العقوبة بغرق الأرض

العُقُوبَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ (5)
العُقُوبَةُ بِغَرَقِ الأَرْضِ
20/3/1434
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ القَدِيرِ؛ عَلِمَ ضَعْفَ خَلْقِهِ فَرَحِمَهُمْ، وَقَدَرَ عَلَيْهِمْ فَأَمْهَلَهُمْ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ، وَلَوْ عَذَّبَهُمْ لَمَّا ظَلَمَهُمْ؛ [وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] {فصِّلت:46}، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ وَيُشْكَرَ؛ فَهُوَ الغَنِيُّ عَنْ عِبَادِهِ، القَادِرُ عَلَى خَلْقِهِ؛ [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْض بِأَمْرِهِ] {الرُّوم:25}، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ تَعَلَّقَتْ بِهِ قُلُوبُ المُخْبِتِينَ، فَأَذْعَنَتْ لِكِبْرِيَائِهِ، وَذَلَّتْ لَهُ فِي عَلْيَائِهِ، وَسَعَتْ فِي مَرْضَاتِهِ، وَاسْتَغْنَتْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ فَلَمْ تَذِلَّ لِمَخْلُوقٍ وَإِنْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَلَمْ تَرْهَبْهُ مَهْمَا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ؛ فَهِيَ قُلُوبٌ مُسْتَكْفِيَةٌ بِاللهِ تَعَالَى، مُسْتَقْوِيَةٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُتَوَكِّلَةٌ عَلَيْهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَذَّرَ أُمَّتَهُ العَذَابَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ طُرُقَ النَّجَاةِ، وَبَلَّغَ البَلاَغَ المُبِينَ، فَكَانَ النَّاصِحَ الأَمِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَسَلَّحُوا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ الأَرْضَ تَمُوجُ بِالفِتَنِ وَالمِحَنِ، وَإِنَّ المُفَاصَلَةَ بَيْنَ أَهْلِ الحَقِّ وَأَهْلِ البَاطِلِ تَتَصَاعَدُ، وَإِنَّ أَمَامَكُمْ فِتْنَةَ القَبْرِ، وَفَزَعَ الحَشْرِ، وَشِدَّةَ الحِسَابِ، وَمُجَاوَزَةَ الصِّرَاطِ، وَلاَ ثَبَاتَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ بِاللهِ تَعَالَى؛ [يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27}.
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يَكْثُرُ الفَسَادُ، وَيُؤْذَى أَهْلُ الخَيْرِ وَالصَّلاَحِ؛ فَإِنَّ الخَوْفَ مِنَ العَذَابِ هِجِّيرَا أَهْلِ البَصَائِرِ.
وَإِرْجَاعُ الكَوَارِثِ الكَوْنِيَّةِ إِلَى ذُنُوبِ البَشَرِيَّةِ هُوَ طَرِيقَةُ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ؛ لِعِلْمِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى المَذْكُورَةِ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ؛ [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم] {الشُّورى:30}، وَأَمَّا أَهْلُ العَمَى وَالضَّلاَلَةِ فَيُرْجِعُونَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ، وَيَنْفُونَ القُدْرَةَ الرَّبَّانِيَّة، وَيَأْمَنُونَ العَذَابَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ الأَوَّلُونَ: [هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا] {الأحقاف:24}.
إِنَّ مَا يَقَعُ فِي الأَرْضِ مِنْ كَسَادِ الاقْتِصَادِ، وَغَلاَءِ الأَسْعَارِ، وَفَسَادِ الذِّمَمِ، وَتَسْلِيطِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالظُّلْمِ وَالبَغْيِ وَالأَثَرَةِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ غَوْرِ المِيَاهِ إِلَى حَدِّ الجَفَافِ، أَوْ صَبِّ السَّمَاءِ إِلَى حَدِّ الإِغْرَاقِ، وَمَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ مِنْ فَيَضَانِ الأَرْضِ، وَمَدِّ البَحْرِ، وَالزَّلْزَلَةِ وَالخَسْفِ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِظُلْمِ العِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، وَانْتِشَارِ الظُّلْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَعَدَمِ إِنْصافِ المَظْلُومِ أَوْ الاِنْتِصَارِ لَهُ، وَكُلَّمَا كَثُرَ العِصْيَانُ، وَعَظُمَ الظُّلْمُ، وَتَمَّ تَشْرِيعُهُ وَتَوْسِيعُهُ وَتَقْنِينُهُ تَفَاقَمَتِ المُشْكِلاَتُ، وَتَتَابَعَتِ العُقُوبَاتُ، وَحَلَّتِ المَثُلاَتُ، وَالعَذَابُ إِذَا نَزَلَ قَدْ يَعُمُّ وَلاَ يَخُصُّ!
