العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة (2/3)

عبدالله البصري
1431/07/26 - 2010/07/08 09:15AM
د . سعد بن مطر العتيبي

في المقالة الأولى كان الحديث عن شيء من زهد الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله، وعن شيء من عبادته.. وكانت تحت عنوان (العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة)..

وفي هذه الثانية سيكون الحديث – إن شاء الله تعالى - عن شيء من علم الشيخ، ويمكن أن توضع تحت عنوان: (العلامة ابن غديان.. شيخ النقل والعقل والرأي والفكر)..

وقد وجدتني مضطراً لجعل هذا الموضوع في مقالتين، ثانية، وثالثة؛ إذ وجدت الحديث قد تجاوز ضعف هذه المقالة، ولا سيما بعد رسالة وردتني من بعض من يعز عندي، من محبي الشيخ رحمه الله.

وحتى تتصل المقالات الثلاث، أتمها على تسلسل فقراتها..

العلامة ابن غديان.. شيخ النقل والعقل والرأي والفكر

(2/3)

سبق الحديث في الفقرة السابقة عن جانب الزهد والعبادة عند الشيخ العلامة عبد الله الغديان رحمه الله.. ولقد كنت ألمحه في الدرس متأمِّلا حالَه! وأرقب شيئا من صفاته، ولن أبالغ إن قلت: إن من يقرأ واقع السيرة العلمية والعملية للشيخ رحمه الله، يجد فيها معالم صفات قلّ أن تجتمع في عالم واحد؛ ففي سيرته من أصالة وحذر علماء نجد، وجَلَد وتحقيق علماء العراق، ولغة وطرح علماء المغرب، وتنسّك وعبادة علماء الشام، وزهد علماء اليمن، وموسوعية علماء مصر – ما لا يكاد يخفى على من له به اتصال.

ولمَّا طلب الإخوة في (قناة دليل) حديثاً عن الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله - وذلك مع فضيلة الشيخ / د. فهد الجهني سلمه الله - وجدتني أُردِّد بثقة عجيبة، عبارة تراثية كنت أستغربها لقربها من المبالغة، وهي قول بعض أهل التراجم عن بعض العلماء: " وحيد دهره، وفريد عصره "! وربما كان من أسباب ذلك أنَّ من المترجِمِين من يخونه التعبير عن كل ما يعرف عن شيخه، حتى لا يجد بدّاً من التعبير بهذه العبارة المأثورة عنهم.. ولا أظن أحداً يعرف الشيخ عن كثب، لا يجد لهذه العبارة مصداقية في سيرة هذا العلم، في هذا العصر.. وقد وقفت بعد إعداد هذه المقالة على مقالة بعنوان (زكاء يتلظّى ذكاء)، راسلني بها فضيلة الشيخ د.عبد الوهاب الطريري سلمه الله، فوجدته قد رقم ذات المعنى واصفا شخصية الشيخ العلمية بقوله: " كان الشيخ شخصية علمية استثنائية في النمط العلمي المتتابع، ولم يوجد له نظير فيالشخصيات العلمية المعروفة حيث اختط طريقاً غير مسلوك؛ فقد كان النمط العلمي خلالالعقود المتعاقبة قبله معتنياً بالعقيدة والفقه ومشاركاً في غيرها، أمَّاالشيخ فكان إضافة نوعية من حيث التعمق في الأصول والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة،مع الإتقان لعلوم المنطق والجدل ونحوها من العلوم التي لم تكن رائجة في المحيطالعلمي آنذاك ".

وعودا إلى أصل الموضوع أقول:
3) وأمَّا العلم؛ فإنَّ علم الشيخ رحمه الله علم واسع نافع، يعمِّق الإيمان، ويحفظ الكيان، جمعَ فيه بين النقل المعصوم والعقل المصون؛ فأثمر درء التعارض، و دقّة الإفصاح عن الرأي وبيان الفكر؛ حتى إنَّك تجد وصف (عالم) ينطبق عليه انطباقا يذكّرك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء)؛ ويذكرني بحكاية أوردها العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، مبينا أنها مما مرّ به في بعض الكتب قديما، قال رحمه الله: " يُذكر أنَّ الشيطان - أبا الشياطين - الذي يَجعل له كرسياً على البحر، ويبث جنوده وسراياه في إضلال الخلق، قالت له ذريته: لم تفرح بموت العالم أكثر مما تفرح بموت العابد ؟ قال: لأن العالم يرشد الناس ويهديهم ويدلهم، ولا أتمكن من إضلاله، لكن العابد تنطلي عليه الأمور!، قالوا: كيف ذلك ؟ قال: أنا أختبرهم لكم، فأرسل من جنوده من يقول للعابد: هل يستطيع اللهُ أن يجعل السمواتِ والأرضَ في جوف بيضة ؟، والعابد يعبد الله ليل نهار، ففكر وقال: لا يستطيع!!!، فرجع المندوب وقال: إنه يقول لا يستطيع، قال: انظروا الآن كفر الرجل وهو لا يدري!، فأرسله إلى العالم وقال له: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في بيضة ؟ قال العالم: نعم يستطيع ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾، لو قال للسموات كوني في جوف بيضة كانت، إما أن تكبر البيضة أو تصغر السموات والأرض!!.. فرجع إلى شيطانه وأخبره بقول العالم، قال: انظر!!.. هذا تخلص وذاك المسكين كفر!! ".

