الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ 30 جماد الآخرة 1434هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1434/06/28 - 2013/05/08 15:18PM
الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ 30 جماد الآخرة 1434هـ
الْحَمْدُ للهِ أَعْلَى شَأْنَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاء ، وَجَعَلَ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ أَجَلِّ الأَعْمَالِ وَأَعْظَمِ الْقُرُبَات ، فَقَالَ تَعَالَى(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ) وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , حَثَّنَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَأَمَرَنَا بِهِ ، فَقَالَ (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) فَصَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِين ، أَقْمَارِ الدُّجَى وَمَصَابِيحِ الْهُدَى وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ سِيرَةٌ مُخْتَصَرَةٌ لِعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ وَفَقِيهٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ , مَلأَ اللهُ بِهِ الدُّنْيَا عِلْمَاً ، وَتَعَجَّبَ مِنْ فِقْهِهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ الْقَاصِي وَالدَّانِي ، وَاسْتَفَادَ مِنْ بَحْرِ عُلُومِهِ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ
, إِنَّهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعُثَيْمِينُ رَحِمَهُ اللهُ , مِنْ قَبِيلَةِ الْوهَبَةِ مِنْ بَنِي تَمِيم , وُلِدَ فِي لَيْلَةِ 27 مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ 1347هـ فِي مَدِينَةِ عُنَيْزَةَ ، إِحْدَى مُدُنِ الْقَصِيمِ ، وَنَشَأَ نَشْأَةً صَالِحَةً طَيِّبَةً , تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ فِي الْكُتَّابِ ، وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلُيَمَان آل دَامِغْ ، فَحَفِظَ الْقُرْآنَ فِي سِنِّ الْعَاشِرَةِ , وَتَتَلْمَذَ عَلَى الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَاصِرِ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ ، وَهُوَ شَيْخُهُ الأَوَّلُ إِذْ أَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ وَتَأَثَّرَ بِمَنْهَجِهِ وَتَأْصِيلِهِ وَاتِّبَاعِهِ لِلدَّلِيلِ وَطَرِيقَةِ تَدْرِيسِهِ .
وَلَمَّا فُتِحَ مَعْهَدُ الرِّيَاضِ الْعِلْمِيُّ اسْتَأْذَنَ شَيْخَهُ ابْنَ سَعْدِيٍّ فِي الالْتِحَاقِ بِهِ ، فَدَرَسَ فِيهِ ، وَكَانَتْ الدُّرَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ الابْتِدَائِيِّ وَقَبْلَ الْكُلِّيَّةِ , وَمُدَّتُهَا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نِظَامُ الْقَفْزِ ، وَهَوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ اسْتِعْدَادٌ لِلتَّقَدُّمِ فِي الدِّرَاسَةِ ، فَإِنَّهُ تُتَاحُ لَهُ الْفُرْصَةُ فِي الْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ فَيَدْرُسُ مُقَرَّرَاتِ السَّنَةِ التِي بَعْدَ سَنَتِهِ التِي انْتَهَى مِنْهَا وَيَخْتَبِرَ فِيهَا , فَاخْتَصَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ الْمَعْهَدَ فِي سَنَتَيْنِ , ثُمَّ لَمَّا فُتِحَ الْمَعْهَدُ الْعِلْمِيُّ بِعُنَيْزَةَ سَنَةَ 1374هـ اُخْتِيرَ مُعَلِّمَاً فِيهِ ، مَعَ اسْتِمْرَارِهِ فِي حُضُورِ دُرُوسِ شَيْخِهِ ابْنِ سَعْدِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ ، ثُمَّ لَمَا فُتِحَتْ كُلَّيَّةُ الشَّرِيعَةِ بِالرِّيَاضِ انْتَسَبَ فِيهَا وَأَخَذَ شَهَادَتَهَا بِجَدَارَةٍ , وَبَعْدَ افْتِتَاحِ كُلِيَّةِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ بِالْقَصِيمِ انْتَقَلَ مِنَ التَّدْرِيسِ فِي الْمَعْهَدِ إِلَيْهَا ، وَاسْتَمَرَّ فِي التَّدْرِيسِ فِيهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ .
