العقل عن الله
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1431/08/10 - 2010/07/22 07:26AM
العقل عن الله
د. أحمد الزهراني
قريباً إن شاء الله سيحلّ علينا رمضان، وسترى كما في كلّ عام خلوّ كثير من المساجد من أئمّتها الرسميين أو المحتسبين؛ فكلهم يسارع للذهاب إلى مكة للفوز بأجر مئة ألف ركعة.
في كلّ مرّة أرى فيها هذا المشهد أقول ما كان عمرو بن مرة يقوله: «اللهم اجعلني ممن يعقل عنك».
لماذا؟
لأنّي على يقين أنّ من يفعل ذلك لم يعقل عن الله دينه وشريعته، بل يغترّ بنصوص الثواب المحدّد أو يغترّ بما يمارسه الأكثر.
فيعجب كثير من المتديّنة بمظاهر كان السلف يُمدحون بها، كقيام الليل وطول الصلاة، والزهد في المباحات ونحو ذلك.
ويغيب عنهم في خضمّ ذلك أنّهم ما وصلوا إلى ذلك إلاّ من طريق تعظيم الأصول.
الدين الحقيقي يكمن في الفرائض وترك المحرمات، ومن تجشّم غير هذين البابين وهو مقصّر فيهما فهو مخدوع..
وكم منّا من يتكلّف للجنة أبواباً شاقة عليه أو بعيدة منه، ويزهد في أبواب من الخير أعظم منها، وهي في متناول يده، لكنّه لا يعلم بها أو يزهد فيها.
إنّ قيام المسلم بما هو واجب في حقّه وقيامه على ثغر يكفي به المسلمين أمر شيء من دينهم أو دنياهم لهو خير من الرباط في المسجد الحرام عاماً كاملاً.
فإمام المسجد الصغير في حيّ شعبي في أقاصي الأرض يصلي بمجموعة من الرجال والنساء صلاة التراويح، ويجمعهم الله خلفه هو خير له وأحب إلى الله من أن يتركهم لغيره، ويذهب للصلاة مأموماً في المسجد الحرام؛ لأنّ هذا نافلة وذاك واجب في حقه.
ومن مظاهر عدم العقل كذلك أنّ البعض يكون سخياً في الصدقات على فقراء الناس، وبخيلاً ممسكاً على أهله؛ لأنّه يظنّ الأجر في الصدقة فقط، أو أنّها في الآخرين أجر وعلى أهله مجرد واجب وحق، وهو غافل عن أنّ أجر النفقة على الأهل أعظم من الصدقة على الفقير؛ لأنّ هذا واجب وذلك نافلة.
وبعضنا يتقصد الذهاب إلى دور الأيتام ليمسح على رأس اليتيم، ورأيت بعضهم يفزّ واقفاً فرحاً لما رأى يتيماً فمسح رأسه، وتحنّن عليه يلتمس بذلك الأجر الوارد فيه، ولعله لم يمسح على رأس ولده قط؛ لأنّه يعتقد أنّ الأجر فقط في الأيتام..
كلا، بل رأس ولدك فيه أجر أكبر وأعظم..
وهي قاعدة الإسلام الكلية، قال الله في الحديث القدسي: «وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه»، فكل فرض أعظم من كلّ نافلة من جنسه.
عن كعب في قوله تعالى: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ). قال: «هم والله أصحاب الصلوات الخمس سمّاهم الله تعالى بها عابدين، من صلى الخمس في جماعة فقد ملأ يديه ونحره عبادة».
عن مطعم بن المقدام قال سمعت عبدة يقول: «يقولون ركعتا الفجر فيهما رغب الدهر، وطرفة عين من الصلاة المكتوبة خير من الدنيا وما فيها».
وعن محمد بن المبارك الصوري قال: «رأيت سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته الصلاة -يعني في الجماعة- أخذ بلحيته وبكى».
معاوية بن قرة قال: كنا عند الحسن فتذاكرنا: أي العمل أفضل؟ فكلهم اتفقوا على قيام الليل فقلت أنا: «تركُ المحارم» قال فانتبه لها الحسن فقال: «تمّ الأمر تمّ الأمر».
وقال إبراهيم بن أدهم: «أطِب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار».
معتمر بن سليمان عن أبيه قال ثنا مسلم قال لقيني معاوية بن قرة وأنا جاء من الكلأ فقال لي: ما صنعت أنت؟ قلتُ: اشتريت لأهلي كذا وكذا، قال: وأصبتَ من حلال؟ قلت: نعم، قال: لأن أغدو فيما غدوت به كل يوم أحب إليّ من أن أقوم الليل وأصوم النهار».
