العلامة محمد بن الأمين بوخبزة .. كتبه صفية الودغيري
الفريق العلمي
إنّ من الحوادث المؤلمة ما تخلف آثار ندوبها على الصّدور، وتشِم بوشمها السّطور، وتظلّ ذكراها بليغة وعميقة غائرة، لا تُنْسى وسط ما ننساه ونغفل عن ذكره وحفظه، ولا تسقط لسقوط ورقاتٍ من الذاكرة، وخمولها وذبولها في أزمنة الفترات ..
وإنَّ من الشّدائد العظيمة الخطر، والمحن الفَوادِح التي يتصدَّع لوقوعها الفؤاد، ويئنُّ القلب من لواعجها ويتفطّر، وإنّ منها ما يُلْزمُك لزومَ طول التّأمل وسِعَة النّظر، وأخذ الدّروس منها والعِبَر، واقتناص الفوائد والحكم من وقفات تسْبُر الأغوار، وتردع طيش النفس، وتردّ ضلالها وزيغها عن الحق ..
فكيف إذا وقعت نظائر هذه الشدائد، وتتابعت أخطار الابتلاءات وأشباهها، وتكرّرت في زماننا هذا ؟ !!!
وهو زمن الجوع والعطش، وزمن اللّهاث الرّكض وراء نيل ما لا ينقضي من الحاجات، وما لا يدرك من المطالب والمطامع، وهو زمن الهذيان وسُعار الفتن، وفوضى الإغراق في المتع والملذّات، وهَدْر الأوقات والأعمار في الغَرْف والعَبِّ وكثرة الاشتهاء ..
وهو زمنٌ لم يعد في شيء يردع النفس، إلا رزِيَّة الفقد ووقوع مصيبة الموت، حينئذ تتحرّك العواطف من غيبوبتها وسكرها، وتجيش المشاعر وتصحو الضمائر من مرقدها، وتمخض مخاض أوجاع الأرحام، وتشتعل في البواطن والحَنايا براكين الزّفرات، وتفيض العيون التي جفّت محاجر مدامعها، لتسقي حرَّ مواجعها، وترسل من نفاث دخّانها زفراتٍ وآهاتٍ، من حِمَم حزنها وثورة غضبها ..
وحينئذٍ تتذكّر هذه النفس مبتدأها ومنتهى خبرها، ومآل تلك الأنا اللّاهية وسط ما يلهيها من التّسالي، والإفراط في الهزل في زمن لا ينفع معه إلا الجدّ لا الهزل ..
وحينئذٍ نتذكّر حين تصحو هذه النفس من غفلتها، فنتذكّر أنّنا سنرحل كما رحل عنّا من كنّا نحبّهم من الأصحاب والخلان، والأهل والأقارب، ونتذكّر أنّنا سنُساق إلى الموت كما ساقهم إلى القبر، وسنتجرّع سكراته كما تجرّعوا غصصه ..
وحينئذٍ سندرك حجم تقصيرنا وتفريطنا، وحجم جورنا وظلمنا لأنفسنا ولغيرنا، وحجم ضعفنا وانكسارنا، فتسقط أمامنا أطماعنا، وتنحدر من قممها إلى السّفح، وتصغر أمام أعيننا ضخامة الأشكال، وعِظَم الأحجام والهيئات، وتضيق مساحات الرّغبات والمطالب والمشتهيات، وتتحطّم أمجاد الوظائف والمناصب، ويرحل الغرور والجاه والسلطان والسمعة والشهرة، وكلّ ما كانت تتعلّق به أرواحنا السّقيمة وتعشقه، ويصير كلّ ما كنا نقبل عليه أمامنا، ندبر عنه ونخلفه وراءنا ..
عسانا نتخفّف من الأثقال والأغلال والقيود، وما كان يستعبدنا طوقه وأسره، وما كنّا نتوق إليه ونرومه، وما كنّا نبتغي أن ندركه، ونصبو أن نغنمه ونمتلكه، ونكِعّ فارِّين من هول ما نراه من مشهد الموت والموتى، ونتذكر قَسْرًا مآلنا ومصيرنا، فكلّ شيء ينتهي في لحظة وأقل من لحظة، وليس أمامنا إلا أجسادا سجّاها الموت، وغطّتها الأكفان، وتركب الأعناق على النّعش كَرْهًا، وهذا منتهى آمالنا ومنتهى أحلامنا !!!
وهذا أقصى مبتغانا وغاية أطماعنا ومطامحنا!!!