وَالغَرَقُ عَذَابٌ قَدْ أَصَابَ اللهُ تَعَالَى بِهِ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ فِي عَدَدٍ مِنَ السُّوَرِ لِلْعِبْرَةِ بِهِمْ؛ فَإِنَّ الغَرَضَ الأَسَاسَ مِنْ قَصَصِ القُرْآنِ الاعْتِبارُ بِمَا حَلَّ بِالسَّابِقِينَ، وَمُجَانَبَةُ طُرُقِهِمْ؛ لِئَلاَّ يُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ.
وَمَنْ قَرَأَ الوَصْفَ القُرْآنِيَّ لِإِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ وَلَهُ قَلْبٌ حَيٌّ هَالَهُ خَبَرُهُمْ، وَخَافَ مَصِيرَهُمْ، وَحَذِرَ فِعْلَهُمْ، وَجَانَبَ طَرِيقَهُمْ.
لَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى، وَحَقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُهُ، وَعَلاَمَتُهُ فَوَرَانُ التَّنُّورِ، وَقَدْ أُمِرَ نُوحٌ عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ العَلاَمَةِ أَنْ يَنْجُوَ بِالمُؤْمِنِينَ فِي السَّفِينَةِ؛ [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ] {هود:40-42}، تَخَيَّلُوا - عِبَادَ اللهِ - أَمْوَاجَ المِيَاهِ أَمْثَالَ الجِبَالِ لِتَتَصَوَّرُوا هَوْلَ ذَلِكَ، انْظُرُوا إِلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي المَدِينَةِ وَأَمْوَاجِ المِيَاهِ تُنَاطِحُهُ وَتُسَاوِيهِ وَتُغَطِّيهِ، وَالنَّاسُ بِبُيُوتِهِمْ وَمَراكِبِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ أَسْفَلَهُ! يَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ مُخِيفٍ!
إِنَّنَا رَأَيْنَا سُيُولاً مَا بَلَغَتْ أَمْوَاجُهَا أَمْثَالَ الجِبَالِ وَلاَ أَمْثَالَ الهِضَابِ وَلاَ التِّلاَلِ، وَلَكِنَّهَا ارْتَفَعَتْ عَنِ الأَرْض قَلِيلاً، وَتَدَفَّقَتْ بِسُرْعَةٍ تَشُقُّ طَرِيقَهَا فَهَدَمَتِ الجُدْرَانَ، وَقَطَعَتِ السُّبُلَ، وَحَمَلَتِ السَّيَّارَاتِ، وَأَغْرَقَتْ جَمْعًا مِنَ البَشَرِ، وَجَرَفَتْ مَا أَمَامَهَا فَلَمْ يَقِفْ فِي طَرِيقِهَا شَيْءٌ، فَكَيْفَ بِمِيَاهٍ بَلَغَتْ فِي كَثَافَتِهَا بِحَيْثُ تُحَاذِي أَمْوَاجُهَا قِمَمَ الجِبَالِ؟!
إِنَّنَا بَعْدَ آلاَفِ السِّنِينَ مِنْ حَادِثَةِ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ، لَنَحْبِسُ أَنْفَاسَنَا -وَنَحْنُ نَقْرَؤُهَا فِي القُرْآنِ وَنُتَابِعُ السِّيَاقُ - وَالهَوْلُ يَأْخُذُنَا كَأَنَّنَا نَشْهَدُ المَشْهَدَ؛ [وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ]، وَنُوحٌ الوَالِدُ المَلْهُوفُ يَبْعَثُ بِالنِّدَاءِ تِلْوَ النِّدَاءِ، وَابْنُهُ الفَتَى المَغْرُورُ يَأْبَى إِجَابَةَ الدُّعَاءِ، وَالمَوْجَةُ الغَامِرَةُ تَحْسِمُ المَوْقِفَ فِي سُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ رَاجِفَةٍ، وَيَنْتَهِي كُلُّ شَيْءٍ، وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ دُعَاءٌ وَلاَ جَوَابٌ! وَإِنَّ الهَوْلَ هُنَا لَيُقَاسُ بِمَدَاهُ فِي النَّفْسِ الحَيَّةِ - بَيْنَ الوَالِدِ وَالمَوْلُودِ - كَمَا يُقَاسُ بِمَدَاهُ فِي الطَّبِيعَةِ، وَالمَوْجُ يَطْغَى عَلَى الذُّرَى بَعْدَ الوُدْيَانِ، وَإِنَّهُمَا لَمُتَكَافِئَانِ!
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ القُرْآنِ تَفْصِيلٌ رَاعِبٌ لِمَا حَلَّ بِهِمْ: [فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مِنْهُمْرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْض عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ] {القمر:11-14}.
إِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي البَلاَغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا المَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَالمَاءُ يَتَقَاذَفُ سَفِينَةَ نُوحٍ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الأَرْضيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرْ فِيمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الخَطْبِ الجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، بِأَوْجَزَ عِبَارَةً وَأَبْلَغِهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي العَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّهَا قُدْرَةُ القَدِيرِ سُبْحَانَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَعَدْلُهُ فِي مُعَاقَبَةِ المُكَذِّبِينَ، وَمَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ بَطْشِهِ بِالمُجْرِمِينَ.