وكتب إبراهيم بن أدهم إلى عباد بن كثير بمكة: «اجعل طوافك وحجك وسعيك كنومة غازٍ في سبيل الله» فكتب إليه عباد بن كثير: «اجعل رباطك وحرسك وغزوك كنومة كادٍّ على عياله من حلّه».
وعن إسماعيل بن عبد الله الشامي قال: سمعت بقية يحدث في مسجد حمص قال: جلس إليّ إبراهيم بن أدهم فجعلت أثني عليه، فقال: ألك عيال؟ قلت: نعم، قال: «روعة تروعك عيالك أفضل مما أنا فيه».
ومن ذلك إتقان وإحسان الأعمال التي كُلّف بها العبد فهي ألزم وأحسن له، قال يعقوب بن المغيرة: كنا مع إبراهيم بن أدهم في الحصاد في شهر رمضان فقيل له: يا أبا إسحاق، لو دخلت بنا إلى المدينة فنصوم العشر الأواخر بالمدينة لعلنا ندرك ليلة القدر؟ فقال: «أقيموا ههنا وأجيدوا العمل ولكم بكل ليلةٍ ليلة القدر».
انظر بالله عليك، يقول لهم: إنّ إتقان العبد عمله الدنيوي الذي تعاقد فيه مع شخص آخر أجره مثل أجر ليلة القدر في المدينة؛ لأنّه تركها إرضاء لله وقياماً بحق واجب عليه.
فكيف بمن يترك مصالح المسلمين العامة، ويهمل فيها، أو يترك إمامة المسجد أو جمعية خيرية وغير ذلك مما وجب عليه عيناً، ويذهب للمسجد الحرام وغيره بقصد التعبد وطلب الأجر؟!
والآن تجد في العلوم العصرية من يهدر وقتاً كثيراً ليوصل إليك فكرة أنّ حسن التخطيط والإدارة أن تبدأ بالأشياء الأهم والأكبر، ومن الأهم والأكبر والأخطر أن تبدأ بما هو واجب عليك، في تعاملك مع الله، ومع الناس، البدء بالواجب المفترض عليك دون غيرك هو الأولى والأهم والأحبّ إلى الله، وهو كذلك الأكثر أجراً والأحرى بالقبول، والله أعلم.
المصدر: الإسلام اليوم
د. أحمد الزهراني
قريباً إن شاء الله سيحلّ علينا رمضان، وسترى كما في كلّ عام خلوّ كثير من المساجد من أئمّتها الرسميين أو المحتسبين؛ فكلهم يسارع للذهاب إلى مكة للفوز بأجر مئة ألف ركعة.
في كلّ مرّة أرى فيها هذا المشهد أقول ما كان عمرو بن مرة يقوله: «اللهم اجعلني ممن يعقل عنك».
لماذا؟
لأنّي على يقين أنّ من يفعل ذلك لم يعقل عن الله دينه وشريعته، بل يغترّ بنصوص الثواب المحدّد أو يغترّ بما يمارسه الأكثر.
فيعجب كثير من المتديّنة بمظاهر كان السلف يُمدحون بها، كقيام الليل وطول الصلاة، والزهد في المباحات ونحو ذلك.
ويغيب عنهم في خضمّ ذلك أنّهم ما وصلوا إلى ذلك إلاّ من طريق تعظيم الأصول.
الدين الحقيقي يكمن في الفرائض وترك المحرمات، ومن تجشّم غير هذين البابين وهو مقصّر فيهما فهو مخدوع..
وكم منّا من يتكلّف للجنة أبواباً شاقة عليه أو بعيدة منه، ويزهد في أبواب من الخير أعظم منها، وهي في متناول يده، لكنّه لا يعلم بها أو يزهد فيها.
إنّ قيام المسلم بما هو واجب في حقّه وقيامه على ثغر يكفي به المسلمين أمر شيء من دينهم أو دنياهم لهو خير من الرباط في المسجد الحرام عاماً كاملاً.
فإمام المسجد الصغير في حيّ شعبي في أقاصي الأرض يصلي بمجموعة من الرجال والنساء صلاة التراويح، ويجمعهم الله خلفه هو خير له وأحب إلى الله من أن يتركهم لغيره، ويذهب للصلاة مأموماً في المسجد الحرام؛ لأنّ هذا نافلة وذاك واجب في حقه.