وهذا ما كان لنا من ميراث وتركة!!!
وهذه خاتمة ما كنّا نُساق خلفه ونركض!!!
وهذه المساحة التي ظلّت تسترنا تحت الأرض، تتسع لأجسادنا وتضيق، هي روضة من رياض الجنة ، أو هي حفرة من حفر النار!!!
وحينئذٍ نَنْذعِر وندهش ونصدم، كما لو فطمتنا الدنيا من رضاعها بعد عقود طويلة، ونحن نشهد مشهد الموت قريبا منّا وقد كان بالأمس بعيدًا عنّا، فنَكِعّ راجعين القهقرى، لا نحمل إلا إيابنا إلى منازلنا التي لم تعد منازلنا، بعد أن ودّعنا من ودّعناهم هناك في المقابر حيث لا خيام ولا بيوت ولا منازل، وبعد أن دفنّا أرواحا كانت بالأمس تُشاكِل أرواحنا، هي من دمنا وعرقنا ونبضنا، وبعد أن دفنّا معهم تتمّة تاريخنا وتفاصيل هويتنا، وفصولا من قصصنا وحكاياتنا وذكرياتنا، وبضعة منّا ومن أكبادنا، ومن نزع قلوبنا وضمّات جوارحنا، ومن ولثمات أشواقنا وحنيننا، ومن اختناق أنفاسنا وهي تسلم أرواح أنفاسها، وألسنتنا تلهج بالمناجاة والدعاء لهم، مع كل قطرة من دمنا ودمعنا تسقي كلّ حبَّة من حبّات التراب حين تلقى على أكفانهم، ونسأل الله العلي القدير كما جمعنا بهم في الدنيا على طاعته ومرضاته أن يجمعنا بهم في جنات النعيم على سرر متقابلين ..
ونعود بخطانا البطيئة مقبلين على دنيانا الفانية، بأجساد وأرواح غير تلك الأجساد والأرواح المثقلة التي كانت تركض على الدنيا، وتقبل عليها إقبال العاشقين المجانين، وإقبال السّكارى الثّملين، وإقبال من لن يرحل عنها أبدا .. ونعود بغير القلوب والعقول والجوارح التي كُنّا بها نخفق ونفكر ونتحرّك، وكُنّا نسابق الزمن والمكان كي ندرك ما قُسِم لنا وما لم يُقْسَم لنا، وكي نرضي طمعنا وجشعنا، وفوق الرّضا هل من مزيد ؟!!!
وحينئذٍ نجفل هاربين من أحمال ما كنّا نحمله، ونهاب المكتوب على سطور صحائفنا، ونخشى أوزارنا وخطايانا، ونرجع من هذه الثَّنِية نثني عناننا، ونرجو ما يرجوه المودِّع، والعابر السّبيل في هذه الدّنيا، أن نلقى الله تعالى بوجوهٍ حسنة ناضِرَة، ونُزَفّ إلى الجنان وهو راضٍ عنّا، وأن يختم لنا بحسن الخاتمة ..
وإنّني اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات التي أعدُّها نزفا من نزف الروح الثّكلى، وفيضًا من فيض الخاطر المنتحب الشّاكي، وصيدا من صيد خطراتٍ ووقفاتٍ وتأمُّلاتٍ ألقى بها عليّ سِجاف حزني الشّديد لوفاة زمرة من أحبّتنا، ومن مشايخنا وعلمائنا الأفذاذ، ممن تعلّمنا على أيديهم، وانتفعنا بآثار فضائلهم ومحامدهم، فإنّ فقد العالم ليس كفقد ما سواه من العالمين، وليس فقدًا يناظر فقده من الخلائق في شخصه وسيرته وأثره ..
وإنّ فقد العالم هو فقدٌ لمشارق أنوار علمه، وإيذانٌ بقبض العلم وانتشار الضّلالة بعده، وكثرة الجهل وسَواد الجُهَّال بين الناس، يَضِلّون ويُضِلّون، فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) ..
وهو إيذانٌ بخراب الأرض وهلاك النّاس، ونقص برَكة العلم وثَمرتِه بموت علمائها، وذهاب فقهائها وخِيارِها، وقد صحّت الأخبار من الكتاب والسنة وغيرها أن موت العلماء نقص في الدين، وعلامة لحلول البلاء المبين، مصداقا لقوله جلّ وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ الرعد: 41، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسيرها: <<ذهابُ علمائها وفقهائِها وخيار أهلِها>> . وعن مجاهد قال: <<موتُ العلماء>> .
