العمل التطوعي المكي
عبدالله يعقوب
1434/01/29 - 2012/12/13 16:32PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد...
فقبل ثلاثين عاماً أرادتْ محسنةٌ تُدعَى (أم علي) أن تبني مسجداً، فتواصلت مع رجلٍ له اهتمام بذلك، فاقترح عليها منطقةً فقيرةً في إفريقيا، فوافقت، فذهب هذا الرجلُ لأول مرة، ويقول لما وصل إلى هناك: "صُدمنا لما رأينا من مآسٍ وآلامٍ يعيشها إخواننا ونحن عنهم غافلون، فقررنا تأسيسَ عملٍ تطوعيٍ سميناه (لجنة مسلمي إفريقيا)، ثم لما رأينا أن خيرَ الإسلام شمل المسلمَ وغير المسلم؛ تغيّر المسمّى إلى (جمعية العون المباشر).
فأنتج هذا العملُ المباركُ عدداً من الجامعات، ومئاتٍ من البرامج التعليمية والإغاثية والدعوية، وأُنْقِذَت به ملايينُ الأرواح من الهلاك جوعاً وعطشاً، وأسلم بسببه أكثر من عشرة ملايين إنسان كماذُكر.
فجزى الله خيراً (أمَ علي) صاحبةَ المبادرة، وجزى الله خيراً ذلك الرجل، الذي قدّر اللهُ أن يكون أداةَ الخير ومشعلَ النور في ذلك البلد، وفي غيره من بلاد العالم الإسلامي، إنه د.عبدالرحمن السميط،رجل بأمة.
معاشر المؤمنين.. إن هذه الانجازات الضخمة الكبيرة كلها بعد توفيق الله تعالى من ثمرات العمل الخيري، والتطوعي، والذي يجب أن يُعنى به المسلمُ، ويقتطعَ له جزءاً من وقته وجهده وتفكيره وماله.
يجب أن نشعر بمسؤوليتنا، وأنَّ نحسَّ بغيرنا، ونرجو الأجر والثواب..
أما سمعنا قولَ نبينا صلى الله عليه وسلم: (بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غصنَ شوكٍ فأخّره، فشكر الله له، فغفر له) رواه الشيخان.
إذا علمنا هذا أيها الكرام... فلنعلم أن أممَ الأرض الآن.. تَعُدُّ من شواهدِ حضارتِها وتقدمِها.. اهتمامَها بالعمل التطوعي في سائر المجالات.
ولو نظرنا إلى بعضِ الأرقامِ والبياناتِ الاحصائية في ذلك.. لوجدنا أمراً يثير الإعجاب ولا شك..
وعلى سبيل المثال... في الولايات المتحدة الأمريكية يصلُ عددُ المنظماتِ غيرِ الربحية.. إلى مليون ونصف منظمة، ثلثاها منظمات خيرية.
فكم يا ترى عدد الجمعيات الخيرية التي لدينا؟؟
هل تستطيع أن تسمي عشرة منها.. في بلد الله الحرام؟
- في عام 2002م، بلغ حجم التبرعات للأعمال الخيرية ما يعادل 212 مليار دولار، 83% منها لأغراض دينية، وهذا غير ميزانيات مجلس الكنائس العالمي.
بينما تقدّر قيمة العمل التطوعي في بريطانيا بـ 40 مليار جنيه استرليني.
فكم حجم التبرعات المالية للأعمال التطوعية والجمعيات الخيرية لدينا؟
- عدد المتطوعين في الأعمال الخيرية في أمريكا يبلغ 90 مليون متطوع، في جميع الأعمال الدينية والإغاثية والإنسانية، بواقع 5 ساعات أسبوعياً في التطوع في جميع التخصصات.
فكم عدد المتطوعين لدينا؟ وكم ساعة في الأسبوع يقدمها الواحد منا للأعمال التطوعية احتساباً لوجه الله تعالى؟؟
- أمّا في الكيان اليهودي فيوجد أكثر من (35.000) منظمة غير ربحية، وهي تفوق منظمات وجمعيات العالمين العربي والإسلامي مجتمعين!