وَلَمَّا تُوفِّيَ شَيْخُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِيًّ سَنَةَ 1376هـ تَوَلَّى الإِمَامَةَ وَالْخَطَابَةَ وَالتَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِعُنَيْزَةَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَوفَّاهُ اللهُ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَحِينَ كَانَ الشَّيْخُ الْعُثَيْمِينُ رَحِمَهُ اللهُ يَدْرُسُ فِي الْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ بِالرِّيَاضِ الْتَحَقَ بِدُرُوسِ سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ بَازٍ رَحَمِهُ اللهُ , بِالإِضَافَةِ لِتَدِريسِهِ لَهَ فِي الْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ , وَلَمَّا عَرَفَهُ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ اعْتَنَى بِهِ وَخَصَّهُ بِدُرُوسٍ زَائَدَةٍ عَلَى مَا كَانَ يُلْقِيهِ لِعُمُومِ الطُّلابِ , وَذَلِكَ لِمَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ وَقُوَّةِ الْفَهْمِ وَالنَّبَاهَة , فَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ ابْنِ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَبَعْضِ رَسَائِلِ شَيْخِ الإِسْلام ِابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ وَانْتَفَعَ بِهِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ , وَالنَّظَرِ فِي آرَاءِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَهَا , وَلَمْ يَزَلْ مَحَلَّ تَقْدِيرٍ وَإِكْبَارٍ مِنَ الشَّيْخِ ابْنِ بَازٍ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُمَا اللهُ .

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ الذِينَ دَرَسَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَعْهِدِ الْعِلْمِيِّ وَاسْتَفَادَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْمُفَسِّرُ الأُصُولِيُّ : مُحَمَّدُ الأَمِينُ الشَّنْقِيطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ صَاحِبُ تَفْسِيرِ أَضْوَاءِ الْبَيَانِ . يَقُولُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ عَنْ أَوَّلِ لِقَاءٍ جَمَعَهُ بِالشَّنْقِيطِيِّ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي قَاعَةِ الْفَصْلِ فِي الْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَدَوِيُّ الْهَيْئَةِ أَسْمُرُ الْبَشْرَةِ رَثُّ الثِّيَابِ , وَجَلَسَ عَلَى مَقْعدِ التَّدْرِيسِ , فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : الآنَ أَتْرُكُ شَيْخَنَا ابْنَ سَعْدِيٍّ وَعِلْمَهُ الْوَاسِعَ وَطِيبَتَهُ وَأَرْيَحِيَّتَهُ وَسَمَاحَةَ نَفْسِهِ , مِنْ أَجْلِ أَنْ أَتَعَلَّمَ عِنْدَ هَذَا الإِفْرِيقِيِّ الْبَدَوِيِّ ؟
يَا ضَيْعَةَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ ! ثُمَّ إِنَّ هَذَا الأَعْرَابِيَّ بَدَأَ فِي الْكَلامِ , فَحَمِدَ اللهَ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكَلَّمَ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ وَصُنُوفِهِ مِنْ حِفْظِهِ بِلا كِتَابٍ , فَشَرَّقَ وَغَرَّبَ وَتَلا الآيَاتِ وَنَقَلَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَخِلافَاتِهِمْ ، قَدِيمَهَا وَحَدِيثَهَا , وَذَكَرَ الأَحَادِيثَ بِأَسَانِيدِهَا وَشَوَاهِدِهَا وَالْحُكْمَ عَلَيْهَا , وَرَوَى الأَشْعَارَ وَالشَّوَاهِدَ وَالنُّصُوصَ الطَّوِيلَةَ الْهَائِلَةَ , وَتَفَجَّرَتْ أَنْهَارُ الْعُلُومِ مِنْ بَيْنِ جَنَبَاتِهِ , وَتَدَفَّقَتْ مِنْ لِسَانِهِ كَالسَّيْلِ الْهَادِرِ عُلُومٌ وَأَقْوَالٌ لا يَكَادُ يَحْوِيهَا صَدْرُ عَالِمٍ لَقِينَاهُ أَوْ عَاصَرْنَاهُ ! فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ أَيَّمَا فَرَح , وَشَكَرْتُ اللهُ تَعَالَى أَنْ تَمَكَّنْتُ مِنْ لُقْيَا هَذَا الْجَبَلِ الأَشَمِّ وَالْبَحْرِ الزَّاخِرِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَّا بَذْلُ الشَّيْخِ الْعُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ للْعِلْمِ وَقِيَامُهُ بِالدَّعْوَةِ فَهُوَ مُتَنَوِّعٌ وَمُتَعَدُّدٌ فِي جَوَانِبَ كَثِيرَةٍ , وَهَكَذَا هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْثُرُ خَيْرُهُمْ وَنَفْعُهُمْ لِلنَّاسِ لِمَا حَصَّلُوا مِنَ الْعِلْمِ , وَيَصِيرُونَ كَالْغَيْثِ حَيْثُ مَا حَلَّ هَطَلَ .
