العشر الأواخر وختام رمضان

أ.د عبدالله الطيار
1438/09/18 - 2017/06/13 20:11PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله حقَّ التقوى، فهي سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة من كربات يوم الدين. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر:18).

عباد الله: لقد أكرم الله تعالى هذه الأمّةُ بشهرٍ عظيم كريم تتطهَّر فيه النفوس من أدران المعاصي والآثام ومن مساوئ الأفعال والأقوال، يشغَل المسلِمون فيه أوقاتَهم بالطّاعة من صيام وقيام وتلاوة للقرآن وبذل للخير وذكر ودعاء، فينزِّه الصيامُ نفوسَهم، ويهذِّب القِيامُ أخلاقَهم، ويُلين القرآن والذكر قلوبَهم، ويذهب الإنفاق في سبيل الله شح نفوسهم، فيتسَابقون فيه بالفَضائل، ويتنافسون في أيّامه بالجود وبذل الكرائم، وها هو شهر رمضان قد بادر على الرحيل ولم يبق منه إلا أيام، فيا ليت شعري من الذي يعرف قيمة رمضان فيبذل فيه القليل ليحصل على خير كثير، فالمغبون حقاً هو من يدخل عليه رمضان ثم يخرج منه ولم يغفر له.

أيها الصائمون والصائمات: ها هي أيام شهر رمضان تمضي، وها هي أيامه تطوى، وتمر مرواً سريعاً، فأين المتنافسون، وأين المتسابقون؟ وأين أصحاب الهمم العالية لتحصيل الأجور، وتكثير الحسنات؟ لقد مرّ من هذا الشهر أكثر من ثلثيه، ولم يبق منه إلا الثلث الآخر منه، فهل راجعنا أنفسنا فيما مضى من تقصير؟ وهل نجاهد أنفسنا فيما بقى لنقدم فيه اليسير لتحصيل الرحمة والمغفرة؟ إنها والله فرصة عظيمة فلا تضيعوها بالتسويف.

فهلموا عباد الله إلى طريق الفوز والنجاة، واعلموا أن الله جل وعلا وعد عباده المؤمنين في هذا الشهر الكريم أن يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، وأن يعتق رقابهم من النار، وأن يدخلهم الجنة دار الأبرار .. فهيا يا من فرطت فيما مضى قبل أن يمضى ما بقى إلى تحصيل المغفرة والتقوى، فهما سبيلان إلى الجنان، وهما طريقان يوصلان إلى رضا الرحمن.
أيها الصائمون والصائمات: ها هي العشر الأواخر قد بدأت، وفيها تزكو الأعمال وتُنال الآمَال، ويتنافَس المشمِّرون، وتمتحن الهِمَم، ولقد كان قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم (إذا دَخَلتِ العَشر الأواخرُ أحيا الليلَ وأيقَظ أهلَه وشَدَّ المئزر)(متّفق عليه).
وكان يجتهد في هذه العشر دون غيرها، فقد قالت عائِشة رضي الله عنها: (كانَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يجتَهِد في رمَضان ما لا يجتَهِد في غيره، وفي العَشرِ الأواخر منه ما لا يجتَهِد في غيرها)(رواه مسلم)..
إن أيام العشر الأواخر من رمضان من أفضل أيام هذا الشهر ولياليه شرفًا ورفعة وفضلاً لما اختصّها الله به من ليلة عظيمة، ألا وهي ليلة القدر التي عظَّم الله سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر:1ـ 3)، وشرفها بإنزال الوحي المبين على سيد المرسلين، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(الدخان:3، 4).
فهي ليلة عظيمة البركات،كثيرة الخيرات،تضاعف فيها الحسنات
وتستجاب فيها الدعوات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية وجليل النفحات الإلهية.
وقد رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في التماس ليلة القدر في ليالي العشر الأواخر، وخاصة في ليالي الوتر، وأرجى تلك الليالي هي ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر الكريم، لقوله صلى الله عليه وسلم:( تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي)(رواه مسلم)، وفي لفظ آخر له:( فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ)، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تدعو به في ليلة القدر إن هي وافقتها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تقول:( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)(رواه ابن ماجة والترمذي). وقد أخفى الله عز وجل هذه الليلة عن العباد ليجتهدوا في سائر الليالي ولا يتكلوا على فضلها، ولذا لا ينبغي التكلف في البحث عن المرائي وتعبيرها وتحديد هذه الليلة لأن هذا يتنافى مع الحكمة من إخفائها.
فعلينا أن نغتنمَ هذه الليالي المباركة، بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى:{أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28). وأيضاً التذلل بين يدي الله جل وعلا، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما تقدم من ذنوبه وخطاياه، يقول صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري ومسلم).
أيها الصائمون والصائمات: لا تغفلوا عن الدّعاءُ في هذه الليالي المباركة، فالدعاء هو الحَبلُ الممدود بينكم وبين ربكم فتشبثوا به ففيه الخير والفلاح، قال تعالى{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(البقرة:186) ، ففي كلِّ ليلةٍ ساعةُ إجابةٍ، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم فقال:(إنَّ في اللّيلِ ساعةً لا يوافِقُها رجلٌ مسلِم يسأَل الله خيرًا مِن أمرِ الدّنيَا والآخرَةِ إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ)(رواه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(القدر).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن التقوى هي طريق الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: ومما يُسَنّ في تلك الليالي المباركة الاعتكافُ، وهو لزومُ المسجد لطاعةِ الله جلّ وعلا، وقد غفل عن هذه السُنّة كثير من الناس، فهي فرصة لتجديد الإيمان وزيادته، وفرصة في تحصيل الأجور والحسنات، وفرصة في تهذيب النفس وتأديبها وإصلاحها، فالمعتكف ينقطع عن كل شيء، ويترك الدنيا وراء ظهره طلباً لمرضات الله تعالى ومغفرته، فلماذا لا يخصص كل واحد منّا بعض أيام إجازته السنوية ليأخذها في العشر الأواخر طلباً للخير بدلاً من تضييعها فيما لا يعود عليه بالفائدة، وقد كان النبيَّ صلى الله عليه وسلم يعتكِف في العشرِ الأواخرِ في رمضانَ، ثم اعتَكَف أزواجُه في حياته ومِن بعده.
والمقصودُ من الاعتكافُ حبس النفس على العبادة، وقطع العلاقة عن الخلق، والبعد عن شؤون الدنيا، وعكوف الجسد على طاعة الله تعالى، وإخلاء القلب عن كل أحد إلا الله جل وعلا.
وأقلّ مدّة الاعتكاف على الصحيح يومٌ وليلةٌ، ولا يصحّ الاعتكاف إلا في مسجدٍ تُقام به الجماعة.
ولا يجوزُ للمرأة الاعتكافُ إلا بشرطين: إذن زوجها أو وليها، وأمن الفتنة، وينبغي عليها أن تكون في أكملِ الأحوال من الاحتشامِ والحياء.