أيها الكرام... في عالمنا العربي والإسلامي.. نظرةُ الكثيرين للعمل الخيري ومؤسساته لا تتعدى كونها نوعاً من الاستجداء والتسوّل، وهذه النظرة لها انعكاساتها السلبية على تقييم الخدمات التي تقدمها المؤسسات الخيرية والتطوعية وتقديرها.
ولهذا لا بد من تغيير نظرة الناس إلى العمل الخيري.
نعم.. لا بد أن يعلم الناسُ جميعاً أن العمل الخيري والجهات التطوعية تقدم خدماتها ليس للفقراء والمحتاجين فقط... بل تقدم خدماتها أولاً للأثرياء وأصحاب الأموال.. من حيث دلالتهم على أماكن وضع التبرعات في موضعها الصحيح، متحملة مسؤولية ذلك.
ويجب أن يُعلم أنَّ انتشار المؤسسات الخيرية والتطوعية أصبح من المقاييس التي يقاس بها تقدمُ المجتمع وتطورُه، إذ يساهم في بناء التكافل الاجتماعي وتنمية القدرات الكامنة في أفراد المجتمع وتفعيله، وزيادة مساحة التعاون والتراحم والتعاطف بين الناس.
أيها الكرام.. ديننا.. شريعتنا.. نبينا.. أخلاقنا.. مبادؤنا.. قيمنا.. كلها تأمرنا بالعطاء، وتحثنا على البذل والمواساة.
أما سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواهمسلم.
وكلما كان العمل متعديًا نفعه للآخرين؛ كلما زاد أجره، وعظم ثوابه..
قال صلى الله عليه وسلم : (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشفُ عنه كربة، أو تقضيْ عنه ديناً، أو تطردُ عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحبُّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً [يعني المسجد النبوي]، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً و لو شاء أن يمضيَه أمضاه، ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، و إن سوءَ الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل) حسّنه الألباني.
و(إنَّ مما يلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابنِ السبيلِ بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقُه من بعد موته) هكذا يخبر نبيكم صلى الله عليه وسلم.
بل أدقُ الأعمال وأقلُها.. والتي قد لا يؤبه بها.. يعدها الإسلامُ عملاً تطوعياً.. (كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ). أخرجه مسلم.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَىَّ أُجُورُ أُمَّتِى حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ) رواه أبو داود.
أيها الكرام... لئن فاخرتْ أممُ الأرض بأعمالها التطوعية وجمعياتها الخيرية، فمن حقنا نحن سكان بلد الله الحرام.. أن نفخر بعددٍ من المشاريع التطوعية والأعمال الخيرية المؤسسية منها والفردية المقامة في بلد الله الحرام.
وإنما نقول ذلك.. لأن من حق إخواننا في هذه الجمعيات أن نعرّف بهم، وبأعمالهم، ونشكر لهم ذلك، واللهُ تعالى لا يضيع أجر من احسن عملاً.
أيها الكرام: الجمعيات التي تُعنى بالمرضى في مكة، في متابعةِ علاجهم وشراءِ دوائهم، ودفعِ المال لإجراء العمليات الجراحية لهم، والزياراتِ المنزلية للمرضى، وتسييرِ القوافل الطبية، وتوفيرِ المستلزمات الطبية، ونحو ذلك من الأعمال الطيبة المباركة. تقوم بها هذه الجمعيات دون مَنٍّ ولا أذى، بل تشرق وجوهُ القائمين والمشرفين عليها.. حين يُعينون أخاهم في رفع مرضه، ودفع ضرره.. كلُّ ذلك احتساباً. يأتي في مقدمة هذه الجمعيات (جمعيةُ زمزم للخدمات الصحية التطوعية)، و(جمعية دواء) التي تقوم بتوفير الدواء للمرضى بالمجان، و(جمعية شفاء) المتخصصة في رعاية المصابين بالأمراض المزمنة.بارك الله جهودهم ونفع بها.
