العشر من ذي الحجة.. فضائلها والأعمال المستحبة فيها .
محمد مهدي بن نذير قشلان
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فهو المهتد، ومَن يُضلل فَلن تجدَ له وليًّا مُرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله: يَقُولُ في حديث قدسي جليل عن عباده المؤمنين الذين قصروا في الخروج إلى بيته الحرام من غير عذر: «إِنَّ عَبْدًا أصَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ يَأْتِي عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ»[1].
- اللهم لا تَحرمنا من عطائك، اللهم لا تحرمنا من فضلك، اللهم أكرمنا بالحج إلى بيتك الحرام، اللهم إن سبق في علمك أننا لن نمكن من الحج في هذا العام، اللهم فأكرمنا في العام القابل على أحسن حال ترضاه، وقد فرجت كروبنا، ورفعت الغمة عنا وعن أُمتنا، يا أكرم مسؤول، ويا أجود مأمول، إلهي:
ما في الوجود سواك ربٌّ يُعبدُ
كلا ولا مولى سواك فيقصد
يا من له عنتِ الوجوهُ بأسْرها
رهبًا وكل الكائنات تُوحِّد أنت الإلهُ الواحدُ الفردُ الذي
كلُّ القلوب له تقرُّ وتشهد
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسول الله، عبد الله حقَّ عبادته حتى أتاه اليقين من ربه، اسمع إليه وهو يقول:
«مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ»؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»[2].
أما بعد، فيا إخوة الإيمان والإسلام، نحن على أبواب العشر المباركة من ذي الحجة، ولقد حثنا الحبيبُ صلوات الله عليه على اغتنام الأيامِ الفاضلةِ والساعاتِ المباركة، فاللهُ خلقَ الأزمانَ، وجعل بعضَها أعظمَ بركةٍ من بعض، وميَّز بعضَها بمزيد محبة منه سبحانه للعمل الصالح فيها،
ومما يدل على فضل هذه العشر أن اللهَ تعالى أقسم بها، فقال: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، فالقَسَم بها يدل على رِفعة مكانتها وتعظيمِ الله لها[3]. ومن فضائلها: أن الله تعالى أكمل لنا فيها دينه، وحصَّنَ فيها رسالته، وقد حسدنا اليهودُ على هذا الكمال؛ حتى قال حبرُ من أحبارهم لعمرَ رضي الله عنه: "آيةٌ في كتابكم، لو نَزَلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: (وَاللَّهِ لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَتْ عَشية عَرَفَة، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)[4].
ومن فضائل هذه العشر: أنه يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها، وهذا من كمالها وخصوصيتها، فتجتمع فيها الصلوات والصدقات والصيام، والهدي والأضاحي، وفيها الحج إلى البيت الحرام، وفيها التكبير والذكر والتلبية والدعاء[5].
ومن فضائلها: أن محبةَ اللهِ تعالى للعمل الصالح فيها تفوقُ محبتهُ سبحانه للعمل الصالح في غيرها، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ من ذي الحجة"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ, إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ»[6]. أي: جاهد في سبيل الله ولم يرجع. ومن فضائلها: أن فيها يومَ عرفة، وهو اليومُ التاسعُ من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ.. »[7].
ومن فضائلها: أن فيها يومَ النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أعظم الأيام؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ»[8]، ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الأول من العيد، وفيه الكثير من أعمال الحج، وفيه صلاة العيد، وفيه التقرب لله بذبح الأضاحي، أما يومُ "الْقَرِّ"، فهو اليَوْمَ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، ثاني أيام العيد، وسُمي بذلك؛ لأن الناس يقِرون أي يستقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا.
