العِقْد النَفِيسْ في محاسبة النفوس

العِقْد النَفِيسْ في محاسبة النفوس

للشيخ / أبوزيد السيد عبد السلام رزق

تعريف المحاسبة: عرَّفها الإمام الماوردي فقال: محاسبة النفس أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهارَه، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكله، وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل (أدب الدنيا والدين ص360-361).

دعوة القرآن والسنة إلى المحاسبة:

لقد حث الله أهل الإيمان على محاسبة نفوسهم والتأمل فيما قدموه لأخراهم فقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [الحشر:18] قال ابن القيِّم: "دلت الآية على وجوب محاسبة النفس، فيقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدَّم ليوم القيامة من الأعمال، أَمِنَ الصالحات التي تنجيه؟ أم من السيئات التي توبقه؟ (إغاثة اللهفان [1/ 152]). وقال تعالى : (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" [القيامة:2] . يقول الفراء : (ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت : هلا ازددت، وإن عملت شرا قالت: ليتني لم أفعل) (تفسير البغوي)  ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية ( لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلا يُحَاسبُ نَفْسه ماذا أَردْتُ بكَلْمتي ماذا أردُت بِشرْبَتِي ؟ والفَاجرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفسُه) (كتاب الزهد للإمام أحمد) .

ويقول الله – عز وجل – في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير ثم يرجعون عما كانوا عليه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201] وقال الله تعالى { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا  وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا  } ( سورة الشمس 7 ـ 10) و في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ( كُلّ النّاسِ يَغْدُو. فَبَايعٌ نَفْسَهُ. فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ) .

من حاسب نفسه في الدنيا هون الله تعالى عليه الحساب يوم القيامة

قَالَ الْحَسَنُ : الْمؤمِنُ قوَّامٌ عَلى نَفْسه للهِ وإنّما يَخُفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيَا ، وَإِنَمَّا شَقَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامِةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيرِ مُحاسبةٍ )   وذكر الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وزنُوهَا قبل أنْ تُوزَنوا ، فَإِنَّه أَهونُ عَليكُم في الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسَبُوا أَنْفُسَكُمْ اليوم ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ يومئذٍ تُعرضونَ لا تَخْفَى مِنْكَمْ خَافِية عَلى اللهِ )

فالواجب على العبد أن يحاسب نفسه في الدنيا ليهون حسابه في الأخرة  فإن المحاسبة للنفس في دار الدنيا أهون من محاسبة الله للعبد في يوم تشيب فيه رؤوس الولدان ، فالمحاسب هو الله، وكفى بالله حسيبا ، والوثيقة التي يدان بها العبد : كتاب : ( لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) [الكهف:49] .

ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي وهو يصف أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحية فيقول ) فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ وَأَنَّهُمْ سَيُنَاقَشُونَ فِي الْحِسَابِ وَيُطَالَبُونَ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الْخَطَرَاتِ واللحظات وتحققوا أنه لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْطَارِ إِلَّا لُزُومُ الْمُحَاسَبَةِ وَصِدْقُ الْمُرَاقَبَةِ وَمُطَالَبَةُ النَّفْسِ فِي الْأَنْفَاسِ وَالْحَرَكَاتِ وَمُحَاسَبَتُهَا فِي الْخَطِرَاتِ وَاللَّحَظَاتِ فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ فِي الْقِيَامَةِ حِسَابُهُ وَحَضَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ جَوَابُهُ وَحَسُنَ مُنْقَلَبُهُ وَمَآبُهُ وَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَطَالَتْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَقَفَاتُهُ وَقَادَتْهُ إِلَى الخزي والمقت سيئاته) (الإحياء للغزالي  الجزء 4صفحة رقم 394 ) .

