العِلْم والمُعَلِّمٌ القَدِيْر 18ـ6ـ1443هـ
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: بالعلمِ حياةُ الأُممِ، وبالجهلِ خُذلانُها، ولا يَبْلُغُ المجدَ جاهلٌ، والجهلُ مَطِيَّةُ سوءٍ.. مَن ارْتَحَلَها ضَلّ، ومَن قادَهاَ ذَلْ، وَمَن سَارَ عليها زَلّ، العِلْمُ عِمادُ العِزِّ، ورداءُ السؤددِ، وتاجُ الشَّرَف.
هَلْ عَلِمْتُمْ أُمةً في جَهْلِهَا ** ظَهَرَتْ في المجدِ حَسْناءَ الرِّداء
الجهلُ هو العَمَى.. والأَعْمى لا يُدْرِكُ مُبْتَغَاهُ بِغَيْرِ هادٍ ودَلِيْل. والجهلُ هو الإِعَاقَةُ.. والمُعاقُ لا يَنالُ حَاجَتَهُ بِغَيْرِ مُعِيْن
العلمُ ينهضُ بالوضيعِ إلى العُلا ** والجهلُ يَقْعُدُ بالفتى المَنْسُوبِ
العلمُ نورٌ يَهْدِي، وكرامةٌ تُهدى، وشرفٌ يَعْلُو، وفَضْلٌ يُوْهَب. العلمُ قُوَّةٌ.. تَكْسِرُ عُنُقَ الجَهْلِ، ونُوْرٌ.. يُبَدِّدُ رُكامَ الظَلام.
رأَيْتُ العِزَّ في أَدَبٍ وَعِلْمٍ ** وفي الجَهْلِ المذلةُ والهوانُ
والمُعَلِّمُ.. هُوَ مَنْ يَنْشُرُ العِلْمَ ويَبْذُلُه، ويُنَمِّيْ العَقْلَ ويَصْقُلُه، ويحاربُ الجهلَ ويقاوِمُه، ولا يزالُ المُعَلِّمُ البارعُ المُخْلِصُ.. هُو صَاحبُ الصَّدَارَةِ فِي مَقَامَاتِ الشَّرَفِ، وصَاحِبُ القيادةِ في ميادين الريادة. فالعِلْمُ نُوْرٌ والتَّعْلِيْمُ شَرَفْ، والعِلْمُ هِدَايَةٌ والمُعَلِّمُ دَلِيْل. أَفْلَحَ مُعَلِّمٌ أَخْلَصَ للهِ وَجَدَّ واجْتَهَد، وكفى المعلمَ غِبطةً أَنْ يَنَالَ هَذا الثوابَ، عن أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ» رواه الترمذي وصححه الألباني
عباد الله : وهنا وقفاتٌ مع المعلمِ الكريم.. وقفاتٌ.. تُنيرُ الدربَ، وتُذكِّرُ النفسَ، وتقوي العزيمةَ، وتنهضُ بالهمم، فما المعلمُ إلا إِمامٌ لمن هُمْ جُلُوْسٌ بَيْنَ يَديه، هو لهم قُدْوَةٌ، وَهْوَ لَهُمْ في طَرِيِقِ الفَضْلِ مَنَار.
المُعَلِّمُ القُدْوَةُ.. هو مَنْ يُرَبي جِيْلاً، وَيُعِدُّ رجالاً.. هو مَنْ يَشُقُّ طريقاً لِيُنْجِبَ أَجيالاً. المُعَلِّمُ القُدْوَةُ.. له صِفَاتٌ بالجلالِ تَكْسوُه.. صادقُ اللسانِ, عَفِيْفُ المنطقِ, بشوشُ الوجهِ. صابرٌ على جَهْلِ المُتَعَلِّمِ، صَبُوْرٌ على مَشَقَّةِ التَّعْلِيْم، حازمٌ بِلِيْن، ومؤدبٌ بِرِفْق، يَجْتَهِدُ فِي تَرْبِيَتِهِ لِتَلامِيْذِهِ، ويُجَاهِدُ في إِيْصَالِ العِلْمِ لَهُمْ.
المُعَلِّمُ القُدْوَةُ.. لا يَسْخَرُ مِنْ مُخْفِقٍ، ولا يَسْتَهْزِئُ بِعَاجِزْ، ولا يُحَطِّم مَشَاعِرَ مُتَأخِر. لا يُبَالِغُ في عُقُوْبَةٍ، ولا يَسْتَعْجِلُ في حُكْمٍ، ولا يَتَشَفَّى مِنْ مُشاكِس. يَتَغَاضَى عَنِ دَقَائِقِ الزَّلاتِ، وَيَتَجَاهَلُ عابِرَ الإِسَاءَات، يَقْبَلُ العُذرَ مِمَّنِ اعْتَذَرْ، وَيَعْتَذِرُ بِوُضُوْحٍ إِنْ هو أَخْطأ.
