العفة والاستعفاف
أبو عبد السلام الروقي
هذه الخطبة في أصلها للشيخ د.صلاح البدير -وفقه الله- مع تصرف يسير، ورأيت وقتها مناسب في هذه الإجازة .
(العفة والاستعفاف)
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملك الحق المبين الذي على العرش استوى، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، أحمده -سبحانه- بلهج أولي الأحلام والنهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى، اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتّقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمالكم مجزِيّون، وعليها محاسَبون، وأنّ المصيرَ حقٌّ إلى جنّةٍ أو نار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أيها المسلمون: إذا عَجَّ الزمن بالفتن، وكثرت دواعي الانحراف؛ لزم المسلم الاستعفاف عن مواقعة الحرام، والاستعلاء عن مقارفة الفواحش، والاستعصام عن الرغبات الجَامِحَةِ والإرادات المهلكة، ومجاهدة النفس وصونها عن الأقذار، وكَبْتها عمَّا لا يَحِلّ. ومتى استسلم المرء لنوازع الشهوة والغريزة واللذة المحرمة فقد تردَّى في مستنقع البؤس والخيبة، وخَرَّ في دركات الضياع والقلق والتوتر والحيرة، وهوي في حَضِيض الانحلال والاضطراب والشقاء: (وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء:38].
أيها المسلمون: العفّة برهان على صدق الإيمان، وطهارة النفس وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفُها وكرامتُها، بها تحصل النجاةُ من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة.
الخارج عنها قَذِرُ المَشْرَبِ، خبيث المَرْكَبِ، نَتِنُ المَطْلَب، ضالّ المذهب، موصوف بأقبح الأوصاف وأسْوَء النُّعُوت، الخزي يلاحقه، والهلاك يدركه، والعذاب يهلكه، فيا خَسَارَ من وقع في حَمْأَة الخَنَث وأوهاك العبث، وخاب العادون المسرفون، وشقي الظالمون المجرمون: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر:72]. سكروا بحب الفاحشة فلا يبالون ذَمًّا، ولا يخشون لومًا، ولا يخافون عَذْلاً، (فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:73-77].
فيا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضّ الطرف، طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه، فعن سهل بن سعد –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : "من يَضْمَنُ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أَضْمَن له الجنة". أخرجه البخاري.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يا شباب قريش: احفظوا فروجكم، لا تزنوا، ألا من حفظ فرجه فله الجنة". أخرجه البزار والطبراني. وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، فعدّهم، ومنهم: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله". متفق عليه.
يا من تاقت نفسه إلى النكاح، وعَجِزَ عن طَوْله، وتعَذّر عليه صداقه، وعَسُرت عليه أُهْبَتُه ونفقاته: استعفف عن الحرام، وترفّع عن الآثام، وأصغِ السمع لقول الملك العلاّم: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:33]. وقد تكفّل الله بمقتضى وعده في إعانة الناكح يريد العفاف، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عونهم: المجاهدُ في سبيلِ اللهِ، والْمُكَاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يُرِيدُ العفافَ). أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد باختلاف يسير.
أيها المسلمون: إن عون العاجز عن النكاح ممن يستضِرّ بفقده، ويصيبه العَنَت لعدم وَجْده؛ من أعظم أعمال البر والإحسان، وأجلّ طرق نشر العفّة والإحصان.
ويتوجّب القول بأنّ التمادي في المغالاة في المهور والتباهي بإظهار البذَخ في حفلات الزواج، وتجاوز الحد في الطلبات والشروط، والخروج عن الاعتدال في تكاليف النكاح، أدى إلى عجز الكثير عن إعفاف نفسه بالمباح، وإحصانها بالتزوج، وجَرَّ كثيرًا من الشباب والفتيات إلى الانحراف والفساد، وربنا يقول: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:32]. ويقول عمر -رضي الله عنه-: "(ألا لا تُغالوا بصُدُقِ النِّساءِ فإنَّها لو كانت مَكرمةً في الدُّنيا أو تقوى عندَ اللَّهِ لَكانَ أولاكم بِها النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ما أصدقَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ امرأةً من نسائِهِ ولا أصدَقت امرأةٌ من بناتِهِ أَكثرَ من ثنتي عشرةَ أوقيَّةً).رواه أهل السنن.