أَيُّهَا الْمُسْلِمْ حاسب نفسك وانْظرْ في نَفْسِكَ هَلْ تَجِدُها عَامِلةً بمقْتضَى الدّينِ ؟ هلِ أَتيْتَ بالصَّلاة على الوْجَهٍ الأَكْملِ واجْتَنُبتَ الْمَعَاصِي الْمُنَافِية لِلدِّينِ هل أَدَّيت الزَّكَاةَ كامِلةً مُكَمَّلةً بِيَقِينٍ فَتّش هَلْ تَجِدُ فِيهَا حياءً مِن اللهِ بيَقينٍ ؟ هَلْ أَنْتَ سالمٌ مِن الكذبِ والْخِيانَةِ والاحْتِيَالِ ؟ هَلْ سَالِمٌ مِنَ الرِّياءِ في أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الرِّبَا فِي مَعَامَلاتِكَ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ والنِّفَاقِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والبَهْتِ واللَّعْنِ وسيءِ الْمَقَالاتِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْغِشِّ في بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَسَائِر تَصرُّفَاتِكَ ؟ هَلْ أَنْتَ صَائِنٌ لِسَانَكَ عَنْ مَا يَضْركَ مِن الأقوال والأعَمِالَ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الكِبْرِ والإعْجَابِ وَقَطِيعَةِ الرَّحمِ والْعُقُوقِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ أذِيَّةِ الْجَارِ ؟ هَلْ قَلبُكَ لَيِّنٌ رَحُوم تَرْحَمُ الْمِسْكِينَ وَتُكْرِمُ الْيَتِيمَ ؟ هَلْ أَنْتَ تَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ بُدونِ مِطالٍ ولِجَاجٍ ؟ هَلْ أَنْتَ تُحِبُّ في اللهِ وَتُبْغِضُ في اللهِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ أَوْ صَبْغِهَا أَوْ الدُّخانِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْخَنَافِسَ وَالتَّواليتِ ونحوِ ذَلِكَ مِنْ الأخْلاقِ السَّافِلاتِ ؟ هَلْ بَيْتُكَ خَالٍ عَنْ صُوَرِ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهْلُ هُوَ خَالٍ مِن الْمِذياعِ والتَّلِفْزيُونِ والسِّينَماتِ ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ؟ هَلْ قُمْتَ عَلَى أَوْلادِكَ لِلصَّلاةِ ، إذا كان العبد لا يستطيع أن يوفي بذلك فليحاسب نفسه وليقف معها موقف الشريك الشحيح وأن يلبي وصية أبو ذر الغفاري رضي الله عنه كان أبو ذر ناصحاً مشفقاً، في سنن الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) سنن الترمذي، كتاب المناقب، حديث رقم 3801، وقال الترمذي: حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، حديث رقم 2990 ) ومن نصائحه، ما رواه سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس، أنا جندب الغفاري هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى. قال: فإن سفر طريق القيامة أبعد ما ترون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم. تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرها (ابن الجوزي، صفة الصفوة 1/591،592.)

مواقف من محاسبة السلف لأنفسهم

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  رضي الله عنه

عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمًا وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ " عُمَرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ يا ابن  الْخَطَّابِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ ) (موطأ الإمام مالك [1800]).

وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له : (أتتركون الخليفة حين يكون فارغا حتى إذا شغل بأمر المسلمين أتيتموه) ؟ وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينا، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له : «اضربني كما ضربتك» فأبى الرجل وقال : تركت حقي لله ولك ، فقال عمر : «إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك» فقال الرجل : تركته لله ، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : «يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وضالا فهداك الله، وضعيفا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتي رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته ؟!! ما تقول لربك غدا إذا أتيته ؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه» (مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي) .

قول الغزالي معلقاً على هذه القصة : (فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة ، ولو رمى العبد بكل معصية حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك "أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ" [المجادلة:6] (الإحياء)

 ابن الصمة رحمه الله تعالى : نقل عنه أنه جلس يوماً ليحاسب نفسه فعد عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفا وخمسمائة يوم، فصرخ وقال : (يا ويلتي ! ألقي الملك بواحد وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب) ؟!! ثم خر فإذا هو ميت !! فسمعوا قائلا يقول : يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى .

وقال عبد الله بن قيس : (كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فَصِيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول : "أي نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي : أهلك وعيالك ؟!! فأطعتك ورجعت ! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي : أهلك وعيالك ؟!! فأطعتك ورجعت ! والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك ، فقلت : لأرمقنك اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل، فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) ( إحياء علوم الدين لمحمد الغزالي الجزء  الرابع صفحة رقم 407 ) .

 إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى : قال مَثَّلْتُ نفسي في الجنة: آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مَثَّلْتُ نفسي في النار: آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي" (محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص26).