معاشر الأحبة، فضائل العشر كثيرة، لذا ينبغي أن نغتنمَها، وأن نسابق إلى الخيرات فيها، فطوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح الذي يقربه إلى ربه ويرفعه به درجات في الجنة،
ومن القربات المطلوبة المندوبة في هذه العشر: الإكثار من الصيام فيها، فقد قال الفقهاء رحمهم الله: يُستحب صوم العشر، ما عدا العاشر منه[9]، وهو يوم النحر الذي هو يوم عيد الأضحى المبارك، فلا يجوز الصيام فيه باتفاق، وصيام العشر يدخل في جملة العمل الصالح الذي حثنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المشهورة الصحيحة في قربات العشر، ومنها ما صح عن أم سلمة رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ، وَالْخَمِيسَ»[10]،
وآكدُ أيامِ العشرِ يومُ التاسع يوم عرفة، فإذا لم تصم يا عبد الله مِن أول ذي الحجة، فاعزم على صوم التاسع، وهو يوم عرفة، يومٌ يكثر فيه عتقُ اللهِ لرقابِ عباده من النار.
كما ينبغي على المسلم أن يكثر من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، وقراءة القرآن والاستغفار في هذه الأيام لخصوصية الزمان وبركته؛ قال صلى الله عليه وسلم قال: « مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»[11]. وعلى المسلم في هذه الأيام المباركة أن يكثر من أعمال الخير التي تنفع الناس، فأحب الخلق إلى الله تعالى أنفعهم للناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ»[12].
ما أكثرَ أبواب الخير التي ينبغي أن نطرقها في مثل هذه الأيام المباركة، وأفضل العبادات في زمن الفاقات والحاجات والمحن هي: "العبادة التي يتعدَّى نفعها للآخرين"،
ترى ألا يستطيع البعض منا أن يرفع همًّا وغمًّا عن أسرة معدمة، فيدفع عنها فاتورة كهرباء أو ماء، أو يدفع قسطًا واحدًا لأولادها في المدارس، ترى أليست هذه أعمالًا ربما تفوق أجر الصائم القائم إن أخلص صاحبها؟! ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأَنْفَال: 60].
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، اللهم أجرِ الخير على أيدينا، واجعل لنا سهمَ خير في كل برٍّ ومعروف، لا تدعنا اللهم في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين[13].
[1] رواه أبو يعلي في مسنده، وابن حبان بسند صحيح.( الأحاديث القدسية الأربعينية لعلي الهروي القاري ص: 87 الحديث السادس والثلاثون)
[2] أخرجه الترمذي وأبو داود، وفي رواية البخاري قال: «ما العملُ في أيام أفضل منها في هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ ... وذكره».
[3] قال ابن عاشور: هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر، واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر، وإذ قد وصفت بها العدد تعيَّن أنها عشر متتابعة، وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم، وليس في ليالي السنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجة التي هي وقت مناسك الحج، ففيها يكون الإحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر، فتعيَّن أنها الليالي المرادة بليال عشر، وهو قول ابن عباس وابن الزبير؛ ا.هـ؛ التحرير والتنوير 30/ 313.
[4] ذكرها ابن كثير وعزاها الرواية للإمام أحمد؛ انظر: (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 26 وما بعدها)، دار طيبة للنشر والتوزيع.
[5] قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه: وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره، فتح الباري، 2/ 460، دار المعرفة.
[6] أخرجه البزار؛ كما في كشف الأستار: (2/ 28، رقم 1128) وهو صحيح.
[7] صحيح مسلم عن عائشة 2/ 982.
[8] أخرجه أبو داود رقم (1765) في المناسك، باب الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ، وإسناده قوي؛ (جامع الأصول 3/ 355)، وهو في صحيح ابن خزيمة 4/ 273؛ قال الأعظمي: إسناده صحيح.
[9] الموسوعة الفقهية الكويتية 30/ 118.
[10] رواه أبو داود رقم (2437) في الصوم، باب في صوم العشر، والنسائي 4 / 220 في الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورواه أيضًا أحمد في "المسند"، 5 / 271 و6 / 288 و423.
[11] قال صاحب الكنز: (رواه الطبراني عن ابن عباس، وأحمد، وابن أبي الدنيا في فضل عشر ذي الحجة، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر)؛ (كنز العمال 12/ 318 برقم: 35192).
[12] قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه سكين بن سراج وهو ضعيف، (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/ 191)، وحسنه في صحيح الترغيب. [13] ألقيت هذه الخطبة في أحد مسجد عمان عام 1439 هـ.
وكتبه أخوكم محمد مهدي بن نذير قشلان