العلاج هو الصبر

هلال الهاجري
1442/11/06 - 2021/06/16 09:51AM

الحمدُ للهِ كَاشفِ البَلاءِ، مُسدي النَّعماءِ، أحمدُه سُبحانَه فهو المقصودُ بدَفعِ الضُّرِّ والبَأساءِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه سَيدُ البَررةِ الأتقياءِ، اللهمَّ صَلِّ وسلم على عَبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصَحبِه الأوفياءِ .. أَما بَعدُ:

فاتقوا اللهَ، عِبادَ اللهِ (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ).

فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: قَالَ لي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إني أُصْرَعُ، وإني أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، قَالَتْ: أَصْبِرُ، قَالَتْ: فإني أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا.

أيُّها الأحبةُ، هل ترونَ المشكلةَ قد حُلَّتْ؟، لا، فلا زالتْ المرأةُ تُصرعُ، ولكن ما هو العِلاجُ الذي أوصاها به النَّبيُّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ؟، أوصاها بالصَّبرِ، وما هي النَّتيجةُ؟، الجنَّةُ، إذاً هل تُصدقونني لو أخبرتُكم: أن تِسعَ أعشارِ مشاكلِنا، علاجُها في الصَّبرِ.

فإذا لم تنكشفُ المشكلةُ في الدُّنيا، فهناكَ يومٌ آخرُ يفوزُ فيه أهلُ الصَّبرِ ويُقالُ لهم: (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ)، ويكونُ أجرُهم فيه كبيراً كبيراً (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)، بل عطاءُهم فيه بغيرِ حسابٍ، كما قالَ تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، يقولُ الأوزاعي رحمَه اللهُ: ليسَ يُوزنُ لهم ولا يُكالُ لهم، وإنما يُغرفُ لهم غَرفًا.

فيا من له أبٌ أو أمٌّ يُسيئونَ إليه، اصبر، ويا من له زوجةٌ تُزعجُه، اصبر، ويا من لها زوجٌ لا يُحسنُ عِشرتَها، اصبري، ويا من له أولادٌ يُحزنونَه، اصبر، ويل من له أقاربُ يقطعونَه، اصبر، ويا من له جارٌ يُؤذيه، اصبر، ويا من له رئيسٌ في العملِ يظلمُه، اصبر، ويا من يرى من وليِ أمرِه ما يكرهُ، اصبر، اصبر على الجليسِ الصَّالحِ، كما أُمرَ نبيُّكَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، اصبرْ أيُّها المريضُ، اصبرْ أيُّها الفقيرُ، اصبرْ أيُّها المُبتلى، اصبرْ أيُّها المظلومُ، اصبرْ أيُّها الإنسانُ، فهكذا هي الحياةُ صبرٌ وإيمانٌ.

إذا ما أتاكَ الدَّهرُ يوماً بنكبةٍ * * * فافرغْ لها صَبرا، ووسِّعْ لها صَدرا
فإنَّ تصاريفَ الزمانِ عجيبةٌ * * * فيوماً تَرى يُسراً ويوماً تَرى عُسرا

اسمعوا إلى وصيةِ اللهِ سبحانَه لنبيِّه صلى اللهُ عليه وسلمَ في ثلاثِ مواضعِ في كتابِ اللهِ تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، فما هو وعدُ اللهِ عزَّ وجلَّ للصابرينَ مع ما ذكرنا من الفوزِ في الآخرةِ والأجرِ الكبيرِ؟.

أولُها وأعظمُها: أنَّ اللهَ تعالى معكَ أيُّها الصَّابرُ، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وواللهِ لو تدَّبرناها حقَّاً، لوجدنا للصبرِ مذاقاً آخرَ، فكيفَ بكَ أيُّها الصَّابرُ واللهُ تعالى معكَ يُؤانسُك، ويطمئنُكَ، ويواسيكَ، ويُعينُكَ، ويواليكَ، ويهديكَ، ويوفِّقُكَ، ويؤيدُكَ، ثُمَّ ينصرُكَ، فالعاقبةُ الأكيدةُ للصبرِ هي النَّصرُ، كما قالَ تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، وقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ).

وكمْ من ليلةٍ بِتَّ في كُربةٍ *** يَكادُ الرَّضيعُ لها يَشيبُ
فما أصبحَ الصُّبحُ إلا أتى *** من اللهِ نصرٌ وفتح ٌ قَريبُ

وأيضاً، قد وعدَ اللهُ تعالى الصَّابرينَ بمحبتِه، فقالَ سُبحانَه: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، فأينَ المُحبونَ؟، يقول الشيخُ عبدُالرَّحمنِ السِّعديُّ رحمَه اللهُ: فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ هِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ فَضِيلَةٍ، تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا يَسَّرَ لَهُ الْأَسْبَابَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ كُلَّ عَسِيرٍ، وَوَفَّقَهُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْوِدَادِ.