وَحِكْمَةُ هَذِهِ المُبَالَغَاتِ فِي عِقَابِ الظَّالِمِينَ وَالمُجْرِمِينَ مِنَ الغَابِرِينَ، إِنَّمَا هِيَ إِنْذَارُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الحَاضِرِينَ، فَلاَ عَجَبَ أَنْ يُخْتَمَ هَذَا المَشْهَدَ الرَّهِيبَ الرَّاعِبَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: [وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] {القمر:15-17}، آيَةٌ لَنَا لِنَخَافَ المَعَاصِي، وَآيَةٌ لِكُلِّ ظَالِمٍ لِئَلاَّ تَكُونَ نِهَايَتُهُ نِهَايَتَهُمْ، وَتَرَى الظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ غَافِلِينَ.
أَصَابَهُمُ العَذَابُ بِدَعْوةِ نُوحٍ عَلَيْهِمْ، وَأُغْرِقَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا بِدَعْوَةِ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، فَلْيَخَفِ الظَّالِمُونَ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ مَنْ عَادَى للهِ وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَهُ بِالمُحَارَبَةِ.
دَعَا نُوحٌ فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: [فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {الشعراء:118}، [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ] {القمر:10}.
طَلَبَ مِنَ اللهِ تَعَالَى اسْتِئْصَالَهُمْ فَاسْتُئْصِلَتْ أُمَّةٌ كَامِلَةٌ بِدَعْوَةِ رَجُلٍ وَاحَدٍ، أَلاَ يَخَافُ الظَّالِمُونَ؟ أَلاَ يَرْعَوِي العَاصُونَ؟ أَلاَ يَوْجَلُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ؟ [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْض مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا] {نوح:26-27}.
أُغْرِقُوا كُلُّهُمْ وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ القَلِيلُ مِمَّنْ آمَنُوا وَرَكِبُوا السَّفِينَةَ؛ [فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ البَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:119-121}.
اسْتَنْصَرَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - رَبَّهُ - سُبْحَانَهُ وتَعَالَى - فَنَصَرَهُ عَلَى قَوْمِهِ؛ [وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ] {الأنبياء:76-77}.
وَمَنِ انْتَصَرَ بِاللهِ تَعَالَى فَمَنْ ذَا الَّذِي يَهْزِمُهُ؟! وَمَنْ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فَمَنْ يَضُرُّهُ؟ وَمَنْ خَذَلَهُ اللهُ تَعَالَى فَمَنْ يَنْصُرُهُ؟
هَلَكَ قَوْمُ نُوحٍ فِي الدُّنْيَا وَهُمُ الأَكْثَرُ وَالأَقْوَى فَلَمْ يَنْتَصِرُوا، وَلَنْ يَنْجُوا يَوْمَ القِيَامَةِ؛ [مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا] {نوح:25}، وَسَبَبُ هَلاَكِهِمْ عَمَاهُمْ عَنِ الهُدَى، وَرَفْضُهُمْ لِلْحَقِّ، وَكَمْ فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ مِنْ عُمْيٍّ عَنِ الهُدَى، مُحَارِبِينَ لِلْحَقِّ، نَاشِرِينَ لِلْبَاطِلِ، مُشِيعِينَ لِلْفَوَاحِشِ، يَرْفُضُونَ دِينَ اللهِ تَعَالَى وَشَرِيعَتَهُ مِنْ أَجْلِ قِيَمِ الغَرْبِ البَائِرَةِ، وَأَخْلاَقِهِ الضَّائِعَةِ، وَمَبَادِئِهِ الكَاسِدَةِ الفَاسِدَةِ، وَقَدْ ذَيَّلَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ هَلاَكِ قَوْمِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: [إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ] {الأعراف:64}، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ ذَيَّلَهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ] {يونس:73}.
وَفِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَنْ يُنْذَرُونَ بِالآيَاتِ، وَيُوعَظُونَ بِالقُرْآنِ، وَيُذَكَّرُونَ بِمَصَائِرِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ؛ فَلاَ يَتَّعِظُونَ وَلاَ هُمْ يُذَكَّرُونَ، وَفِي غَيِّهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي فَسَادِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ؛ فَاللَّهُمَّ يَا رَبَّنَا خُصَّهُمْ بِعَذَابِكَ، وَلاَ تَجْعَلْهُ عَامًّا عَلَى عِبَادِكَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:123}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ يُنْزِلُ اللهُ تَعَالَى مَطَرًا مُتَتَابِعًا، فَيَتَحَوَّلُ إِلَى سَيْلٍ جَارِفٍ يَضُرُّ النَّاسَ وَالمُمْتَلَكَاتِ فَيَجِبُ أَلاَّ يَعْزُبَ عَنِ البَالِ تَذَكُّرُ الطُّوفَانِ العَظِيمِ الَّذِي أُغْرِقَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْرِقَ غَيْرَهُمْ بِمِثْلِ مَا أَغْرَقَهُمْ بِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَنَّ تَذَكُّرَ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَيَّلَ قِصَّةَ هَذَا الغَرَقِ العَظِيمِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:121}، وقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الفُرْقَانِ: [وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً] {الفرقان:37}، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ العَنْكَبُوتِ: [فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ] {العنكبوت:15}.
وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَبَبَ هَلاَكِهِمْ بِهَذَا الطُّوفَانِ الكَبِيرِ هُوَ ظُلْمُهُمْ، حِينَ رَفَضُوا دَعْوَةَ نُوحٍ، وَتَنَكَّرُوا لِشَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَآذَوْا أَوْلِيَاءَهُ المُؤْمِنِينَ، وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ؛ فَفِي سُورَةِ هُودٍ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنُوحٍ لَمَّا أَرَادَ إِغْرَاقَهُمْ: [وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] {هود:37} فَلَنْ يَقْبَلَ اللهُ تَعَالَى شَفَاعَةَ نُوحٍ فِيهِمْ حِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذَابِ؛ وَلِذَا لَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ فِي ابْنِهِ، وَخَتَمَ قِصَّةَ غَرَقِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: [وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] {هود:44}، وَفِي سُورَةِ الفُرْقَانِ خَتَمَ ذِكْرَ غَرَقِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: [وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفرقان:37}، وَفِي العَنْكَبُوتِ: [فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] {العنكبوت:14}، وَفِي الذَّارِيَاتِ: [وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الذاريات:46} وَفِي النَّجْمِ [وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى] {النَّجم:52}.
كُلُّ هَذِهِ الآيَاتِ وَأَمْثَالُهَا فِي قِصَّةِ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَتَدُلُّ عَلَى فَدَاحَةِ الظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَالطُّغْيَانِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ الطُّوفَانِ لِنَأْخُذَ العِبْرَةَ مِنْهُ، وَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ إِغْرَاقَهُمْ بِهِ بِظُلْمِهِمْ، وَرَفْضِهِمْ شَرَائِعَ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ، فَحَذَارِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَتُهُ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُهُ، وَيُجَاهَرَ بِعِصْيَانِهِ، وَتَعَطُّلَ شَرِيعَتِهِ، وَتُرْفَضَ أَحْكَامُهُ، وَيُؤْذَى أَوْلِيَاؤُهُ، وَالغَرَقُ القَلِيلُ إِذَا لَمْ يَتَّعِظْ بِهِ العِبَادُ قَدْ يَتَحَوَّلُ إِلَى طُوفَانٍ عَظِيمٍ، أَوْ عَذَابٍ كَبِيرِ، وَاللهُ تَعَالَى قَالَ: [وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا] {الإسراء:59}، فَخَافُوا عُقُوبَةَ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، فَإِنَّهَا إِنْ حَقَّتْ لَمْ يَدْفَعْهَا شَيْءٌ: [وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] {المؤمنون:27} [إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ] {الطُّور:7-8}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
المرفقات

