العقل والشرع

هلال الهاجري
1444/02/12 - 2022/09/08 05:46AM

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) .. أَمَّا بَعْدُ:

فَفي زمانٍ أَصبحَ فِيهِ العَقلُ مَعظَّمَّاً، وأمسى فِي كُلِّ الأمورِ مُقَدَّمَاً، وجُعِلَ هو المِقياسُ الوَحيدُ للخَطأِ والصَّوابِ، بَلْ وصَارَ الحَاكِمُ حَتى عَلى السُّنَّةِ والكِتابِ، اسمَعوا مَعي إلى هَذِهِ الآيةِ يَا أُولي الألبابِ، يَقولُ تَعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ‌وَإِنْ ‌أَطَعْتُمُوهُمْ ‌إِنَّكُمْ ‌لَمُشْرِكُونَ)، أَتَعلمونَ ما سَببُ نُزولِها؟.

لَمَّا حَرَّمَ اللهُ تَعالى المَيتةَ وَأَحَلَّ المُذكَّاةَ، جَاءَ المُشرِكونَ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ فَقَالوا: الشَّاةُ المَيتةُ، مَن قَتَلها؟، قَالَ لَهم: اللَّهُ قَتَلَهَا، قَالوا: إذًا هِيَ ذَبيحةُ اللَّهِ، وأَنتم تَقولونَ: هِيَ حَرامٌ مَيتةٌ نَجسةٌ، وما ذَبَحْتُمُوهُ بَأيديكم تَقولونَ: حَلالٌ طَيِّبٌ مُستَلذٌّ، فَأَنتُم إذًا أَحسنُ مِنَ اللَّهِ!!.

فَلسَفةٌ إبليسيَّةٌ سَرَّاقةٌ، وتَحليلاتٌ عَقلِّيةٌ بَرَّاقةٌ، لو قِيلتْ لَنا في زَمانِنا هذا لأخذنا نَبحثُ عَن التَبريراتِ العَقليَّةِ، ونَتائجِ الاكتِشافاتِ الطِّبيَّةِ، وشيئاً مِن الإعجازِ العِلميِّ، وقَليلاً مِن الإحصاءِ العَدَديِّ، والجَوابُ أسهلُ مِن ذلكَ كُلِّهِ، وهو: أنَّ اللهَ تَعالى حَرَّمَ المَيتةَ فَصارتْ حَراماً، وأحلَّ المُذكَّاةَ فصَارتْ حَلالاً.

أيُّها الأحبَّةُ، لا مانعَ للعَقلِ أَن يَتفكَّرَ في الحِكمةِ مِن تَشريعِ الأحكامِ، وأما مُعارضةَ الشَّرعِ الحَكيمِ، فَلا وألفُ لا، فاللهُ تَعالى الذي خَلَقَ هَذا العَقلَ الصَّغيرَ، هو صَاحبُ الشَّرعِ الحَكيمِ الخَبيرِ، وإذا لم تَفهمْ ما الحِكمةُ في بَعضِ الأحيانِ، فَكَفى بأمرِ اللهِ حِكمةٌ عِندَ أهلِ الإيمانِ، ولِذلكَ يَنبغي أن نُربيَ أنفسَنا وأولادَنا دائماً بِبيانِ هّذهِ الحِكمة أولاً، فَنَقولُ: الحكمةُ مِن هَذا الحُكمِ الشَّرعيِّ هو أمرُ اللهِ تَعالى.

قَالَ الكُفَّارُ: ما الفَرقُ بينَ أن تَبيعَ سِلعةً سِعرُها عشرةُ دَنانيرَ بِخَمسةَ عشرَ دِينارَ، وبينَ أن تُعطي الرَّجلَ عَشرةَ دَنانيرَ فَيَرُدَها لَكَ خَمسةَ عَشرَ دِينارَ، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، فَجاءَ الجَوابُ سَهلاً وَاضِحاً لا يَحتاجُ إلى مَزيدِ تَفكيرٍ أو تَعليلٍ: (‌وَأَحَلَّ ‌اللَّهُ ‌الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، فهذا أحلَّهُ اللهُ، وهَذا حَرَّمَه اللهُ.

ولِذلكَ ضَربَ الصَّحابةُ المَثلُ الأعلى في التَّسليمِ لأمرِ اللهِ تعالى، فَبَعدَ أن صَلَّوا إلى بيتِ المَقدسِ تِلكَ الأعوامَ، هَا هُم اليومَ أَثناءَ الصَّلاةِ يَتَجِّهونَ إلى المَسجدِ الحَرامِ، وبَعدَ أن عَاشوا معَ الخَمرِ في كُلِّ مَجلسٍ وحِينٍ، اليَومَ تُراقُ وتَسيلُ الشَّوارعُ مِنها مُنتهينَ، وهَا هو الحِجابُ يُؤمرُ بِهِ نِساءُ أهلِ الإيمانِ، فَيَخرُجْنَّ لِصلاةِ الفَجرِ كأنَّ على رؤوسِهنَّ الغِربانُ، هَكذا التَّسليمُ دُونَ (كيفَ) و (لِماذا) و (ما الحكمةُ)؟.

