العشر الأواخر عشر الجد.
عبد الله بن علي الطريف
العشر الأواخر عشر الجد.1444/9/16هـ
الحمد لله المنعمِ علينا بمواسمِ الخيرات، والمتفضلِ علينا بعظيمِ الهبات، نحمدُه تعالى ونشكره، ونتوبُ إليه ونستغفرُه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]
أيها الأحبة: هكذا الدنيا، وهكذا الأيام تتقضَّى وتذهب، وكأنها لم تمر، ها هي ليالي العشر الأواخر من شهرِ الخيرِ قد أقبلت، وهي أفضل ليالي العام، فهنيئًا لمن أدركها، ويا سعد من وُفِّق فيها لإدراك ليلة القدر وقيامها..
أيها الإخوة: هدي رسولنا خير الهدي، وحري بنا أن نتحرى هديه لنقتفي أثره.. وخير من يصف لنا حاله في العشر أهلُ بيتِهِ تَقُوْلُ أمُنا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»، وقالت: كَانَ ﷺ «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ» رواهما مسلم.
رواه الترمذي وصححه الألباني ورواه أحمد. وعَنْ عَلِىٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
قال في تحفة الأحوذي: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «لَمْ يَكُنْ ﷺ إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا يُطِيقُ الْقِيَامَ إلا أقامه».
فيعلم من هذا أن النبي ﷺ كان يخص العشر الأواخر من رمضان بعملٍ لا يَعْمَلُهُ في أول الشهر ولا في وسطه ومن ذلك: قال شيخنا محمد العثيمين: أنَّ النبيَّ ﷺ كان يجتهدُ بالعملِ في العشر أكثرَ مِن غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ ﷺ كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره. وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبيُّ ﷺ إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه. وفي المسند عنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ.
ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، لأنَّ النبيَّ ﷺ كان يجتهدُ فيها أكثر مما يجتهدُ في غيرِهِا وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها؛ ولأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَشدُّ مئزرَه يعْني يعتزلُ نساءَه ليتفَرغَ للصلاةِ والذكرِ، ولأنَّ النبيَّ ﷺ كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلباً لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَاً واحتساباً غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه، وظاهِرُ هذا الحديثِ أنَّه ﷺ يُحْيِي الليلَ كلَّه في عبادةِ ربِّه مِنَ الذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والاستعدادِ لذلِكَ والسحورِ وغيرها، وبهذا يحْصُلُ الجمْعُ بَيْنَه وبينَ مَا في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ» لأنَّ إحياءَ الليل الثَّابتَ في العشرِ يكونُ بالقيامِ وغيرِه مِنْ أنْواعِ العبادةِ والَّذِي نَفَتْه إحياءُ الليلِ بالقيامِ فَقَطْ. والله أَعلم.
أيها الأحبة: ومنها أن النبي ﷺ كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيرها من الليالي، ففي حديث أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْه أن النبي ﷺ لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة، وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» رواه الترمذي، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وصححه الألباني وأخرجه الطبراني كذلك، وزاد: «وكُلُ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ يُطِيْقُ الصَلَاةَ».
قال سفيان الثوري: "أحبُّ إليَّ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ أن يتهجَّدَ بالليلِ ويجتهدَ فيه ويُنْهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصلاةِ إن أطاقوا ذلك"..
وينبغي لكل راغب في إحياء ليلة القدر ألا يُفوت القيام مع الإمام حتى ينصرف في التراويح التي في أول الليل، وصلاة القيام أو التهجد التي في آخره، وعدم التفريط ولو بلحظة منهما فقد صح عن النبي ﷺ عند أصحاب السنن وغيرهم قوله: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ»، وصح عنه كذلك قوله: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه. وهذا الاهتمام بقيامِ الليلِ وإيقاظِ الأسرة له، صح عن النبي ﷺ في غير رمضان والعشر فقد كان يَطْرُقُ فاطمةَ وعلياً رَضِيَ اللهُ عَنْهما ليلاً فيقول لهما: «ألا تقومان فتصليان»، وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر.
وورد الترغيبُ في إيقاظ أحد الزوجين صاحِبَه للصلاة فقد قال النبي ﷺ: «رحِمَ اللهُ رجلا قامَ من الليلِ فصلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِن أَبَتْ نَضَحَ في وَجْهِهَا الماءَ، رَحِمَ اللهُ امرأة قَامَتْ من الليل فصلتْ وأَيقظتْ زوجَها، فإِنْ أَبَى نضحتْ في وجهه الماءَ». رواه أبو داود والنسائي وقال الألباني حسن صحيح.
وَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْه يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ. يَقُولُ لَهُمُ: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ": (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..) الآية [طه:132] رواه مالك في الموطأ وصححه الألباني.
وكانت امرأة حبيب الفارسي تقول له بالليل: قد ذهب الليلُ وبين أيدينا طريقٌ بعيدٌ وزادنا قليلٌ، وقوافلُ الصالحين قد سارت قُدْامَنَا ونحن قد بقينا.
ويتأكد هذا الحث والترغيب والمتابعة والإيقاظ في رمضان والعشر خصوصاً الأوتار منها..
أحبتي: وفي هذا الزمان صار السهر في رمضان سلوكٌ اجتماعي عام؛ وهذا يسهل علينا حث الأهل على استثمار ليالي العشر فالكل مستيقظ، ولن نجد عناء في إيقاظهم.. لكن علينا بذل الجهد في إقناعهم وترغيبهم في استثمار الليالي الفاضلة، والدعاء والثناء لمن بذل منهم جهداً في طاعة أو توجه إليها.. واللهَ الله في بذل الوسع في ذلك بلطف وحب، وأن نكون قدوة حسنة لهم من خلال إظهار الاهتمام في هذه الليالي والحرص على الوقت فيها.. وشغله في الطاعات المتنوعة.. وتأجيل كثير من الأعمال غير المهمة لما بعدها.. اللهم بلغنا ليلة القدر وأعظم لنا الأجر.. وبارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
أيها المتسابقون إلى الفردوس الأعلى: نحن الآن قرب خط النهاية.. فشدوا المآزر شدوها.. واستثمروا الثواني قبل الدقائق ففي الثانية تسبيحة وتحميدة، وقراءة كلمة من كتاب الله..
نعم: لا بد من التأكيد على الأسرة باستثمار هذه الأوقات، والاتفاق على الابتعاد عن كل الملهيات، وتصفية الجو للعبادة والدعاء وعموم الطاعات، ومراجعة النيات لتحويل المباحات إلى طاعات.. فالله الله بذلك..
ومما ينبغي التفكير فيه التقدم في شراء احتياجات العيد قبل العشر، وعدم تأخيرها لليالي العشر تلافياً للزحام، واستثماراً ليالي العشر بالطاعة لا بالتسوق.. وليس إدراك ليلة القدر خاصٌ بمن يستطيع الصلاة فقط فالمرأة الحائض والنفساء تستطيع استثمارها بالقراءة والدعاء والذكر وفعل الخير.
أيها الأحبة: ليلة القدر خير من ألف شهر.. وتبدأ بغروب الشمس وتنتهي بطلوع الفجر.. والعبادة فيها خير من العبادة في أكثر من ثلاثٍ وثمانين سنة.. وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، فقد مَنَّ الله تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القُوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلا نيفًا وثمانين سنة.
الله أكبر ما أثمنَ ثوانيها.. وأنفسَ الأنفاسِ فيها.! إنها ليلة لا كالليالي في خيرها وفضلها وبركتها.. فرسولنا ﷺ يقول: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"..
لنحافظ على صلاة التراويح بكل عزيمة ونشاط واغتباط.. وكذلك صلاة القيام.. ولا نضع منها تكبيرة..
ولنحذر من منقصات هذا الفضل فلا ننصرف ونترك بعض التراويح وهي قصيرة، ولا نتباطأ بالقيام حتى تنتصف الركعة ونحن لم نكبر...
وبعد أحبتي: هذه أيام عظيمة وأوقات نفيسة حري بنا أن نستثمر بها الثواني، ونزيد فيها بالعمل فشهرنا قد انتصف، وما بعد الانتصاف إلا الانتهاء، نعم بعضنا قد دب الفتور في نفسه، وشاهد ذلك ما يحس به بعضنا من ثقل في العبادة، فنحن مع أنفسنا بعراك وحق علينا أن نزيد في شحذ الهمة، ونكثر من الدعاء بالإعانة لنصل للقمة؛ وأن نعلم أن العشر الأوسط أفضل من العشر الأول والعشر الأواخر أفضلَ الشهر، لذلك أطلبوا العون من الله على الخير، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّ رَسُولَ ﷺ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ»، فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
تَنَصفَ الشهرُ والهفاه وانهدما ... واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغافلُ المسكينُ منكسراً ... مثــــــــــلي فيا ويحه يا عُظْمَ ما حُرما
من فاته الزرعُ في وقت البذارِ فما ... تــــــــــــــراه يحصــــــــــدُ إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه ... في شــــــــــــهره وبحبل الله معتصمـــــــــــــــا
أسأل الله لنا القبولَ والأجر وإدراكَ ليلة القدر.. وصلوا سلموا على نبيكم...