ جديدة، ولا ينتظرن العودة للمنازل، بل يسارعن فيشققن مروطهن ويلقينها على جيوبهن رضي الله عنهن ورضي الله عنهم أجمعين.
إنَّ الواجب على أهل القرآن العملُ به، وامتثالُ أمره، واجتناب نهيه، والتحاكم إليه، والتزام منهجه ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ[ أي: يتَّبعونه حق اتباعه ويعملون به حق عمله، ويقرؤونه كما يجب من التَّدبر له، والعمل به.
نسأل أن يُعِينَنَا على العملِ بكتابِه، وسُنَّةِ نبيِّه، وتطبيقهما في واقع حياتنا، وأن يُعيذنَا من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
المرفقات
1736494955_العمل بكتاب الله.pdf
1736494964_العمل بكتاب الله.docx