ولا ننسى أيها الكرام مؤسستين كريمتين، الأولى: (الجمعية الخيرية) بمكة، والأخرى: (جمعية البر) بمكة، اللتان جهزتا مركزين متكاملين لغسيل الكلى للفقراء والمحتاجين بمكة. يأتي إليهما الفقير بتقاريره الطبية، فيجرون له التحاليل اللازمة، ثم الغسيل الكلوي، ثم يصرفون له العلاج اللازم، ويستمر على ذلك حتى يقضي الله أمراً من عنده... فجزاهم الله عنا خيراً.
ومن المؤسسات التطوعية المباركة.. (مشروعُ تعظيم البلد الحرام).. ووليدُه المبارك (شبابُ مكة).. هذان المشروعان اللذان حملا مسؤوليةَ تعريفِ الناس بمنزلة البلد الحرام وفضله ومكانته ووجوب تعظيمه.
وساهم (شبابُ مكة) في إعانة زائري المسجد الحرام والساحات المحيطة به، وفي الميادين العامة، يقدمون المساعدة لكبار السن يدفعون عرباتهم، ويقبلون رؤوسهم، ويبتسمون في وجوههم. ويعايدون المرضى، فلله درهم.
وأما (جمعيات تحفيظ القرآن الكريم) بحلقاتها الممتدة في كل مسجد وجامع، للرجال والنساء، فلا يجزي القائمين عليها خيراً إلا الله.. كم أخرجت من حفّاظٍ، مهرةٍ متقنين، بأصواتٍ ندية، وتلاوات عذبة، تدوّي أصواتهم بالقرآن صباح مساء، في البيوت والمساجد والمدارس.. فلله درهم، ما أحسنَ أثرهم.
أيها الكرام... تنتشر في أنحاء مكة... جمعياتٌ خيريةٌ كثيرة، تاجُ فخارها، وواسطةُ عقدها.. (المكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد).. التي تنشر العلمَ والهُدى والنورَ في بلد الله الحرام.. برامج دعوية، ومحاضرات تعليمية، وأنشطة توعوية، يستفيد منها الصغيرُ والكبيرُ، والرجلُ والمرأة، وبلغاتٍ عديدة.. مع توزيع النافع والمفيد من أوعية المعلومات، من كتبٍ ونشرات ومطويات وأشرطة صوتية وأقراص مدمجة، واستقبالٍ حسنٍ لوفودِ العلماءِ والدعاة، من أنحاء العالم.
أيها الناس.. (مغاسلُ الأموات الخيرية)، كم رفعت عنا من العناء، وكم دفعت عنا من المشقة، في تجهيز الجنائز، من نقلٍ وغسلٍ وتكفينٍ وخلافِ ذلك. معاناةٌ في السابق لا يعرفها إلا من كابدها وعرف واقعها.. فجاءت هذه المغاسل الخيرية لتقوم بهذا كله احتساباً.. فشكر الله لهم وبارك في جهودهم وجزاهم عنا خيراً.
ولا ننسى أيها الكرام.. مكاتب (مساعدة أسر السجناء)، و(الهيئات والمؤسسات الإغاثية)، المحلية منها والدولية، وجمعيات (رعاية الحجيج والمعتمرين)، ومؤسسات (كفالة الأيتام)، و(الأوقاف الخيرية)، التي نفاخر بها أمم الأرض.. أوقاف من بلاد المغرب، وأوقاف من بلاد المشرق، وأوقاف من بلاد ما وراء النهر... عدا أوقاف أهل مكة..
سدَّتْ هذه الأوقاف مسغبةَ أناس.. وغطتْ نفقاتٍ لمشاريع، واستفاد منها فئام...
ولكل هؤلاء.. في كل المؤسسات والجمعيات التطوعية نقول: تقبل الله سعيكم، وبارك في جهودكم، ووالله لا يجزيكم عنا - نحن أهل مكة - خيراً إلا الله وحده.