فَكَاَن رَحِمَهُ اللهُ يَبْذُلُ الْعِلْمَ عَنْ طَرِيقِ التَّدْرِيسِ ، وَعَنْ طَرِيقِ الْمُحَاضَرَاتِ فِي الْمُدُنِ التِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهَا دَاخِلَ الْمَمْلَكَةِ , وكَانَ يُلْقِي مُحَاضَرَاتٍ عَنْ طَرِيقِ الْهَاتِفِ فِي أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا وَغَيْرِهِمَا , وَيَقُومُ بِالتَّدْرِيسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، لا سِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، ويشارك فِي تَوْعِيَة الحُجَّاجِ في مَوَاسِمِ الْحَجِّ بِالْفَتَاوَى ، وَإِلْقَاءِ الدُّرُوسِ وَالْمُحَاضَرَاتِ .
وَمِنْ مَجَالاتِ دَعْوَتِهِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ : قِيَامُهُ بِالْفَتَاوَى عَلَى مَا يَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَسْئِلَةٍ مِنْ دَاخِلِ الْمَمْلَكَةِ وَخَارِجِهَا ، سَوَاءً بِالْمُرَاسَلَةِ أَوِ الْمُقَابَلَةِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ الْهَاتِفِ ، وَقَدْ خَصَّصَ وَقْتَاً مُعَيَّنَاً لِلإفْتَاءِ عَنْ طَرِيقِ الْهَاتِفِ ، وَكَانَ يُواظِبُ عَلَى الإِفْتَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ عُنَيْزَةَ ، وَإِذَا سَافَرَ جَعَلَ تَسْجِيلاً عَلَى الْهَاتِفِ يُرْشِدُ إِلَى رَقَمٍ فِي الْبَلَدِ الذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ .
وَمِنْ مَجَالاتِ تَعْلِيمِهِ وَدَعْوَتِهِ : مُشَارَكَتُهُ الْكَثِيرَةُ الْمُفِيدَةُ فِي الإِذَاعَةِ ، فَلَهُ بَرَامِجُ ثَابِتَةٌ فِي الإِذَاعَةِ ، هِيَ : بَرْنَامَجُ ( نُورٌ عَلَى الدَّرْبِ ) وَبَرْنَامَجُ (سُؤَالٌ عَلَى الْهَاتِفِ ) وَبَرْنَامَجُ ( مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ) وَلَهُ أَحَادِيثُ فِي الإِذَاعَةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي مَوْضَوعَاتٍ مُتَنَوِّعَةٌ .

وَأَمَّا دُرُوسُهُ الْعِلْمِيَّةُ الْمُسَجَّلَةُ فِي الأَشْرِطَةِ , وَمُؤَلَّفَاتُهُ الْمَكْتُوبَةُ فَقَدْ سَارَتْ مَسِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاسْتَفَادَ مِنْهَا حَتَّى الْعُلَمَاءُ الْمُعَاصِرُونَ لِلشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ , بَلْ الآنَ قَدْ جُعِلَ لَهُ مَحَطَّةٌ تِلِفِزْيُونِيَّةٌ تَبُثُّ الْمَوْرُوثَ الْعِلْمِيَّ الذِي خَلَّفَهُ الشَّيخُ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْمُحَاضَرَاتِ وَغْيَرِهَا إِلِى أَنْحَاءِ العَالَم , بَلْ إِنَّ كَثِيرَاً مِنَ الْجَامِعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ كَلَّفَتْ طُلابَّهَا بِكِتَابَةِ الرَّسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ فِي بَعْضِ عُلُومِ الشَّيْخِ وَمَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ طُرُقِ الاسْتِنْبَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ! وَفِي الْعَامِ الْمَاضِي تَمَّ إِحْصَاءُ هَذِهِ الرَّسَائِلِ فَزَادَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ رِسَالَةً مَا بَيْنَ مَاجِسْتِير وَدُكْتُورَاة , وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْزَلَةِ الْعَالِيَةِ التِي بَلَغَهَا الشَّيْخُ حَتَّى صَارَ مَحَلَّ اسْتِفَادَةِ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي مَجَالاتٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ وَلِجَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهِمْ وَالْمَيِّتِينَ , أَقُولُ قَوْلِي هَذَا , وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ على نبيِّنَا محمدٍ , وعلى آلِه وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ تَلامِيذَ الشَّيْخِ الْعُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ كَثِيرُونَ جِدَّاً ، فَأَخَذَوا عَنْهُ الْعِلْمَ فِي مَعْهَدِ عُنَيْزَةَ الْعِلْمِيِّ ، وَكُلِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ بِالْقَصِيمِ ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِعُنَيْزَةَ ، فَتَدْرِيسُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مُدَّتُهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً ، وَتَدْرِيسُهُ فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّةِ مُدَّتُهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً .
وَكَانَ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الطَّلَبَةِ مِنْ دَاخِلِ الْمَمْلَكَةِ وَخَارِجِهَا يَرْتَحِلُونَ إِلَيْهِ لِتَلَقِّي الْعِلْمَ عَنْهُ لا سِيَّمَا فِي الصَّيْفِ ، حَيْثُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ دُرُوسٌ كَثِيرَةٌ ، فِي الصَّبَاحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَلا يَنْقَطِعُ عَنِ التَّدْرِيسِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ السَّنَةِ .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : بَلْ إِنَّ تَتَلْمُذَ النَّاسِ عَلَى عِلْمِ الشَّيْخِ لَيْسَ بِالْجُلُوسِ عِنْدَهُ فَقَطْ بَلْ امْتَدَّ حَتَّى قَرَأُوا كُتُبَهَ وَسَمْعُوا دُرُوسَهُ مُسَجَّلَةً فَتَأَثَّرُوا بِهَا وَاسْتَفَادُوا مِنْهَا .
يَقُولُ أَحَدُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ : اجْتَمْعَتُ يَوْمَا فِي الْحَرَمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَدَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأَفَارِقَةِ مِنْ نَيْجِيرِيَا وَالذِينَ تَحَلَّقُوا لاسْتِمَاعِ دَرْسِ شَيْخِنَا رحَمِهُ اللهُ فِي الْحَرَمِ , وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَبْكِي بِحُرْقَةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ بِالدُّعَاءِ بِكَلامٍ لا أَفْهَمُهُ !! فَسَأَلْتُهُمْ : لِمَاذَا يَبْكُونَ ؟ فَقَالُوا : كُنَّا مَجْمُوعَةً مِنَ النَّصَارَى أَهْدَى إِلَيْنَا أَحَدُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي نَيْجِيرِيَا شَرِيطَاً لِلشَّيْخِ مُحَمَّد فِي الْعَقِيدَةِ , فَأَسْلَمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّريِطِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَابَّاً , وَمِنْهُمْ هَؤُلاءِ الْفِتْيَةِ الذِينَ يَبْكُونَ فَرَحَاً لِرُؤْيَتِهِمَ لِلشَّيْخِ وَيَدْعُونَ اللهَ لَهُ , فَالْفَضْلُ لَهُ بَعْدَ اللهِ فِي إِسْلامِهِمْ !
وَمَرَّةً زَارَتْ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الأَمْرِيكَانِ السُّودِ شَيْخَنَا فِي الْحَجِّ , وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ الْعَرَبِيَّةَ بِفَصَاحَةٍ وَكَأَنَّهُمْ عَرَبٌ أَقْحَاحٌ ؟ قَالُوا لِلشَّيْخِ : نَحْنُ تَلامِيذُكَ !! فَقَالَ : لا أَذْكُرُ أَنَّكُمْ دَرَسْتُمْ عِنْدِي ! فَقَالُوا : يَا شَيْخُ لَقَدْ سَمِعْنَا شُرُوحَكَ مِنَ الأَشْرِطَةِ فِي الْوَاسِطِيَّةِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهَا فَنَحْنُ نَعْتَبِرُ أَنْفُسَنَا تَتَلْمَذْنَا عَلَيْكَ !