ومن مظاهر عدم العقل كذلك أنّ البعض يكون سخياً في الصدقات على فقراء الناس، وبخيلاً ممسكاً على أهله؛ لأنّه يظنّ الأجر في الصدقة فقط، أو أنّها في الآخرين أجر وعلى أهله مجرد واجب وحق، وهو غافل عن أنّ أجر النفقة على الأهل أعظم من الصدقة على الفقير؛ لأنّ هذا واجب وذلك نافلة.
وبعضنا يتقصد الذهاب إلى دور الأيتام ليمسح على رأس اليتيم، ورأيت بعضهم يفزّ واقفاً فرحاً لما رأى يتيماً فمسح رأسه، وتحنّن عليه يلتمس بذلك الأجر الوارد فيه، ولعله لم يمسح على رأس ولده قط؛ لأنّه يعتقد أنّ الأجر فقط في الأيتام..
كلا، بل رأس ولدك فيه أجر أكبر وأعظم..
وهي قاعدة الإسلام الكلية، قال الله في الحديث القدسي: «وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه»، فكل فرض أعظم من كلّ نافلة من جنسه.
عن كعب في قوله تعالى: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ). قال: «هم والله أصحاب الصلوات الخمس سمّاهم الله تعالى بها عابدين، من صلى الخمس في جماعة فقد ملأ يديه ونحره عبادة».
عن مطعم بن المقدام قال سمعت عبدة يقول: «يقولون ركعتا الفجر فيهما رغب الدهر، وطرفة عين من الصلاة المكتوبة خير من الدنيا وما فيها».
وعن محمد بن المبارك الصوري قال: «رأيت سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته الصلاة -يعني في الجماعة- أخذ بلحيته وبكى».
معاوية بن قرة قال: كنا عند الحسن فتذاكرنا: أي العمل أفضل؟ فكلهم اتفقوا على قيام الليل فقلت أنا: «تركُ المحارم» قال فانتبه لها الحسن فقال: «تمّ الأمر تمّ الأمر».
وقال إبراهيم بن أدهم: «أطِب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار».
معتمر بن سليمان عن أبيه قال ثنا مسلم قال لقيني معاوية بن قرة وأنا جاء من الكلأ فقال لي: ما صنعت أنت؟ قلتُ: اشتريت لأهلي كذا وكذا، قال: وأصبتَ من حلال؟ قلت: نعم، قال: لأن أغدو فيما غدوت به كل يوم أحب إليّ من أن أقوم الليل وأصوم النهار».
وكتب إبراهيم بن أدهم إلى عباد بن كثير بمكة: «اجعل طوافك وحجك وسعيك كنومة غازٍ في سبيل الله» فكتب إليه عباد بن كثير: «اجعل رباطك وحرسك وغزوك كنومة كادٍّ على عياله من حلّه».
وعن إسماعيل بن عبد الله الشامي قال: سمعت بقية يحدث في مسجد حمص قال: جلس إليّ إبراهيم بن أدهم فجعلت أثني عليه، فقال: ألك عيال؟ قلت: نعم، قال: «روعة تروعك عيالك أفضل مما أنا فيه».
ومن ذلك إتقان وإحسان الأعمال التي كُلّف بها العبد فهي ألزم وأحسن له، قال يعقوب بن المغيرة: كنا مع إبراهيم بن أدهم في الحصاد في شهر رمضان فقيل له: يا أبا إسحاق، لو دخلت بنا إلى المدينة فنصوم العشر الأواخر بالمدينة لعلنا ندرك ليلة القدر؟ فقال: «أقيموا ههنا وأجيدوا العمل ولكم بكل ليلةٍ ليلة القدر».
انظر بالله عليك، يقول لهم: إنّ إتقان العبد عمله الدنيوي الذي تعاقد فيه مع شخص آخر أجره مثل أجر ليلة القدر في المدينة؛ لأنّه تركها إرضاء لله وقياماً بحق واجب عليه.
فكيف بمن يترك مصالح المسلمين العامة، ويهمل فيها، أو يترك إمامة المسجد أو جمعية خيرية وغير ذلك مما وجب عليه عيناً، ويذهب للمسجد الحرام وغيره بقصد التعبد وطلب الأجر؟!
والآن تجد في العلوم العصرية من يهدر وقتاً كثيراً ليوصل إليك فكرة أنّ حسن التخطيط والإدارة أن تبدأ بالأشياء الأهم والأكبر، ومن الأهم والأكبر والأخطر أن تبدأ بما هو واجب عليك، في تعاملك مع الله، ومع الناس، البدء بالواجب المفترض عليك دون غيرك هو الأولى والأهم والأحبّ إلى الله، وهو كذلك الأكثر أجراً والأحرى بالقبول، والله أعلم.
المصدر: الإسلام اليوم