المُعَلِّمُ القُدْوَةُ.. يَعْدِلُ بَيْنَ طُلّابِه فلا يُمَيِّزُ أحداً بغيرِ سَبَبٍ. ولا يُوَثِرُ أَحْداً منهم بفضلِ تعليمٍ لغير حاجة. يُشاطرُ المسرورَ سُرُوْرَهُ، ويُشاركُ المهمومَ هَمَّهْ، يُثني على المُجِدِّ لِيزداد. ويأْخُذُ بيدِ المُتأخِرِ لِيتَقَدَّم. يَرى طُلابَه كنزاً مُدَّخراً يجني مِن ورائِهِم عظيمَ الحسنات. إِنَّهُ المُعلِّمُ القدوةُ القَدِيْر.. يَخْتَرِقُ القلوبَ بجميلِ لُطْفِهِ، فيؤثرُ فيها أَبْلَغَ التَّأثِيْر، يُبْقِيْ لِنفسِهِ في قلوبِ طُلَّابِهِ ذِكْراً راقِياً، وثَناءً باقِياً، ودُعاءً صادِقاً. المُعَلِّمُ القَدِيْر.. فِي سَعْيٍ حَثِيْثٍ، وَعَمَلٍ دَؤُوبٍ في سبيلِ تَرْبِيَةِ النشءِ وتعليْمِه. مدركاً تفاوتَ العقولِ، واختلافَ المداركِ والفهوم، يُكررُ شرحَهُ، ويُنوِعُ طرحَهُ، ويُجدد أسالِيبَه، ولا يرتجلُ العلمَ من غير سابقِ تحضير، مؤمنٌ بأن العِلْمَ عبادةٌ، وأَنَّ والتعليمَ جهادٌ. ومن استشعرَ عبوديته لله في بَذْلِهِ للعِلْم، ضاعفَ الجهدَ وأحسنَ القصدَ، وأخلص في العمل.
المُعَلِّمُ القَدِيْر.. يُدرِكُ أن للتفوقِ أسبابٌ وللإخفاق أسباب، فيَتَقصَّى أسباب الضعف لدى كلِ طالبٍ ويبحثُ عن علاجها، فليس كلُّ إخفاقٍ سببُهُ إهمالٌ، وليس كلُّ ضعفٍ سببُه تَفَلُّتْ، فكمٍ من عبقريٍ حالت بينه وبين التفوقِ عُقدٌ نفسية، أو مشاكلُ أسرية، أو مواقفُ قاسية. والمعلمُ أبٌ مُشْفِق.. يَتَفَرَّسُ طُلَّابَه وَيَتَقَصَّى أَحْوَالَهُمْ.. بِحُدودِ ما يُمَكِّنَهُ مِنْ بذلِ النفعِ لَهم،
المُعَلِّمُ القَدِيْر.. يُدرِكُ أنه مؤتمنٌ على تَخَصُّصَهُ التَّعْلِيْمِي، ومؤتمنٌ على طُلَّابٍهِ الذينَ بين يديه. وأن الطالبَ يَنْتَقِلُ مِنْ مَرْحَلَةٍ إلى مَرْحَلَةٍ، وأنَّ كُلَّ مَرْحَلَةٍ للطالبِ يجبُ أن يأخذَ مِنْهَا نصيبَه العلميَ وافراً من غير بَخْسٍ.
المُعَلِّمُ القَدِيْر.. مهما كانَ تَخَصُّصُهُ في التّعْلِيْمِ.. فإنه يُدرِكُ أن كلَّ مَنْهَجٍ تَعْلِيْمِيٍّ يَجِبُّ أَن لا يَنْفَكَّ عَنْ رَبطِ الطالِبِ بما يرتقي بأخلاقِهِ ودِينِه وقِيَمِه. يُوْسِفُ عليه السلام يسألُهُ صَاحِبَيِ السِجنِ عن تأَوِيلِ رُؤْيَيْهِمَا. فلما أَدركَ أنما مُشْرِكَيْنِ تَوَجَّهَ إلى دَعْوَتِهِما إلى تحقيقِ التوحيدِ ونبذِ ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، ثم أجابَهما عمَّا سألا {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بارك الله لي ولكم بالقرآن ..