لقد كانت منهجية الشيخ عبد الله الغديان - رحمه الله - تقوم على بناء الشخصية العلمية، التي تملك أدوات النظر العلمي، وتمارس الدّربة عليه من خلال التطبيق العملي، بربط المسائل الفقهية بقواعد تأصيلها فقهاً، فتُرِيكَ من انتظام الفقه في المؤلفات الفقهية ما يُدهِش؛ وبربط القواعد الأصولية وقواعد الاستدلال بأدلة نصوص الشريعة ما يؤكد انتماءها للثوابت التي تحفظ النصوص من عبث العابثين؛ فتتهاوى أمام طالب العلم كلُّ دعاوى إعادة قراءة النصوص الشرعية على غير تلك القواعد، وتكشف لك سرّ ورطة بعض العقول أمام النصوص، وتردّ الورطة إلى تشابك ضعف التحصيل مع عقولهم، حين غاب عنها التأصيل..

وقد جرى ذكر الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله وعنايته بعلم أصول الفقه في مجلسٍ منذ ليلتين، فحكى لنا أستاذنا المفضال وشيخنا الجليل د. منير البياتي - حفظه الله - بعض خبره مع دعاة تجديد الفقه في بعض الجامعات الإسلامية ومعاناته منهم، وختم حديثه بقوله: قواعد الاستدلال الأصولية تحفظ الفقيه من الزلل في فهمه للنصوص الشرعية، كما تحفظ قواعد النحو المتحدث من اللحن في كلامه.

ولا أظنّ متابعا للحراك الفكري إلا واجداً عند الشيخ جديداً في تفنيد مهالك الفكر، ومكتشفاً في علم الأوائل من الأجوبة ما يشفي غليل أولي الذكر، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه شبهة وجوابا.. ولعلّ هذا من أسرار جاذبية دروس الشيخ لدى طلابه.. تلك الجاذبية العجيبة التي عبّر عنها أحد كبار تلاميذ الشيخ الملازمين له، فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل - حفظه الله - حين وصف دروس الشيخ في قوله: "من العلماء من تتلقى عنه حتى تأتي المرحلة التي ترى أنك لا تجد لديه مايمكن اعتباره إضافة على ما حصلته منه، إلا أنه وعلى مدى أكثر من ثلاثين سنة من تلقيالعلم عنه رحمه الله، فإنك تجد نفسك لا تستغني عنه وكأنَّ علمه رحمه الله ليس له غايةتنتهي إليها".

لقد احترت كثيراً من أين أبدأ في الحديث حول علم الشيخ رحمه الله! فمنهجية الشيخ العلمية قد أوضح معالمها الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل حفظه الله، وذلك في مقالته القيمة: "من مآثر العلامة ابن غديان وصفاته العلمية" لذا رأيت أن أكتفي بالإحالة إليها، في بيان تلك المعالم، وأن أحصر حديثي في محاولة التوقف عند خواطر من وحي ما يسرّ الله لي حضوره من الدروس العلمية ذاتها، وشيءٍ من فوائدها ومناراتها.. وذلك في الفقرات التالية:

أولاً: تدريس الشيخ في المعهد العالي للقضاء:
ما أحسنها مفاجأة! ويا لها من فرحة، حين وجدنا ذكر الشيخ (الغديان) في جدول اليوم الدراسي في المعهد.. هما محاضرتان متتاليتان في مقرر (القواعد الفقهية)، يجتمع فيها للشيخ طلاب القسمين: قسم الفقه المقارن، وقسم السياسة الشرعية، شأن كبار العلماء الذين يدرِّسون في المعهد العالي آنذاك؛ وقد تكرر ذلك في السنة الثانية التي كان يدرسنا فيها مقرر (مقاصد الشريعة).

وكانت أعداد الطلاب حينها أعداداً معقولة، قريبة من المعتاد في الدراسات العليا في الجامعات الأخرى، فقد كنَّا نجتمع في قاعة دراسية واحدة بحجم فصل دراسي في المدارس المتوسطة (الإعدادية)! فيحاضرنا الشيخ – رحمه الله - بعد أن يتم تحضير الطلاب من قبل أحد الزملاء وأحيانا من قبل بعض موظفي شؤون الطلاب أو مدير شؤون الطلاب حينها أبي محمد سفر آل شبر سلمه الله، الذي كان يقدّر أهل العلم الكبار تقدير الرجال الأوائل.. وأبو محمد من الشخصيات التي لا يمكن الحديث عن تاريخ تلك المرحلة دون أن يكون حاضراً في كل مشاهدها؛ فقد كان من الموظفين الذين يرون أداء الوظيفة أمانة، والإخلاص فيها ديانة؛ فجزاه الله عنا خيرا.