زُجْلَةَ الْعَابِدَةِ مولاة معاوية رضي الله عنه

دَخَل جماعة من القراء عَلَى زُجْلَةَ الْعَابِدَةِ ، وَكَانَتْ قَدْ صَامَتْ حَتَّى اسْوَدَّتْ ، وَبَكَتْ حَتَّى عَمِيَتْ ، وَصَلَّتْ حَتَّى أُقْعِدَتْ ، فَذَاكَرُوهَا شَيْئًا مِنَ الْعَفْوِ ، فَشَهَقَتْ ، ثُمَّ قَالَتْ : عِلْمِي بِنَفْسِي قَرَّحَ فُؤَادِي وَكَلَمَ كَبِدِي ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْنِي، فَقِيلَ لَهَا : ارْفُقِي بِنَفْسِكَ ، فَقَالَتْ : إِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلائِلُ تُسْرِعُ ، مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ الْيَوْمَ لَمْ يُدْرِكْهُ غَدًا ،

ثُمَّ قَالَتْ : يَا إِخْوَتَاهُ لأُصَلِّيَنَّ للَّهِ مَا أَقَلَّتْنِي جَوَارِحِي ، وَلأَصُومَنَّ لَهُ أَيَّامَ حَيَاتِي ، وَلأَبْكِيَنَّ مَا حَمَلَتِ الْمَاءَ عَيْنَايَ ، أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ فَيُقَصِّرَ ! ثم قالت والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً. ثم أقبلت على صلاتها فتركوها وخرجوا من عندها ، فَهَذِهِ - وَاللَّهِ - صِفَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَهَذِهِ خِصَالُ الْمُبَادِرِينَ ، فَانْتَبِهُوا يَا غَافِلِينَ ( التبصرة لابن الجوزي الجزء الأول صفحة رقم 32)

دَارْك فَمَا عُمْرُكَ بِالْوَانِي          وَلا تَثِقْ بِالْعُمْرِ الْفَانِي

 يَأْتِي لَكَ الْيَوْمُ بِمَا تَشْتَهِي   فِيهِ وَلا يَأْتِي لَكَ الثَّانِي
 وَيَأْمُلُ الْبَانِي بَقَاءَ الَّذِي يَبْنِي     وَقَدْ يُخْتَلَسُ الْبَانِي
 هَلْ نَالَ مِنْ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ يَوْمًا         سِوَى قَبْرٍ وَأَكْفَانِ
أَلَيْسَ كِسْرَى بَعْدَمَا نَالَهُ         زُحْزِحَ عَنْ قَصْرٍ وَإِيوَانِ
وَعَادَ فِي حُفْرَتِهِ خَالِيًا                 بِتُرْبَةٍ يَبْلَى وَدِيدَانِ
كَمْ تَلْعَبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا             تَلاعُبَ الْخَمْرِ بِنَشْوَانِ
 وَالنَّاسُ فِي صُحْبَتِهَا ضِحْكَةٌ قَدْ رَفَضُوا الْبَاقِي بِالْفَانِي
وَهُمْ نِيَامٌ عَنْ مَلَمَّاتِهَا               تُبْصِرُهُمْ فِي زِيِّ يَقْظَانِ
 

كيف يحاسب العبد نفسه

أولا : محاسبة قبل العمل :

وهي : أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه ، وهل هذا العمل يرضي الله أم لا ، وهل سيسجل في صحيفة حسناته أم في صحيفة سيئاته ، بل يحاسب نفسه في خطرات قلبه قال مسروق بن الأجدع: (من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه)

ثانيا : محاسبتها على معصية ارتكبتها : والمعصية هنا تشمل الصغيرة والكبيرة ، وقد حكي ابن القيم أنموذجاً في كيفية محاسبة النفس على الوقوع في المعصية فقال : (وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته – عز وجل – وجنايتك، فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب . وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص، وأن حدها : [أنها] الجاهلة الظالمة، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً ، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير ألبتة، فهناك تقول حقا : «أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي» (مدارج السالكين) .

وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة، ويجلس معها هذه الجلسة المطولة، فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحية والمذهبة للسيئات . قال سبحانه : " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ " [هود:114] فالبدار قبل أن يختم للمرء بخاتمة سوء وهو مصر على المعصية ولم يتب منها .

ثالثا :  محاسبتها على أمر كان تركه خيرا من فعله، أو على أمر مباح، ما سبب فعله له .

فيوجه لنفسه أسئلة متكررة : لم فعلت هذا الأمر ؟ أليس الخير في تركه ؟ وما الفائدة التي جنيتها منه ؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي ؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة  ، وأما المباح فينظر : هل أردت به وجه الله والدار الآخرة، فيكون ذلك ربحاً لي أو فعلته عادة وتقليدًا بلا نية صالحة ولا قصد في المثوبة، فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجع ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثر في قسوة القلب وزيادة الغفلة ، فكل هذه الأسئلة لابد منها حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور .               