فللجميع منا الدعاء بالتوفيق والتسديد.. والقبول عند الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعنا بهدي سيد المرسلين..
الخطبة الثانية:
أيها الأخ المبارك: الجهاتُ الخيرية والتطوعية في مكة.. كثيرة ومتعددة.
فمتى تعطيها يا رعاك الله من وقتك وفكرك وجهدك.. ولو ساعة واحدة في الأسبوع... وما يدريك لعل فكرة أو كلمة منك.. يبارك الله فيها، ويكون من ورائها عمل كبير.. ومشروع عظيم.. ينفع الله به المسلمين..
فبادر بارك الله فيك.. وأرِ اللهَ تعالى من نفسك خيراً..
وتذكر أن (خير الناس أنفعهم للناس).
وتذكر أن من عاش لنفسه؛ عاش صغيرًا، ومات صغيرًا..
ومَن عاش لغيره؛ عاش كبيرًا، ومات كبيرًا..
فلا تنشغل بمآل عملك الخيرّ، ومن سينتفع به، بل اهتم بكيفية أدائه، وكُنْ أحد الباذلين الأخيار، فو الله ما أحد منّا يعلم العمل الذي ينجيه عند ربه، وتأملْ هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، تأملْه بقلبك وعقلك، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامتْ الساعة.. وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
فيا أصحاب العمل التطوعي، امضوا على بركة الله، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)، وتحلوا بحسنِ السجايا وكريمِ الشمائل، وعليكم بالرفقِ والتراحمِ ونبل التعامل، وأعينوا إخوانكم، وتواصوا بالحقِ والعدل، وتعاونوا على البرِ والتقوى، فلن يبقى للإنسان إلا عملُه، والمرء حي بسجاياه، وإن كان موسدًا مع أهلِ القبورِ في لحده.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، والزموا الطاعات والقربات، واجتنبوا المعاصي والموبقات، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، والزموا جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فإنه (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ). وتحلوا بالصَّبر والشُّكر، فنعم الخُلتان هما للمرء المسلم.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله سيدنا محمد...
أما بعد...
فقبل ثلاثين عاماً أرادتْ محسنةٌ تُدعَى (أم علي) أن تبني مسجداً، فتواصلت مع رجلٍ له اهتمام بذلك، فاقترح عليها منطقةً فقيرةً في إفريقيا، فوافقت، فذهب هذا الرجلُ لأول مرة، ويقول لما وصل إلى هناك: "صُدمنا لما رأينا من مآسٍ وآلامٍ يعيشها إخواننا ونحن عنهم غافلون، فقررنا تأسيسَ عملٍ تطوعيٍ سميناه (لجنة مسلمي إفريقيا)، ثم لما رأينا أن خيرَ الإسلام شمل المسلمَ وغير المسلم؛ تغيّر المسمّى إلى (جمعية العون المباشر).
فأنتج هذا العملُ المباركُ عدداً من الجامعات، ومئاتٍ من البرامج التعليمية والإغاثية والدعوية، وأُنْقِذَت به ملايينُ الأرواح من الهلاك جوعاً وعطشاً، وأسلم بسببه أكثر من عشرة ملايين إنسان كماذُكر.
فجزى الله خيراً (أمَ علي) صاحبةَ المبادرة، وجزى الله خيراً ذلك الرجل، الذي قدّر اللهُ أن يكون أداةَ الخير ومشعلَ النور في ذلك البلد، وفي غيره من بلاد العالم الإسلامي، إنه د.عبدالرحمن السميط،رجل بأمة.
معاشر المؤمنين.. إن هذه الانجازات الضخمة الكبيرة كلها بعد توفيق الله تعالى من ثمرات العمل الخيري، والتطوعي، والذي يجب أن يُعنى به المسلمُ، ويقتطعَ له جزءاً من وقته وجهده وتفكيره وماله.
يجب أن نشعر بمسؤوليتنا، وأنَّ نحسَّ بغيرنا، ونرجو الأجر والثواب..