العقوبات الربانية 5.doc

العقوبات الربانية 5.doc

العُقُوبَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ 5.doc

العُقُوبَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ 5.doc

المشاهدات 4878 | التعليقات 9

ماشاءالله تبارك الله يا شيخ ابراهيم لافض فوك خطبه رائعة ومؤثرة .حفظك ربي ورعاك وسدد خطاك .


فهل من مدكر ؟!

جزى الله شيخنا خير الجزاء، نعم فعذاب الله لا يحابي أحدا وعقابه لا يجامل إنسانا وإنما حيثما حلت المعصية وقع العذاب قال الله" وما هي من الظالمين ببعيد " وقال سبحانه" وللكافرين أمثالها".
فليس بين عباد الله وبين ربهم سبحان حسب ولا نسب بل القاعدة الربانية من يعمل سوء يجز به أينما وجد وفي أي زمن وفي أي عصر
وفيما يحدث ويجري ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد


بارك الله فيك


بارك الله فيك شيخنا ونفع بكم
أجدت وأفدت وبلَّغْت


جزاك الله كل خير


بارك الله فيك يا شيخ ابراهيم على هذه الخطبة المفيدة ، ونفع بك .


أجدت .. فأبدعت .. فأمتعت ..

لا حرمنا الله المزيد من دررك ..

ولا حرمك المزيد من فضله ..

لقد خطبت بها اليوم فكانت هي هي ..


شكر الله تعالى لكم أيها المشايخ الفضلاء مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم وأن يستجيب دعاءكم وأن يجزيكم عني خيرا. آمين.


 ترفع