وكان الشيخ عبد الله رحمه الله يعتمد في تدريسه (القواعد الفقهية) كتباً من المذاهب الأربعة؛ لنعرف القواعد المتفق عليها من القواعد المختلف فيها في مذاهب الأئمة، إضافة إلى معرفة الفروق بين صيغ القواعد عند كل مذهب، كما كان من أهدافه التي يصرِّح بها: الدربة على القراءة الصحيحة لهذه الكتب وما في معناها.

والكتب الرئيسة التي كان يفرضها الشيخ علينا: (الأشباه والنظائر) لابن نجيم الحنفي، و(الفروق) للقرافي المالكي، و(الأشباه والنظائر) للسيوطي الشافعي، و(القواعد) لابن رجب الحنبلي؛ ينتقي من كلٍّ منها أهم القواعد، مع جملة من القواعد من كل الأبواب، يشرح ما يحتاج منها إلى شرح، و يطالبنا بالباقي دون شرح منه؛ شأن الدراسات العليا.

كما كان يكلفنا أثناء الدراسة بأبحاث من نوع خاص؛ فتعليمه لا ينفك عن كتاب، وتكليفاته لنا لا تنفك عن كتاب! ويمكن أن يوصف تكليفه بالتطبيقات الفقهية للقواعد الفقهية؛ إذ كان يُقسِّم كتب الشروح الفقهية المشهورة في المذاهب بين جميع الطلاب، يكون الكتاب الواحد بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر بحسب حجم الكتاب - وكان نصيبي الجزء الثاني من كتاب (المهذب، للعلامة الشيرازي) وهو كتاب لوصول نسخته الوحيدة إلينا قصة، فبقية نسخه أحرقها المؤلف!

أمَّا المطلوب منّا، فهو: قراءة الكتاب، من خلال مشروع قراءة، يُلزِمنا فيه بجمع كل ما يمرّ بنا من القواعد والضوابط الفقهية، مع ذكر المسألة التي عُلل حكمها بالقاعدة أو الضابط، والتفريق بين القواعد والضوابط؛ وتقوم فكرة هذا الطلب على حقيقة أفادها الشيخ رحمه الله، وصرّح لنا بها في أكثر من درس، وهي: أنَّ كتب الشروح الفقهية مظنّة القواعد والضوابط الفقهية، فالفقهاء يذكرون – عادة – في شروحهم: التعليل بالقواعد والضوابط الفقهية للمسائل، بعد ذكرهم الأدلةَ النصية لها.

وأمَّا مقرّر (علم المقاصد) فكان يشرح فيه كتابين رئيسين هما: (الموافقات للشاطبي) color=#000080]قسم المقاصد[/color، وكتاب (مقاصد الشريعة) للطاهر ابن عاشور. مع توضيحات مهمة لما يعرض من المسائل، وكان يتوقف عند مواطن الإشكالات، ولا سيما ما اشتهر منها بين الناس مع عدم دقته، كقول من يقول: إنَّ الطوفي يقدم المصلحة على النصّ!

وكان لدرس الشيخ رحمه الله في المعهد العالي مذاق خاص وجاذبية هائلة؛ فلا يستطيع الطالب الجاد التفريط في درسه؛ لما يجده من فوائد، ولفتات مهمّة، قلَّ أن يجدها عند غيره إن هو وجدها.

ولمَّا قدّر لي – بعد ذلك - أن أعمل في لجان الامتحانات، وكان الشيخ رحمه الله لا يزال أحد أهم الشيوخ الذين يدرِّسون في المعهد، كنت أُسرّ كثيراً حين أُنتدب لتسليمه أجوبة الطلاب لتصحيحها، وذلك في مدينة الطائف؛ فقد كان تسليمها إليه واستلامها منه، فرصة للقاء به والجلوس بين يديه؛ بل كنت أحيانا أذهب لاستلامها منه مسافرا من الرياض إلى الطائف؛ فأجده لم ينته منها بعد، فيقعدني عنده وهو يصحح، وألحظ فيه أناة في التصحيح، وتفاعلا مع الإجابة، ما بين ابتسامة و عبوس، وتعجب.

وأكتفي بهذا القدر في هذه المقالة، متوقفا عند فقرة الحديث عن دروس الشيخ في المسجد؛ لتكون أولى موضوعات المقالة التالية إن شاء الله، مع حديث عن تراث الشيخ رحمة الله عليه.
المشاهدات 3463 | التعليقات 2

العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة وشيخ النقل والعقل والرأي والفكر (1/ 3)


غفر الله للشيخ ابن غديّان, وأسكنه أعاليَ الجنان

وشكر الله سعيك يا شيخ عبد الله