العشر الحسان عشر ذي الحجة..11/28/ 1439هـ
عبد الله بن علي الطريف
1439/11/27 - 2018/08/09 17:56PM
العشر الحسان عشر ذي الحجة..11/28/ 1439هـ
الحمد لله الذِي فاضلَ بين الليالي والأيام، فجعل عشر ذي الحجة خير الأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّى وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام.
أما بعد: أيّها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فالتقوى خيرُ ما يُوصى به ويُحثُ عليه، وهي سببٌ لجلب الخيراتِ، وبها تحصلُ المسرَّات وتندفعُ الكُرُبات.. يقول ربنا: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء:131]
أيها الأحبة: تُطلُّ على الأمّةِ الإسلاميّةِ بعد أيام مواسمُ عظيمة، وتحلُّ بهم أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتسابِ الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصةٌ لتحصيلِ الحسناتِ والحَطِّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، وهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرُها أجرًا، وأحسنها حسناً فمن حسنها أن الله تعالى أقسم بها بل جعلها المقسم به، والمقسم عليه، لأن أمرها ظاهرٌ مهمٌ، فقال الله تعالى: (وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1،2] قال ابنُ جريرٍ رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ عليه.
ومن حسنها ثناء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العمل الصالح فيها ثناءً لم يقله بغيرها فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» يعني أيّامَ العشر قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ». رواه البخاري، وعند البيهقيّ والدارمي: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي العَشْرِ الْأَضْحَى» قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟، قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».
وروى البزّار في مسنده قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ" يعني عشرَ ذي الحجّة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ" عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما.
ومن حسنها عناية السلف الصالح بالعمل بها والاجتهاد فيها بما لا يجتهدونه في غيرها وحثهم على العمل الصالح فيها.. فَقَد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ" وُروي عنه أنه كان يقول: لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر، يشير إلى قيام الليل، وقال مجاهد: العمل في العشر يضاعف. قال الحافظ ابن رجب: رحمه الله: دل هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِه أحبُ إلى الله من العملِ في أيامِ الدنيا من غير استثناء شيءٍ منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده وقال: جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها، وقال أيضًا: العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها، وقال أيضًا: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعقر جوادُه ويُهراق دمُه .
ومن حسن أيّامٌ العشر وقوع أعظم تجمع إسلامي واجب على المستطيع من الأمة فيها.. هذه العبادة التي يحلم بأدائها مئات الملايين من المسلمين: إنها الركن الخامس الحجّ إلى بيتِ الله الحرام، وقد وعَدَهم ربنا بالخير العظيمِ والثّواب الجزيل، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» [أي نقيا من الذنوب] متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
«وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ..
ولعظمة هذه الفريضة وتوسيع دائرة المشاركة فيها لمن لم يتيسر له الحج جعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معين الحاج الذي لا يستطيع الحج بماله أو نفسه له من الأجر مثل ما للحاج. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا، أَوْ جَهَّزَ حَاجًّا، أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ". رواه ابن خزيمة وصححه الألباني. عن زيد بن خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
معاشرَ الإخوة: ومن حسنها اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها هذا لا يكون إلا بها قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها. انتهى. لذلك يشرع صيام هذه الأيّام الفاضلةُ، ويتأكّد فضلُه فيها، فعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. رواه النسائي صححه الألباني. قال النوويّ رحمه الله: عن صيامِ هذه التسعة أنه مستحبّ استحبابًا شديدًا.
وعن أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. رواه مسلم. وقال النووي: صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده معناه: ذنوب صائمه في السنتين قالوا: والمراد بها الصغائر، وذكرنا إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجاته.
أيها الإخوة: من حسن ِهذه العشر وبهائها فضيلةُ الإكثار فيها من التهليل والتكبيرِ والتحميد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ رواه أحمد وإسناده صحيح وله شاهد عند الطبراني.
وقال البخاريّ في صحيحه: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ.
وعن يزيدَ بنِ أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًاـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير. قال ابن القيم رحمه الله: وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: وَٱلْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ. ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد.
أيها الإخوة: التكبيرُ عند أهلِ العلم نوعان مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع أوقات العشر في الليل والنهار من بداية العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء. وأصحُّ ما ورد في وقتِ التكبير المقيّد ما ورَد مِن قولِ عليٍّ وابنِ عبّاس رضي الله عنهما: أنّه للمقيمين مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق. أخرجه ابن المنذر وغيره. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد له عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر. وطريقة التكبير المقيد إذا سلَّمَ المصلي من صلاته يقول أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.. ثم يكبر ما يشاء الله له أن يكبر، ثم يعود إلى أذكار الصلاة. هكذا قال لي شيخنا محمد العثيمين رحمه الله
قال في فتح الباري: وَأَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَبِّرُوا اللَّهَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَقِيلَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَزِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَخْ، وَقِيلَ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْنِ بَعْدَهُمَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.. جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَنِ بن مَسْعُودٍ نَحْوُهُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
أيّها الإخوة: ومن حسنها أن فيها يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى وهما من أعظم أيام الله وسيكون لهما حديث خاص بحول الله.
ومن حسنها وقوع أول يوم لذبح الأضاحي فيها وذبح الأضاحي مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام، ومَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فلا يأخذْ مِن شعره وأظفاره أو جِلده شيئاً حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال: إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي. رواه مسلم. بارك الله لي ولكم.....
الخطبة الثانية
أمّا بعد: أيّها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّتُه اللاّزمة وفرضُه المتَحتِّم.
أيها الإخوة: واجبنا جميعًا استشعار نعمة العشر واغتنام هذه الفرصة، وأن نخُّص العشر بمزيد عناية، ونُعظِّمها أشد التعظيم ونُكثر فيها من العمل الصالح، فمن لم يُمكنه الحج فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصدقةِ والإنفاقِ في سُبلِ الخيرِ والشفقةِ على الضعفاءِ ورحمةِ الفقراء وبرِ الوالدين وصلةِ الأرحام والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والدعوةِ إلى الله، وغيرِ ذلك من طرقِ الخيرِ وسبلِ الطاعة.
لنحرص إخوتي على استثمار مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطرُ عظيمٌ، وإلى الله تعالى المرجعُ والمآب، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
عباد الله صلوا على نبيكم .......