وَيَقُولُ أَحَدُ مُرَافِقِي الشَّيْخِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ : فِي عَامِ 1416 هـ كُنْتُ مُرَافِقَاً لِسَمَاحَتِهِ وَهُوَ يَزُورُ الْحُجَّاجَ كَعَادَتِهِ كُلَّ سَنَةٍ ، يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ وَيُجِيبُ عَلَى أَسْئِلَتِهِمْ فِي مَطَارِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِجِدَّةَ ، فَدَخَلْنَا صَالَةَ اسْتِقْبَالٍ كَانَ فِيهَا حُجَّاجٌ مِنْ جُمْهُورِيَّةٍ مِنَ الْجُمْهُورِيَّاتِ الرُّوسِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ ، فَسَأَلَ الشَّيْخُ إِنْ كَانَ مَعَهُمْ مُتَرْجِمٌ يُتَرْجِمُ كَلامُهُ إِلَيْهِمْ , فَلَمْ نَجِدْ إِلَّا شَابَّاً سُعُودِيَّاً فِي اسْتِقْبَالِهِمْ يَتَحَدَّثُ بِلِسَانِهِمْ ، فَطَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلامَ الشَّيْخِ ، فَوَافَقَ وَأَخَذَ الشَّيْخُ يَتَحَدَّثُ وَالشَّابُّ يُتُرْجِمُ ، وَفِي أثناء حديثه أأضثصيومكشسبوشسكبوزشسظأَثْنَاءِ حَدِيثِهِ دَخَلَ شَابٌّ يَرْكُضُ عَرَفْنَا فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ مُرْشِدُ الْحَمْلَةِ ، وَإِذَا بِهِ يَتَحَدَّثُ الْعَرَبِيَّةَ بِطَلاقَةٍ ، وَطَلَبَ أَنْ يَقُومُ بِالتَّرْجَمَةِ ، وَأَخَذَ مُكَبِّرَ الصَّوْتِ وَهُوَ لا يَعْلَمُ مَنِ الشَّيْخُ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الشَّيْخُ مِنْ حَدِيثِهِ ، جَاءَ لِيُسَلِّمَ فَقُلْنَا لَهُ : هَذَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثَيْمِينَ ! فَاسْتَغْرَبَنا مِنْ مَعْرِفَتِهِ لِلْشَّيْخِ , وَإِذَا بِهِ يَضُمُّ الشَّيْخَ بِذِرَاعَيْهِ ، وَأَخَذَتِ الدُّمُوعُ تَنْهَالُ مِنْ عَيْنَيْهِ , وَهُوَ يَقُولُ : الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِين ! وَيُكَرِّرُ اسْمَهُ فَرَحَاً , ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ أَخَذَ مُكَبَّرَ الصَّوْتِ ، وَنَادَى فِي أَفْرَادِ الْحَمْلَةِ بِكَلامٍ لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ سِوَى تَرْدِيدِهِ لاسْمِ الشَّيْخِ ، وَكَانَتِ الْمُفَاجَأَةُ أَكْبَرَ عِنْدَمَا أَخَذَ أَفْرَادُ الْحَمْلَةِ يَبْكُونَ وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَهُمْ يُرَدِّدُونَ اسْمَ الشَّيْخِ الْعُثَيْمِين ، وَقَالَ الشَّابُّ : يَا شَيْخُ كُلُّهُمْ طُلَّابُكَ ، هَؤُلاءِ كَانُوا يَدْرُسُونَ كُتُبَكَ فِي الأَقْبِيَةِ تَحْتَ الأَرْضِ لَمَّا كَانَ تَعْلِيمُ الإِسْلامِ عِنْدَنَا مَمْنُوعَاً ، وَهُمْ فِي شَوْقٍ لِلسَّلامِ عَلَيْكَ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْ الشَّيْخِ يُقَبِّلُونَ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَهُمْ يَبْكُونَ وَيُرَدِّدُونَ اسْمَهُ !!! فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَوَاقِفَ تَأْثِيرَاً ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَداً بَقِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا وَبَكَى تَأَثُّرَا بِمَا رَأَى وَمَا سَمِعَ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ : خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ نُخَصِّصُهَا بِإِذْنِ اللهِ عَنِ الصِّفَاتِ التِي اتَّصَفَ بِهَا ذَلِكَ الْعَالِمُ , وَبَعْضِ مَوَاِقفِهِ الْمُؤَثِّرَةِ عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَنَا وَإِيَّاكُمْ بِسِيَرِ الصَّالحِينَ وَصِفَاتِ الْمُتَّقِينَ .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ , اللَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُبُورَهُمْ وَاغْفِرْ لِلأَحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُورَهُمْ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُلَمِائِنَا وَأَئِمَّتِنَا وَارْفَعْ دَرَجاَتِهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَارَبَّ العَالَمِينَ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلشَّيْخِ مُحَمِّدِ الْعُثَيْمِينَ وَلِوَالِدَيْهِ وَأَوْلادِهِ وَمَشَايِخِهِ وَطُلَّابِهِ وَأَحْبَابِهِ , اللَّهُمَّ عَوِّضْنَا عَنْ مَوْتِ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ وَيَحْمِلُ عِلْمَهُمْ وَدَعْوَتَهَمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
المرفقات

الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ 30 جماد الآخرة 1434هـ.doc

الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ 30 جماد الآخرة 1434هـ.doc

المشاهدات 2224 | التعليقات 2

جزاك الله كل خير


إِنِّي تَذَكَّرْتُ وَالذِّكْرَى مُؤَرِّقَةٌ .... شيخاً جليلاً قد فقدناه
جزاك الله خير ياشيخ محمد
ورحم الله شيخنا وغفر له وأسكنه فسيح جناته و جميع موتى المسلمين