الحمد لله رب العالمين، {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} الرحمن الرحيمِ، {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
أيها المسلمون: وعلى امتِدادِ القرونِ وتَعَاقُبِ الأجيالِ، واتِّسَاعِ دِيَارِ الإِسْلامِ، فإِنَّ المجتمعاتِ المسلمةِ في كُلِّ صِقْعٍ، لا تزالُ تُدْرِكُ أَنَّ التّقَدُّمَ في التعليم ضرورةٌ لنيل المجد، وأن الزهدَ في تعليم أيِّ علمٍ نافع في أمور الدنيا أو أمور الدين، هو عقبةٌ في طريق نهضة الأُمَمِ وتَقَدُّمِها، ومع هذا فإنَّ عُلُوْمَ الدِّيْنِ ـــــ وأَصْلُ الدِّيْنِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُوْلِه صلى الله عليه وسلم ـــ هو العلمُ المقدمُ في كلِّ مَقَام، وفِيْ تَثْبِيْتِهِ ثباتٌ لدين النشء وحفظٌ لعقولهم وقلوبهم من مزالق الشبهات والشهوات، قال ابنُ خُلْدُوْنٍ: (تَعْلِيْمُ الوِلْدَانِ للقُرْآنِ شِعَارٌ من شعائرِ الدِّيْن، أَخَذَ بِه أَهَالِي المِلَّةِ، ودَرَجُوا عليه من جميعِ أَمْصَارِهِمْ، لِما يَسْبِقُ إلى القُلُوْبِ مِنْ رُسُوْخِ الإيمانِ وَعَقَائِدِهِ بِسَبَبِ آياتِ القُرْآنِ وَمُتُوْنِ الأَحَادِيْثِ، وَصَارَ القُرْآنُ أَصْلُ التَّعْلِيْمِ الذي بُني عَلَيْهِ مَا يُحَصَّلُ بَعْدُ مِنَ المَلَكَات) ا.هـ
عباد الله: وَشَرَفُ التعليمِ وثَوابُ المُعَلِّمِ.. هُوَ لِمَنْ بَذَلَ ونَصحَ وَجَدَّ واجْتَهَدْ، وَلَنْ يَنَالَ شَرَفَ التَّعْلِيْمِ مَنْ امْتَهَنَهُ وَظِيْفَةً وَضَيَّعَهُ أَمَانَةً، من اتَّخَذَهُ كَسْبَاً، وَفَرَّطَ فِيْهِ دِيَانَةً، قال أبو حامدِ الغَزَالي رحمه الله : (الصبيُ أمانةٌ عند والديه، وقلبُه الطاهرُ جوهرةٌ نفيسةٌ سَاذِجَةُ، خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُوْرَةُ، وَهوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ، ومائلٌ إلى كل ما يمالُ بِهِ إِليه، فإنْ عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَهُ نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرةِ وشاركه في ثوابهِ أبواهُ وكلُّ مُعَلِّمٍ لَه وَمُؤَدِّب) ا.هـ
إنَّ المُعَلِّمَ في إخلاصهِ ونُصْحِهِ وَبَذْلِهِ، لَيُربِيَ جيلاً، ويُبَصِّرُ عُقُوْلاً، ويُنَوِّرُ أفكاراً، وينشرُ عِلْماً، ومهما كان العلمُ قليلاً.. فإِنَّهُ مَع الإِخْلاصِ يَزْكُو وَيَنْمُو وَيَنْفَع. وكم من مُعلمٍ مُخْلِصٍ.. أَسَّسَ لِنَفْسِهِ عَملاً باقياً.. في طُلابٍ أخلَصَ في بذل العلمِ والنصحِ لَهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
والمُعَلِّمُ المخْلِصُ يُخَلِّفُ علماً يُنتفعُ به، ويُخلِّفُ طالباً صالحاً يدعو له، قال السَّمْعانِيُّ رحمه الله: رُئِيَ أَبُوْ مَنْصُوْرِ الخياطُ الزاهدُ المقرئُ، المتوفى سنةَ أربعمائة وتسعةٍ وتسعين من الهجرة ، رُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي المنامِ، فَقِيْلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللهُ بِكَ؟ قال: غَفَرَ لي بِتَعْلِيْمِي الصبيانَ فاتحةَ الكتاب.
فمن عاشَ حتى ينفعَ الناسَ علمُهُ ... فلا زالَ مُمْتَداً له العيشُ والعمرُ
وما الخلدُ إلا للذين إذا انتهت ... حياتُهُمُ بالخيرِ دَامَ بها الذكرُ
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين
المرفقات
1642622731_مُعَلِّمٌ قَدِيْر 18ـ6ـ1443هـ.doc
تركي العتيبي
لله درك خطبة بجمال عبارتها وسجعها تكتب بالذهب
تعديل التعليق