وعن أنس قال: قال رسول اللَّه - صلّى الله عليه وسَلّم ـ : (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا) .
قال محمد بن عمر بن أحمد السفيري (ت 956 هـ) : <<وقوله:» أن يرفع العلم« ليس المراد برفع العلم محوه من صدور الحُفّاظ وقلوب العلماء، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يهَب العِلم لخلقه ثم ينتزعه منهم، بعد أن تفضَّل عليهم به تعالى الله أن يسترجع ما وهَب من عِلمه الذي يؤدّي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنمّا يكون قبض العِلم بموت العلماء وعدم المتعلّمين، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر عليه الصّلاة والسّلام بقبض الخير كلِّه، ولا ينطق عن الهوى>> .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه ـ : <<موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، ما اختلف الليل والنهار>> .
وقال علي - رضي الله عنه - : <<إن مات العالم ثلم ثلمة في الإسلام ولا يسدها إلا خلف منه>> .
وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: <<هلاك علمائهم>> .
فأعظم الرّزايا هو الرزيّة بموت العلماء، ولا تزال الأمّة وأبناؤها بخير ما بقي العلم موصولا بحبالهم، فيعلّم السّابق اللاحق، والشّاهد الغائب، والمتقدِّم المتأخِّر ، والسّلف الخلف ..
وقد عبَّر عن عِظم هذه البلية أحمد بن غزال فقال:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالِمُها متى يَمتْ عالم منها يَمُت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ
وقال الدميري:
إِذا مَا مَاتَ ذُو علم وتقوى فقد ثلمتْ من الْإِسْلَام ثُلمهْ
وَمَوْتُ الْعَادِل الْملك المرجى حَكِيمِ الْحق منقصةٌ ووصمه
وَمَوْتُ الصَّالح المَرْضِي نقص فَفِي مرآه لِلْإِسْلَامِ نسمه
وَمَوْت الْفَارِس الضرغام ضعفٌ فكم شهِدت لَهُ فِي النَّصْر عزمه
وَمَوْت فَتى كثيرِ الْجُود مَحْلٌ فَإِن بَقَاءَهُ خِصب ونعمه
فحسبك خَمْسَةٌ تبْكي عَلَيْهِمْ وَمَوْت الْغَيْر تَخْفيف ورحمه
واليوم نبتلى برزيّة موت عالم من علمائنا المغاربة الأفذاذ النّوابغ، وتغيب شمسٌ من شموسه ومشارق أنواره، ويَخْبو مصباحٌ زاهِرٌ من مصابيحه، وسراجٌ وهّاجٌ من سُرُجِه، هو شيخنا الأديب الأريب، والمحدِّث والفقيه المحقِّق، والباحث المدقّق، العَلاّمة الكبير أبو أُوَيْسٍ، مُحَمَّد بْنُ الأَمينِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بُوخُبْزَةَ الحَسَنِيُّ التّطْوانِيُّ الْـمَغْرِبِيُّ (1351 - 1441 هـ) (1932- 2020م)، من أَعيان رجال العلم وعلمائها، ومن منابر الثقافة العربية والإسلامية، ومن أعلامها الفطاحل الأمجاد ..
واليوم إنّي أعزّي نفسي، وأعزّي الباحثين وطلاب العلم، وأعزّي كلّ من أحبّ هذا العالم وقصد مجالسه ولازمه، وكلّ من تلقّى عنه وتتلمذ على يده، وأخذ عنه واغترف من حياض علمه، وانتفع بدروسه، وسماع خطبه ومحاضراته، وكلّ من استفاد من كتبه ومؤلفاته وتحقيقاته ومراجعاته، أو من قابله وحاوره وناقشه، أو جالسه وسمع عنه وحادثه، أو ناوله وقرأ عليه وأجازه ..
وأعزّي أهل العلم قاطبة من داخل المغرب وخارجه في وفاة هذا العالم المغربي الجليل، ولا نملك ما نعزّي به أنفسنا إلا الصبر الجميل والدّعاء له :
فاللهمّ ارحمه برحمتك الواسعة، وارحمه فوق الأرض و تحت الأرض ويوم العرض عليك، واللهمّ قِهِ عذابك يوم تبعث عبادك، ونوِّر له قبره و آنس وحشته ووسِّع مدخله، واجعل قبره روضة من رياض الجنةلا حفرة من حفر النار، واغفر له وارحمه واعف عنه وأكرم نزله، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، واسقه من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا يظمأ بعدها أبداً ..
وإنّ العين لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .