العشر والحج والأضحية، خطبة قديمة 1414


من الخطب القديمة التي عثرت عليها

العشر والحج والأضحية
3/12/1414هـ
الْحَمْدُ للهِ، جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَافْتَرَضَ فِي الْعُمْرِ إِلَيْهِ عُمْرَةً وَحَجًّا، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَفْضَلُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَكَبَ الْعَبَرَاتِ، وَبَاتَ بِمِنًى وَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ، وَنَحَرَ الْهَدْيَ وَرَمَى الْجَمَرَاتِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى جَاهَدُوا فِي كُلِّ فَجٍّ، وَأَقَامُوا شَعَائِرَ المَنَاسِكِ وَالْحَجِّ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ التَّقْوَى، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْأُضْحِيَةُ مِنْ سُبُلِ التَّقْوَى ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب﴾ [الحج: 32].
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: دِينُ الْإِسْلَامِ دِينٌ يُحِبُّ الْأُلْفَةَ وَالِاجْتِمَاعَ، وَيَكْرَهُ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ، يَحْرِصُ عَلَى تَوْطِيدِ الْعَلَاقَاتِ، وَتَوْثِيقِ الصِّلَاتِ، وَيَقْطَعُ كُلَّ طَرِيقٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاحُرِ وَالتَّبَاغُضِ.
يَتَجَلَّى ذَلِكَ وَيَظْهَرُ فِي الِاجْتِمَاعَاتِ المُصَغَّرَةِ وَالمُكَبَّرَةِ، وَالْقَصِيرَةِ وَالمُطَوَّلَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا الْإِسْلَامُ وَدَعَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَهَا عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ النَّاسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهَا؛ فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ اجْتِمَاعٌ لِأَصْحَابِ الْحَيِّ الْوَاحِدِ، يَتَعَارَفُونَ وَيَتَآلَفُونَ، وَعَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَجْتَمِعُونَ، فَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي دَقَائِقَ مَعْدُودَةٍ، وَشَعَائِرَ مِنَ الدِّينِ مَعْلُومَةٍ، تُخْتَمُ هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتُ المُبَارَكَةُ بِيَوْمٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، حَيْثُ تَجْتَمِعُ جَمَاعَاتُ المَسَاجِدِ فِي المَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَتُلْقَى فِيهِ خُطْبَةٌ، وَتُسْمَعُ مَوْعِظَةٌ، وَتُذْكَرُ وَصِيَّةٌ، وَفِي آخِرِهِ سَاعَةُ إِجَابَةٍ، يُجَابُ فِيهَا دَاعٍ، وَيُغْفَرُ لِمُسْتَغْفِرٍ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، حَتَّى يَجْتَمِعَ أَهْلُ الْبَلَدِ كُلُّهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مَرَّةً فِي الْفِطْرِ وَأُخْرَى فِي الْأَضْحَى، يَتَفَقَّدُونَ أَحْوَالَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى تَوْجِيهَاتِ أَئِمَّتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، فَيُغَادِرُونَ مُصَلَّاهُمْ وَقَدْ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَطَهُرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَأُزِيلَتِ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ، وَحَلَّ الْوُدُّ وَالْإِخَاءُ.
ثُمَّ يَحْضُرُ المُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بِلِبَاسٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنَاسِكَ وَاحِدَةٍ، قَدْ زَالَتْ عَنْهُمُ الطَّبَقِيَّاتُ وَالْحِزْبِيَّاتُ، وَتَلَاشَى التَّعَالِي وَالتَّفَاضُلُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَعْلَنَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى»( ).
فِي الْحَجِّ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- تَتَجَلَّى المُسَاوَاةُ، وَتَزُولُ الْفَوَارِقُ، لَيْسَ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَلَا لِلشُّرَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مَنَاسِكُ غَيْرَ مَنَاسِكِ النَّاسِ، وَلَا لِبَاسُهُمْ يَخْتَلِفُ عَنْ لِبَاسِ غَيْرِهِمْ، الْكُلُّ سَوَاسِيَةٌ، وَالدَّرَجَاتُ الْعُلَى وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَخْلَصِهِمْ وَأَتْقَاهُمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، فَلَعَلَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ حَجِّهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ مَالِهِ الْحَلَالِ مَا يَكُونُ زَادًا وَمَعُونَةً لَهُ فِي حَجِّهِ، وَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ بِالمَالِ الْحَرَامِ، فَاللهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الرُّفْقَةَ الطَّيِّبَةَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا وَصَلَ المِيقَاتَ أَحْرَمَ وَسَمَّى نُسُكَهُ الَّذِي يُرِيدُ، وَإِنْ نَسِيَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِيهِ، ثُمَّ يُكْثِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ، فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَيَسْعَى المُتَمَتِّعُ لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُ شَعْرَهُ وَيُحِلُّ إِحْرَامَهُ. أَمَّا المُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَيَبْقَيَانِ عَلَى إِحْرَامِهِمَا.
ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ، أَحْرَمَ المُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَذَهَبَ إِلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ التَّاسِعِ، وَكَذَا المُفْرِدُ وَالْقَارِنُ، يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ وَلَا يَجْمَعُ، فَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ التَّاسِعِ يَذْهَبُ الْحُجَّاجُ إِلَى عَرَفَاتٍ فَيُصَلُّونَ بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَصْرًا وَجَمْعَ تَقْدِيمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيَتَفَرَّغُونَ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْهُمْ، رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»( ).
وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»( ).
فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ نَفَرَ الْحُجَّاجُ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَصَلَّوْا بِهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا وَقَصْرًا، وَلَا يُحْيِي الْحُجَّاجُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَا بِصَلَاةٍ وَلَا ذِكْرٍ؛ فَالمَنْقُولُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ نَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَلَوْ فِي اللَّيْلِ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ»( ).
فَإِذَا طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مِنًى فَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا يَذْبَحُ هَدْيَهُ، ثُمَّ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، وَيُحِلُّ إِحْرَامَهُ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيَسْعَى المُتَمَتِّعُ سَعْيَ الْحَجِّ، وَأَمَّا الْقَارِنُ وَالمُفْرِدُ فَيَسْعَيَانِ إِنْ لَمْ يَكُونَا سَعَيَا مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَلَّلُ الْحَاجُّ التَّحَلُّلَ الْأَكْبَرَ، وَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ.
ثُمَّ يَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ إِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ، يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ وَلَا يَجْمَعُ، وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ: الصُّغْرَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْعَقَبَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَرْمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَجُوزُ الرَّمْيُ لَيْلًا، وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الْقُصْوَى، وَلِلْأَسَفِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَسَاهَلُوا فِي التَّوْكِيلِ فِي الرَّمْيِ.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ لِمَنْ تَعَجَّلَ يَرْمِي الْحَاجُّ الْجَمَرَاتِ، ثُمَّ يُبَادِرُ بِالِانْصِرَافِ مِنْ مِنًى، فَإِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ لَمْ يَنْصَرِفْ مِنْ مِنًى بَاتَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَرَمَى الْجَمَرَاتِ، إِلَّا إِذَا بَاشَرَ الرَّحِيلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، لَكِنَّ الزِّحَامَ أَعَاقَهُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ مِنًى قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي مِنًى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، وَالْبَقَاءُ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي مِنًى أَفْضَلُ، ثُمَّ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مِنًى طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَرَحَلَ إِلَى بَلَدِهِ، وَالمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ سَقَطَ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَرْضَهُ فَلْيُبَادِرْ بِالْحَجِّ، وَلَا يُؤَخِّرْهُ؛ فَهُوَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ وَهُوَ قَادِرٌ فَقَدِ ارْتَكَبَ إِثْمًا عَظِيمًا، وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ الْحَجَّ يَوْمًا فَلَا يَسْتَطِيعُهُ، فَلْيُعَجِّلْ مَا دَامَ قَادِرًا، وَمَنْ كَانَ حَجَّ فَرْضَهُ فَلْيَتَزَوَّدْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُكْثِرْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَفَضْلُهُمَا عَظِيمٌ، وَثَوَابُهُمَا جَزِيلٌ، وَإِلَيْكُمْ طَرْفًا مِنْ أَقْوَالِ المُصْطَفَى ﷺ فِي ذَلِكَ:
فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»( )، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ؛ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ»( )، وَقَالَ ﷺ: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ»( ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ»( )، وَقَالَ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: الإِيمَانٌ بِاللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ، كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا»( )، وَعَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ»( ). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى منْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»( ).
أَيُّهَا المُسْلِمُ: لَعَلَّ هَذِهِ النُّصُوصَ حَافِزَةٌ لَكَ عَلَى تَكْرَارِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَتَتَابُعِهِمَا، وَعَدَمِ التَّقَاعُسِ وَالتَّكَاسُلِ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ عَنْ تَخْذِيلِ مَنْ يُكْثِرُ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْخَيْرَ، فَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ..




الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ- لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ، أَيَّامُ الْعَشْرِ، أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1-2]، وَقَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي: الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»( ).
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَاصَّةً أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهِيَ التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ، فَقَدْ ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الْأَحاَدِيثُ، «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، فَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا»( ).
وَيُسَنُّ صِيَامُ تِسْعِ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَصِيَامُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ المَأْمُورِ بِهِ فِيهَا، وَخَاصَّةً يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ»( ).
وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَلَا يَصُومُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مُفْطِرًا ( ).
كَذَلِكَ تُسَنُّ الْأُضْحِيَةُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ؛ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ( )، وَهَذِهِ الْأَضَاحِي سُنَّةُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّ ذَبْحَهَا خَيْرٌ مِنَ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِهَا، ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَلِلْأُضْحِيَةِ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، وَهِيَ: أَنْ تَبْلُغَ السِّنَّ المُعْتَبَرَةَ، وَهِيَ خَمْسٌ لِلْإِبِلِ، وَسَنَتَانِ لِلْبَقَرِ، وَسَنَةٌ لِلْمَعْزِ، وَنِصْفُهَا لِلضَّأْنِ، وَأَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَهِيَ المَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ( ).
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْتَارَ السَّمِينَةَ الطَّيِّبَةَ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَانٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِعْظَامُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا( ). وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ»( ).
وَمِنْ شُرُوطِ الْأُضْحِيَةِ: أَنْ تَقَعَ فِي الْوَقْتِ المُحَدَّدِ، وَهُوَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالذَّبْحُ فِي النَّهَارِ أَفْضَلُ مِنَ اللَّيْلِ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الذَّبْحَ فَذَبْحُهَا بِيَدِهِ أَفْضَلُ، وَيُسَمِّي وَيُكَبِّرُ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا لَكَ وَمِنْكَ، اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ أَشْخَاصًا أَجْزَأَتِ النِّيَّةُ فِي تَحْدِيدِهِمْ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا أَظْفَارِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَال ذِي الحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ»( )، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَيَتَصَدَّقَ وَيُهْدِيَ، وَلَا يُعْطِي الْجَزَّارَ أُجْرَتَهُ مِنْهَا، إِلَّا أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ: اتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ، وَعَظِّمُوهَا كَمَا عَظَّمَهَا رَبُّكُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَعَظِّمُوا حُرُمَاتِ اللهِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
أَلَا صَلُّوا وَسَلِّمُوا...
المرفقات

العشر والحج والأضحية من الخطب القديمة.doc

العشر والحج والأضحية من الخطب القديمة.doc

المشاهدات 4000 | التعليقات 4

الحواشي لم تظهر هنا ولا أدري ما السبب لكنها موجودة في ملف الوورد المرفق بالخطبة


جزاك الله خيرا


جزاكم الله تعالى خيرا أيها الإخوة الفضلاء على مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن يفع بكم وأن يستجيب دعواتكم


جزاك الله خيراً د. إبراهيم، وجعله في ميزان حسناتك