أما سمعنا قولَ نبينا صلى الله عليه وسلم: (بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غصنَ شوكٍ فأخّره، فشكر الله له، فغفر له) رواه الشيخان.
إذا علمنا هذا أيها الكرام... فلنعلم أن أممَ الأرض الآن.. تَعُدُّ من شواهدِ حضارتِها وتقدمِها.. اهتمامَها بالعمل التطوعي في سائر المجالات.
ولو نظرنا إلى بعضِ الأرقامِ والبياناتِ الاحصائية في ذلك.. لوجدنا أمراً يثير الإعجاب ولا شك..
وعلى سبيل المثال... في الولايات المتحدة الأمريكية يصلُ عددُ المنظماتِ غيرِ الربحية.. إلى مليون ونصف منظمة، ثلثاها منظمات خيرية.
فكم يا ترى عدد الجمعيات الخيرية التي لدينا؟؟
هل تستطيع أن تسمي عشرة منها.. في بلد الله الحرام؟
- في عام 2002م، بلغ حجم التبرعات للأعمال الخيرية ما يعادل 212 مليار دولار، 83% منها لأغراض دينية، وهذا غير ميزانيات مجلس الكنائس العالمي.
بينما تقدّر قيمة العمل التطوعي في بريطانيا بـ 40 مليار جنيه استرليني.
فكم حجم التبرعات المالية للأعمال التطوعية والجمعيات الخيرية لدينا؟
- عدد المتطوعين في الأعمال الخيرية في أمريكا يبلغ 90 مليون متطوع، في جميع الأعمال الدينية والإغاثية والإنسانية، بواقع 5 ساعات أسبوعياً في التطوع في جميع التخصصات.
فكم عدد المتطوعين لدينا؟ وكم ساعة في الأسبوع يقدمها الواحد منا للأعمال التطوعية احتساباً لوجه الله تعالى؟؟
- أمّا في الكيان اليهودي فيوجد أكثر من (35.000) منظمة غير ربحية، وهي تفوق منظمات وجمعيات العالمين العربي والإسلامي مجتمعين!
أيها الكرام... في عالمنا العربي والإسلامي.. نظرةُ الكثيرين للعمل الخيري ومؤسساته لا تتعدى كونها نوعاً من الاستجداء والتسوّل، وهذه النظرة لها انعكاساتها السلبية على تقييم الخدمات التي تقدمها المؤسسات الخيرية والتطوعية وتقديرها.
ولهذا لا بد من تغيير نظرة الناس إلى العمل الخيري.
نعم.. لا بد أن يعلم الناسُ جميعاً أن العمل الخيري والجهات التطوعية تقدم خدماتها ليس للفقراء والمحتاجين فقط... بل تقدم خدماتها أولاً للأثرياء وأصحاب الأموال.. من حيث دلالتهم على أماكن وضع التبرعات في موضعها الصحيح، متحملة مسؤولية ذلك.
ويجب أن يُعلم أنَّ انتشار المؤسسات الخيرية والتطوعية أصبح من المقاييس التي يقاس بها تقدمُ المجتمع وتطورُه، إذ يساهم في بناء التكافل الاجتماعي وتنمية القدرات الكامنة في أفراد المجتمع وتفعيله، وزيادة مساحة التعاون والتراحم والتعاطف بين الناس.
أيها الكرام.. ديننا.. شريعتنا.. نبينا.. أخلاقنا.. مبادؤنا.. قيمنا.. كلها تأمرنا بالعطاء، وتحثنا على البذل والمواساة.
أما سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواهمسلم.
وكلما كان العمل متعديًا نفعه للآخرين؛ كلما زاد أجره، وعظم ثوابه..
قال صلى الله عليه وسلم : (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشفُ عنه كربة، أو تقضيْ عنه ديناً، أو تطردُ عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحبُّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً [يعني المسجد النبوي]، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً و لو شاء أن يمضيَه أمضاه، ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، و إن سوءَ الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل) حسّنه الألباني.
و(إنَّ مما يلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابنِ السبيلِ بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقُه من بعد موته) هكذا يخبر نبيكم صلى الله عليه وسلم.
بل أدقُ الأعمال وأقلُها.. والتي قد لا يؤبه بها.. يعدها الإسلامُ عملاً تطوعياً.. (كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ). أخرجه مسلم.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَىَّ أُجُورُ أُمَّتِى حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ) رواه أبو داود.
أيها الكرام... لئن فاخرتْ أممُ الأرض بأعمالها التطوعية وجمعياتها الخيرية، فمن حقنا نحن سكان بلد الله الحرام.. أن نفخر بعددٍ من المشاريع التطوعية والأعمال الخيرية المؤسسية منها والفردية المقامة في بلد الله الحرام.
وإنما نقول ذلك.. لأن من حق إخواننا في هذه الجمعيات أن نعرّف بهم، وبأعمالهم، ونشكر لهم ذلك، واللهُ تعالى لا يضيع أجر من احسن عملاً.
أيها الكرام: الجمعيات التي تُعنى بالمرضى في مكة، في متابعةِ علاجهم وشراءِ دوائهم، ودفعِ المال لإجراء العمليات الجراحية لهم، والزياراتِ المنزلية للمرضى، وتسييرِ القوافل الطبية، وتوفيرِ المستلزمات الطبية، ونحو ذلك من الأعمال الطيبة المباركة. تقوم بها هذه الجمعيات دون مَنٍّ ولا أذى، بل تشرق وجوهُ القائمين والمشرفين عليها.. حين يُعينون أخاهم في رفع مرضه، ودفع ضرره.. كلُّ ذلك احتساباً. يأتي في مقدمة هذه الجمعيات (جمعيةُ زمزم للخدمات الصحية التطوعية)، و(جمعية دواء) التي تقوم بتوفير الدواء للمرضى بالمجان، و(جمعية شفاء) المتخصصة في رعاية المصابين بالأمراض المزمنة.بارك الله جهودهم ونفع بها.
ولا ننسى أيها الكرام مؤسستين كريمتين، الأولى: (الجمعية الخيرية) بمكة، والأخرى: (جمعية البر) بمكة، اللتان جهزتا مركزين متكاملين لغسيل الكلى للفقراء والمحتاجين بمكة. يأتي إليهما الفقير بتقاريره الطبية، فيجرون له التحاليل اللازمة، ثم الغسيل الكلوي، ثم يصرفون له العلاج اللازم، ويستمر على ذلك حتى يقضي الله أمراً من عنده... فجزاهم الله عنا خيراً.
ومن المؤسسات التطوعية المباركة.. (مشروعُ تعظيم البلد الحرام).. ووليدُه المبارك (شبابُ مكة).. هذان المشروعان اللذان حملا مسؤوليةَ تعريفِ الناس بمنزلة البلد الحرام وفضله ومكانته ووجوب تعظيمه.
وساهم (شبابُ مكة) في إعانة زائري المسجد الحرام والساحات المحيطة به، وفي الميادين العامة، يقدمون المساعدة لكبار السن يدفعون عرباتهم، ويقبلون رؤوسهم، ويبتسمون في وجوههم. ويعايدون المرضى، فلله درهم.
وأما (جمعيات تحفيظ القرآن الكريم) بحلقاتها الممتدة في كل مسجد وجامع، للرجال والنساء، فلا يجزي القائمين عليها خيراً إلا الله.. كم أخرجت من حفّاظٍ، مهرةٍ متقنين، بأصواتٍ ندية، وتلاوات عذبة، تدوّي أصواتهم بالقرآن صباح مساء، في البيوت والمساجد والمدارس.. فلله درهم، ما أحسنَ أثرهم.