أيها المسلمون: الصوم مَقْطَعة للنكاح، مَدْفَرَةٌ للماء، مَسْكَنة لداعي الزنا والفجور، به يستعين المتعفّفون، وبه يتحصّن المتحصّنون، وبه ينشغل العاجزون، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء". متفق عليه.
أيها المسلمون: ومن تداوى بما حرم عليه تخلّفت عنه المعونة، وإطلاق البصر وإرسال النظر وتقليب الطرف في المحرمات عدو العفّة ورائد الفجور، ورسول الشرّ وبذرة الشهوة في القلب، السعادة في غضه، والنجاة في كسره، قال -جل في علاه-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)
والصور المحرمة تنجس النفس، وتقوي إرادتها على التمرّد والعصيان، وهل أنتجت مشاهد الإثارة ولقطات التهييج وصور العري والتفكّك إلا خرق سياج العفّة والشرف، وشيوع الجريمة اللاّ أخلاقية، وفقدان الأمن وانتشار الاعتداءات المروّعة، وهل يحمل الإلحاح الغريزي الجامح، والسُّعَار الجنسي الهائج، إلا على السَّفَه والخفّة وركوب الشر، وما عساه يُجنَى من أفلام ومجلات وقصص وروايات وأطباق وقنوات جعلت الإثارة إحدى ركائزها، وتأجيج الغرائز أساس قيامها، ومحاربة العفة والطهارة من أولويات أهدافها؟!
فبادر –يا عبد الله- في التخلّص من ويلها وبلائها؛ صونًا لشرفك، وحفظًا لعرضك وسلامة لنفسك وذريتك، فالدين يوجب رفعها، والأمانة تقتضي دفعها.
يا من يريد العفاف، ويخشى السقوط والانحراف: اختر الصاحب الملازم، واصطفِ القرين المجالس، وابحث عن الخليل المجانس، وإياك والتجمعات المشبوهة والرفقة الشاذة والصحبة السيئة، التي تدعو المرء إلى الوقوع في الرذيلة، والولوغ في الفاحشة، فكم جَرَّ صاحب السوء إلى صاحبه من خزي دام لا يزول، وشرٍّ قائم لا يحول، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". أخرجه أبو داود والترمذي.
يا عبد الله: اعرف شرف الزمان وقدر الوقت وقيمة العمر والحياة، ولا تجعل فراغك مسرحًا للهواجس الضارة والأفكار المنحرفة والتخيّلات القاتلة وعادات العبث المهلكة، واجْأَر إلى الله بالدعاء، واسْأَله أن يصرف عنك السوء والفحشاء، وعُذْ به والتجِئ إليه، وحافظ على الصلاة؛ فإنها منهاة عن الفحشاء والمنكر، وتزوّد لمشقة المسير وعظم البلاء بملازمة مجالس الإيمان ودروس القرآن، وعدم مفارقتها إلا من عذر؛ لأنها المرتع الخصيب والروض الأريج، الذي تصح القلوب بخوضه، وتزكو النفوس برعيه. فعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مَرَرْتُم برياض الجنة فَارْتَعُوا"، قالوا: وما رياض الجنة؟! قال: "حِلَقُ الذِّكْرِ". أخرجه الترمذي. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
يا عبد الله، يا من اتخذ من السفر إلى الخارج طريقًا إلى الحرية، ووسيلة للممارسات اللا أخلاقية، ومسلكًا للولوغ في الفاحشة والمحرمات، تحت جنح الاستخفاء والاستهتار، تذكّر أنه مهما غَابَ الرقيب وبَعُدَ عنك القريب فإن الله يراك، فإن الله يراك وهو شهيد على سرك ونجواك. أحاط علمه بالأشياء كلها، سرها وجهرها، فأقصر عن طريق الهلاك، واستحِ من نظر مولاك، فقد قرعت باب البلاء، ووطئت ذَنَبَ الحية الصماء، وسرت إلى الشقاء والعناء، والعاقل اللبيب يتبصّر العواقب، ويتجنب المصاعب والمصائب، ومن غَرّته أيام السلامة حدّثته ألسنة الندامة، ومن لم تنفعه الإشارة لم يردعه كثير العبارة، يقول الحق في أعظم كتاب: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الرعد:19].
هذا وصلوا وسلموا على أحمد الهادي شفيع الورى طرا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وعم بالأمن والرخاء أوطان المسلمين
اللهم وفِّق إمامَنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا، وارحم موتانا وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
المرفقات
1719260044_خطبة العفة والاستعفاف.docx
1719260069_خطبة العفة والاستعفاف.pdf