ولا يخرج المعتكفُ من معتَكفه إلا لِما لا بدَّ له منه شرعًا كالخروج لصلاة الجمعة، أو قضاءِ حاجةٍ. قالت عائشة رضي الله عنها: (السنة للمعتكفِ أن لا يخرجَ إلا لما لا بد له منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيتَ إلا لحاجة الإنسان)(متفق عليه).

والأفضل لمن أراد اعتكافَ العشر كاملة أن يدخُل المسجد قبل غروب شمس اليوم العشرين من رمضان، ولا يخرج إلا بعد ثبوت دخول شهر شوال.

ويستحب للمعتكف أن يُكثر من نوافل العبادات, و يشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ونحو ذلك من الطاعات والعبادات التي تقرب العبد من ربه عز و جل.

ولا يجوزُ للمسلم أن يضيِّع واجبًا عليه لأجلِ الاعتكاف المسنونِ، ومَن كان في خدمةِ المسلمين وقضاء حوائجهم فالأفضل له الاستمرارُ في عمله؛ لأنّ العملَ المتعدّي أفضلُ من القاصر على الشخص نفسه، ومَن منعه والداه من الاعتكاف فيجب عليه طاعتُهما، ويأثم إن اعتكف بغير رضاهما.

ويستحبُّ للمعتكفِ اجتنابُ فضولِ المباحاتِ من مخالطةِ الناس وفضول الكلام والمنام التي لا يحتاجُ إليها؛ حتى تكمل خلوتُه ويحصلَ مقصود اعتكافه، وليحرص على أن يكفَّ أذاه عن المصلّين، وأن يتأدّب بآدابِ المسجد، وأن يحرص على نظافته.
وينبغِي للمعتكفِ أثناءَ الصلاة التجمّلُ بما لدَيه من الملابسِ غير ملابسِ النّوم.

ومما ينافي مقاصدَ الاعتكاف فتحَ المجال من قِبَل المعتكفين لمن يأتيهِم من الزوارِ أثناءَ الليل وأطراف النهار؛ مما يحصل معه تضييعُ الأوقاتِ بما لا فائدةَ فيه، بل وقد يتخلّله ما لا يحلّ من الأحاديثِ المحرمّة كالغيبة ونحوها، والشيطانُ حريصٌ. وإلا فلا بأسَ أن يتحدّث مع من يأتيه ما لم يكثر؛ لأنّ صفيّة رضي الله عنها زارت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثت معه في معتكفه.
عباد الله: إن من أعظم الغنائم استغلال هذه الأيام المباركة الكريمة، فما منها عوض ولا في سواها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بأعظم الجوائز، فإياكم أن تعودوا إلى رق الأوزار بعد رمضان.

فها هو شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه بالتمام، ومن فرط فليختمه بالحسنى، والعمل بالختام.

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا, اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم أن نلقاك فيه، اللهم بلغنا ليلة القدر وأعنا على قيامها إيمانا واحتساباً بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، اللهم أعتق رقابنا من النار ووالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم عاجلاً غير آجل، وفرج عنهم ما هم فيه من الضيق والهم والغم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم أطبق عليهم قبضتك وبطشك، ورجزك وعذابك، اللهم عليك بالظالمين المعتدين على بلاد المسلمين، فإنهم قد بغوا وطغوا، وأكثروا الفساد، اللهم صبَّ عليهم سوط عذابك، اللهم خالف بين رأيهم وكلمتهم، اللهم شتت شملهم، وفرق صفهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بوعدك ونصرك المبين، فإننا على ثقة ويقين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، اللهم أصلح شبابنَا وبناتِنا، وأزواجَنا وذرياتِنا. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة).

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 22-9-1433هـ
المشاهدات 849 | التعليقات 0