ما يعين على محاسبة النفس

قال ابن القيم رحمه الله تعالي : (ومن أنفعهاللعبد في محاسبة نفسه  أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسروراً بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فات) (الروح لابن القيم الجزء الأول صفحة رقم 79 ) .

ومما يعين على محاسبة النفس استشعار العبد مراقبة الله تعالى ومما يساعد في هذا الجانب أن يستذكر العبد ويستشعر رقابه الحق سبحانه عليه، فإنه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وحينما تهم النفس بمعاقرة الذنب صغر أم كبر، فليتذكر المرء أن نظر الله إليه أسرع من نظره إلى ذلك الذنب. ولو كان العبد في جوف داره فإن الله سبحانه لا تحجز نظره الأبواب المغلقة، ولا الستر المرخاة. بل لو كان العبد في قعر البحار، أو على رؤوس الجبال فإن ربه يراه، ويعلم بكل حركة منه وسكنة ، " وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [يونس:61] وكان ابن السماك يتمثل  :

 يا مدمن الذنب أما تستحيي الله في الخلوة ثانيكا

 غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا

ومما يعين على محاسبة النفس مَعْرفتُهُ أَنَّ ربْحَ هذه التِّجَارَةِ سُكْنَى الفِرْدَوسِ والنَّظَر إلى وَجْهِ الرَّبِّ وَخَسَارتِها دَخولُ النَّار والْحِجَابِ عَنْ الرَّبِّ فَإِذَا تَيَقَنَ هَذَا هَانَ عَليْهِ الْحِسَابُ اليَومَ ، وليتذكر الحشر والنشر وهول جهنم وما أعده الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نار قال عنها كعب الأحبار – رضي الله عنه - «لو أنه فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها»(الزهد للإمام أحمد) وفي مسند أبي يعلي بسند صححه الألباني في السلسة الصحيحة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : لَوْ كَانَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مِائَةٌ أَوْ يَزِيدُونَ ، وَفِيهِ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ ، فَتَنَفَّسَ ، فَأَصَابَ نَفَسُهُ ، لاحْتَرَقَ الْمَسْجِدُ وَمَنْ فِيهِ  ) فإذا كان هذا نفس يخرج منه فيحرق مسجداً فيه مائة ألف مصل فكيف ستكون أجوافهم من الداخل؟ أجارنا الله والمسلمين منها .

وممَّا يُعين العبدَ على محاسبة نفسه، ومراجعتها من حين لآخر؛ لتستقيم على منهج الله، وتَلتزم بشريعة الله، وتَقِف عند حدوده لا تتعداها: أن يعلم أن ربه له بالمرصاد، وأنه يُحصي عليه أعماله، ويَكتُب أقواله، ويطَّلع على جميع أحواله، لا تخفى منه على الله خافية، وأن مردَّه إليه، وحسابه عليه، في يوم لا ينفع فيه حميم حميمًا، ولا تُقبَل فيه شفاعة الشافِعين، وإن كان قد غرَّه من الله حِلمُه عليه في الدنيا، فإنما يؤخِّره ليوم تشخص فيه الأبصار، وتضطرب فيه القلوب؛ ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [النحل: 111]، ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

  • وليعلم العبد أن موازين الله دقيقة، وأنه أسرع الحاسبين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
  • وأن شهود الله عدول، وأنهم يعلمون عن العبد كل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]، ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 27 - 29].
  • بل إن جوارحه لَتَشهدُ عليه بما عملتْ، فكيف الخلاص من ذلك؟ قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [فصلت: 20 - 24].

يا أيها الإنسان راقب كل ما اجترحت يداك...فلديك يوم لا فرار ولا فكاك ولا حراك

وفتاك لا يغني وانك غير مغن عن فتاك...فارجع لربك لا تسر تبعا لنفسك او هواك

فهو الذي ان عله مستك اوجد ما شفاك...وهو الكريم فإن ظمأت هناك في يوم سقاك

وإذا دعوت الله ربك مخلصا لبي دعاك. ..فلم التمرد في حياتك والتناوش في دناك

أعراك من دنيا المآثم والمظالم ما عراك...يا رب عبد تائب يرجوك يستهدي هداك

وان تجهمت الحياة وساورته في عراك...لا يستكين ولا يذل كفاه يا ربي ناداك

                  سلك الطريق وحسبه من هذه الدنيا رضاك

هذا وصلى الله على البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وسلم

المشاهدات 2006 | التعليقات 0