فهل تخيَّلتْ أيُّها الصَّابرُ حُبَّ اللهِ تعالى لك بسببِ الصَّبرِ، لو أيقنتَ بهذا حقَّ اليقينِ، لتلذَّذتَ بالصبرِ، كيفَ لا والصَّبرُ سببُ محبةِ ربِّ الأرضِ والسمواتِ، الذي هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، قادرٌ على أن يُزيلَ ما بكَ من همٍّ، ولكنَّه يعلمُ أنَّ الصَّبرَ خيرٌ لكَ وأعظمَ، كما قالَ تعالى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)، عندَها ستختارُ ما اختارَه اللهُ تعالى لكَ وترضى.

إذن لماذا عندما يشكو لكَ أحدُهم مُشكلتَه، فتقولُ له: اصبرْ، ينظرُ إليكَ بتعجُّبٍ واستغرابٍ، وكأنَّكَ تتهرَّبُ من الجوابِ، ولا يعلمُ أن نصيحتَك له بالصَّبرِ خيرَ خِطابٍ، وليتَه كما يشكو للعبادِ، يشكو بصدقٍ إلى العزيزِ الوهابِ.

وَإذَا عَرَاك بليّةٌ فاصبِرْ لَهَــا *** صَبْرَ الكريمِ فَإنَّه بكَ أَعلـــمُ

وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا *** تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ عليه وآلِه وصَحْبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا .. أما بعدُ:

من ينظرْ في حالِ النَّاسِ اليومَ، يجدْ نقصاً في الصَّبرِ واستعجالاً ظاهراً في جميعِ المجالاتِ، في الأمورِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ، فهذا يعجلُ في صلاتِه ثُمَّ ينصرفُ سريعاً إلى دُنياهُ، وهذا يعجلُ في الدُّعاءِ ويريدُ سريعاً أن يراهُ، وهذا يريدُ أن يتغيَّرَ الواقعُ في شهرٍ أو شهرينِ، وهذا يُريدُ في يومٍ أن تَصلُحَ أمورُ المسلمينَ.

عند الإشاراتِ ترى المللَ والضَّجرَ، وفي الطُّرقِ ترى السُّرعةَ والخطرَ، الكبيرُ مُستعجلٌ، والصَّغيرُ مُستعجلٌ، والرَّجلُ مستعجلٌ، والمرأةُ مُستعجلةٌ، فإلى أينَ؟، ألا يعلمونَ أنَّه ليسَ أمامَهم إلا الموتُ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، فهل يحسنُ بالمسلمِ أن لا يستفيقَ من عجلتِه وغفلتِه إلا في قبرِه؟.

بل يجبُ علينا أن نعلمَ أننا في أيامِ الصَّبرِ، وأن لم يصبرْ فلن يهنأَ في حياتِه ولا في آخرتِه، اسمعوا إلى هذا الحديثِ، عَنْ أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟، قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ).

أفليسَ اليومَ نرى بعينِ البصيرةِ، أنَّ الصَّبرَ على طاعةِ اللهِ تعالى والصَّبرَ عن معصيتِه والصَّبرَ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ هو كالجمرةِ التي يقبضُ عليها المسلمُ بيدِه، وذلكَ لأنَّهُ لا يجدُ على الصَّبرِ أعواناً.

فاجعلوا الصبرَ والتَّقوى لكم سلاحاً، تجدونَ الخيرَ والهدى والفلاحا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وعندها ستعلمُ عندما ترى عاقبةَ الصَّبرِ، ما هو مقصودُ القائلِ:

والصبرُ مثلُ اسمِه مُرٌّ مَذَاقَتُهُ * * * لكنْ عواقبُه أحلى من العَسَلِ

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، اللهم إننا نَسألُك صبراً جميلاً، وفرجاً قريباً، وقولاً صادقاً، وأجراً عظيماً، اللّهمَ اهدِنا فيمَن هَديْتَ، وعافِنا فيمَن عافيْتَ، وتَوَلَّنا فيمَن تَوَلَّيْتَ، وبارِك لَنا فيما أَعْطَيْتَ، وقِنا واصْرِف عَنَّا شَرَّ ما قَضَيتَ، سُبحانَك تَقضي ولا يُقضى عَليكَ، انَّهُ لا يَذِّلُّ مَن والَيتَ وَلا يَعِزُّ من عادَيتَ، تَبارَكْتَ رَبَّنا وَتَعالَيْتَ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنينَ يومَ يقومُ الحسابِ، اللهمَّ اجعلنا مقيمي الصلاةَ ومن ذرياتنا ربنا وتقبلْ دعاءً، ربنا واجعل لنا لسانَ صدقٍ في الآخرينَ، واجعلنا من ورثةِ جنةِ النعيمِ، ولا تخزنا يومَ يبعثونَ، ربنا هبْ لنا من الصالحينَ، ولا تجعلنا فتنةً للذين كفروا، وأوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا، وأن نعملَ صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتِك في عبادكَ الصالحينَ.

المرفقات

1623837035_العلاج هو الصبر.docx

1623837046_العلاج هو الصبر.pdf

المشاهدات 1570 | التعليقات 0