وقد ربَّى الصَّحابةُ التَّابعينَ على هذا التَّسليمِ، ولِذلكَ لَمَّا سُئلتْ عَائشةُ رَضيَ اللهُ عَنها: مَا بَالُ الحَائضُ تَقضي الصَّومَ ولا تَقضي الصَّلاةَ؟، لَم تَقلْ: لأنَّ أَيَّامَ الصِّيامَ قَليلةٌ ويَسهلُ قضاؤها، وعَددَ الصَّلواتِ كَثيرةٌ ويَصعبُ قضاؤها، بلْ قَالتْ: كُنَّا نُؤمرُ بِقَضاءِ الصَّومِ، ولا نُؤمرُ بِقَضاءِ الصَّلاةِ، وهَكذا بَلَّغَها التَّابعونَ إلى تَابعيهم، حتى قَالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ: (مِنَ اللهِ تَعالى التَّنزيلُ، وعَلى رَسولِهِ التَّبليغُ، وعَلينا ‌التَّسليمُ).

أقولُ هذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيِّباً مُباركاً فِيهِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:

هُناكَ اليومَ مَوجةٌ عَظيمةٌ تَدعمُ وتُشجِّعُ الإلحادَ في بلادِ المُسلمينَ، وسِلاحُهم في ذلكَ تَوجيهُ العَقلِ تَوجيهاً خَاطئاً لمُصادمةِ ومُعارضةِ الشَّرعِ، والحقيقةُ أنَّ العَقلَ السَّليمَ الصَّريحَ، لا يُمكنُ أن يُصادمَ النَّقلَ الصَّحيحَ، فالعَقلُ المؤمنُ يَفتخرُ بِربِّهِ العَظيمِ الذي سَوَّاهُ وخَلَقهُ وَكرَّمَهُ، وجَعَلَه موطنَ الأفكارِ والعُلومِ والاختراعاتِ، ويَعلمُ أنَّ لَهُ حُدوداً يَقفُ عِنَدَها فَفوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ، ويُؤمنُ أنَّ لَهُ رَبَّاً يَفعلُ ما يَشاءُ لأنَّه على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ، ويَحكمُ بِما يَشاءُ لأنَّه بِكُلِّ شيءٍ عَليمٌ، ويَأَمرُ بما يَشاءُ لأنَّه هو العَزيزُ الحَكيمُ.

هَل تَعلمونَ أن وَاضعَ نَظريةِ (مُصادمةِ العَقلِ للشَّرعِ) هو إبليسُ المَلعونُ، حِينَ أَمرَهُ اللهُ تَعالى بالسُّجودِ لآدمَ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، وهَذا من أكبرِ الخَللِ في العَقلِ، لأنَّ العَقلَ المؤمنَ يَعلمُ أنَّ أَمرَ اللهِ حَكيمٌ، وأنَّهُ وَاجبُ التَّسليمِ والانقيادِ والإذعانِ، سواءً عَلِمنا الحِكمةَ أو غَابتْ عَن الأذهانِ، وهَذا مِن خَصائصِ أهلِ الإيمانِ، (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ‌وَيُسَلِّمُوا ‌تَسْلِيماً).

فَكيفَ لِهَذا العَقلِ المَخلوقِ الذي لَم يَكنْ شيئاً مَذكوراً، ثُمَّ خَلقَه اللهُ لا يَعلمُ شيئاً وكَانَ زَماناً مَعذوراً، فعِندَما حَازَ الذَّكاءَ وجَمعَ العُلومَ بِفضلِ ربِّهِ، جَاءَ يُصادمُ اللهَ تَعالى في خَلقِهِ وأمرِه، فَعجباً لكَ أيُّها العقلُ.

اللهمَّ مَتِّعنَا بعُقولِنا واجعلها دَليلاً لنا إلى رِضاكَ وجَنتِكَ يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ أَنِرْ عقولَنا بنُورِ كِتابِكَ، وارزقنا الهِدايةَ إلى مَرضاتِكَ، اللهمَّ اهدِنا وشبابَنا ونساءَنا وأبناءَنا وبَناتِنا، اللهمَّ اهدِ عِبادَكَ المسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ احفظنا وذُرياتِنا من إبليسَ وذُريتِه وشَياطينِه وجُنودِه، اللهمَّ من أَرادَ بالإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا فَوفِّقهُ في نَفسِه، وأَيدهُ بتأَييدِك ونَصرِكَ، وافتح له أَبوابَ خَيراتِكَ وبَركاتِكَ، ومن أَرادَ بالإسلامِ والمسلمينَ سوءًا وشرًا فَرُدَّ كَيدَه في نَحرِه، واجعلْ تَدميرَه في تَدبيرِه يَا قويُّ يا عَزيزُ، اللهمَّ من أَرادَ تَشويهَ صُورةَ الإسلامِ والمسلمينَ فاجعل تَشويهَه عَلى نَفسِهِ، وافضحهُ في جَوفِ بَيتِهِ يا ربَّ العَالمينَ، اللهمَّ رُدَّنا إلى دينِكَ ردًا جَميلاً، اللهمَّ اهدِ ولاةَ أُمورِنا، ووفقهم إلى مَا فيهِ الخيرُ والصلاحُ، ومَا يَعودُ بالنَّفعِ على الدينِ والعبادِ والبِلادِ، إنَّكَ سَميعُ الدُّعاءِ.

المرفقات

1662605194_العقل والشرع.docx

1662605207_العقل والشرع.pdf

المشاهدات 1500 | التعليقات 1

جزاك الله خير الجزاء