أيها الكرام... تنتشر في أنحاء مكة... جمعياتٌ خيريةٌ كثيرة، تاجُ فخارها، وواسطةُ عقدها.. (المكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد).. التي تنشر العلمَ والهُدى والنورَ في بلد الله الحرام.. برامج دعوية، ومحاضرات تعليمية، وأنشطة توعوية، يستفيد منها الصغيرُ والكبيرُ، والرجلُ والمرأة، وبلغاتٍ عديدة.. مع توزيع النافع والمفيد من أوعية المعلومات، من كتبٍ ونشرات ومطويات وأشرطة صوتية وأقراص مدمجة، واستقبالٍ حسنٍ لوفودِ العلماءِ والدعاة، من أنحاء العالم.
أيها الناس.. (مغاسلُ الأموات الخيرية)، كم رفعت عنا من العناء، وكم دفعت عنا من المشقة، في تجهيز الجنائز، من نقلٍ وغسلٍ وتكفينٍ وخلافِ ذلك. معاناةٌ في السابق لا يعرفها إلا من كابدها وعرف واقعها.. فجاءت هذه المغاسل الخيرية لتقوم بهذا كله احتساباً.. فشكر الله لهم وبارك في جهودهم وجزاهم عنا خيراً.
ولا ننسى أيها الكرام.. مكاتب (مساعدة أسر السجناء)، و(الهيئات والمؤسسات الإغاثية)، المحلية منها والدولية، وجمعيات (رعاية الحجيج والمعتمرين)، ومؤسسات (كفالة الأيتام)، و(الأوقاف الخيرية)، التي نفاخر بها أمم الأرض.. أوقاف من بلاد المغرب، وأوقاف من بلاد المشرق، وأوقاف من بلاد ما وراء النهر... عدا أوقاف أهل مكة..
سدَّتْ هذه الأوقاف مسغبةَ أناس.. وغطتْ نفقاتٍ لمشاريع، واستفاد منها فئام...
ولكل هؤلاء.. في كل المؤسسات والجمعيات التطوعية نقول: تقبل الله سعيكم، وبارك في جهودكم، ووالله لا يجزيكم عنا - نحن أهل مكة - خيراً إلا الله وحده.
فللجميع منا الدعاء بالتوفيق والتسديد.. والقبول عند الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعنا بهدي سيد المرسلين..
الخطبة الثانية:
أيها الأخ المبارك: الجهاتُ الخيرية والتطوعية في مكة.. كثيرة ومتعددة.
فمتى تعطيها يا رعاك الله من وقتك وفكرك وجهدك.. ولو ساعة واحدة في الأسبوع... وما يدريك لعل فكرة أو كلمة منك.. يبارك الله فيها، ويكون من ورائها عمل كبير.. ومشروع عظيم.. ينفع الله به المسلمين..
فبادر بارك الله فيك.. وأرِ اللهَ تعالى من نفسك خيراً..
وتذكر أن (خير الناس أنفعهم للناس).
وتذكر أن من عاش لنفسه؛ عاش صغيرًا، ومات صغيرًا..
ومَن عاش لغيره؛ عاش كبيرًا، ومات كبيرًا..
فلا تنشغل بمآل عملك الخيرّ، ومن سينتفع به، بل اهتم بكيفية أدائه، وكُنْ أحد الباذلين الأخيار، فو الله ما أحد منّا يعلم العمل الذي ينجيه عند ربه، وتأملْ هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، تأملْه بقلبك وعقلك، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامتْ الساعة.. وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
فيا أصحاب العمل التطوعي، امضوا على بركة الله، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)، وتحلوا بحسنِ السجايا وكريمِ الشمائل، وعليكم بالرفقِ والتراحمِ ونبل التعامل، وأعينوا إخوانكم، وتواصوا بالحقِ والعدل، وتعاونوا على البرِ والتقوى، فلن يبقى للإنسان إلا عملُه، والمرء حي بسجاياه، وإن كان موسدًا مع أهلِ القبورِ في لحده.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، والزموا الطاعات والقربات، واجتنبوا المعاصي والموبقات، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، والزموا جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فإنه (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ). وتحلوا بالصَّبر والشُّكر، فنعم الخُلتان هما للمرء المسلم.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله سيدنا محمد...