العشر الأواخر
منديل الفقيه
1434/09/17 - 2013/07/25 23:29PM
العشر الأواخر
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل رمضان سيد الشهور ، وضاعف الحسنات والأجور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفور ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد... فاتقوا الله أيها المسلمون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
أيها المسلمون: لقد أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة ألا وهي بلوغ شهر رمضان ، وما كنَّا لنبلغه إلَّا بفضل الحليم الرحمن. بلغنا رمضان ونحن في عافية في الأبدان وأمن في الأوطان ، ورغد عيش بين الأهل والوالدان فالحمد لله كالذي نقول وخيراً مما نقول.
أيها المسلمون : ما أسرع الزمان بالأمس كنَّا نترقب هلال رمضان ، وها نحن نترقب دخول العشر الأواخر ، هاهي أيام الشهر قد تتابعت ولياليه الغر قد تلاحقت ، هاهي أيام رمضان قد أوشكت بالرحيل وقد جاوزت نصف الشهر ، بعد يومين نستقبل العشر الأواخر منه والتي هي ختام الشهر ووداعه ، نقف على أبواب العشر الأواخر ونحن فقراء إلى رحمة الله ، نقف على أبواب العشر ونحن نشكو تقصيرنا إلى الله ، نقف على أبواب العشر وكلُّنا أمل وطمع في رحمة الله نسأل الله بفضله أن لا يخيب رجاءنا وأن يستجيب دعاءنا ، نقف على أبواب العشر التي ما دخلت على رسول الله إلَّا وشدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ، نقف على أبواب العشر التي إذا دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى المساجد معتكفين راكعين ساجدين يبتغون فضلاً من الله ورحمة وهو أرحم الرحمين . سيماهم في وجوههم من أثر السجود، قد فارقوا النوم والهجود، ويرجون رحمة الحليم الودود ، ويسألونه مقاماً مع الركع السجود في جنات الخلود ، قد سمت أرواحهم إلى الخيرات ، وتنافست أجسادهم في فعل الباقيات الصالحات . العشر الأواخر وما أدراك ما هذه العشر ؟ عظَّم الله شأنها ، وأقسم بها في كتابه المبين{والفجر وليال عشر}
أيها المسلمون: إنَّ الله عز وجل بحكمته فضَّل بعض الأزمنة على بعض ، وجعل منها مواسم للتجارة الرابحة . فكما أنَّه سبحانه فضَّل رمضان على سائر الشهور فقد جعل العشر الأواخر منه أفضل لياليه وأيامها أكمل أيامه وخصها بخصائص وميزها بمزايا وفضَّلها بفضائل ومن أظهر فضائل العشر وخصائصها:
أولا: اجتهاد النبي فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :" وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره " ومن اجتهاده في العشر أنَّه كان يحيي الليل فيها تقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر " متفق عليه . ومن مبالغته في الاجتهاد أنَّه كان يشد مئزره أي يعتزل النساء تفرغاً للعبادة واشتغالا بها ، ومن ذلك أيضاً إيقاظه أهله في لياليها . وكلُّ ما ذكر دليل على اهتمام الرسول بطاعة ربه ، ومبادرته للأوقات ، واغتنامه للأزمنة الفاضلة ، فاجتهدوا أيها المسلمون في عبادة ربكم وليكن لكم في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ولا تضيعوا ساعات هذه الأيام والليالي فإنَّ المرء لا يدري، فلعله لا يدركها مرَّة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم
ثانياً : من فضائل العشر وخصائصها أنَّ الله خصَّها بليلة القدر ، تلك الليلة المباركة لكثرة خيرها وبركاتها ومن فضائل هذه الليلة وبركاتها أنَّ القرآن نزل فيها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ},{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} هذا القرآن العظيم الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ومنها أنَّها خير من ألف شهر {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي عبادتها خير من عبادة ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة ، ومنها أنَّه فيها يكثر تنزل الملائكة لكثرة بركتها , والملائكة لا ينزلون إلَّا بالخير والبركة والرحمة ، ومنها أنَّها سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى وهي سلام لكثرة السلامة فيها من العذاب والعقاب بما يقوم به العبد من طاعة ربه جل وعلا ، ومنها أنَّه فيها يفرق كل أمر حكيم مما هو مقدر في العام {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}فيقدر فيها مقادير الخلائق على مدى العام , ومنها أنَّ الله أنزل في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة , ومنها أنَّ الله يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنوبه فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي :" مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ"وقوله أيماناً واحتساباً أي تصديقاً بوعد الله عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء وسمعة وغير ذلك , ولقد كان النبي يلتمس هذه الليلة ويطلبها ويتحراها مسابقة منه في الخير فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ" وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" البخاري ومسلم . وفي الوتر من العشر آكد فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" أي ليلة إحدى وعشرين , وثلاث وعشرين , وخمس وعشرين ,وسبع وعشرين، وتسع وعشرين , ويكون ذلك باعتبار ما بقي فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى"وعلى هذا إذا كان الشهر كاملاً ثلاثين يوماً فتكون هذه الليلة في الشفع أي أنَّ ليلة اثنين وعشرين هي التاسعة التي تبقى وهكذا فعلى المسلم أن يتحراها في العشر الأواخر جميعاً كما فعل النبي فقد قام العشر كلَّها وأرجاها الوتر وأرجى الوتر السبع الأواخر كما جاء عن ابن عمر :" أنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" متفق عليه , وعند مسلم عن ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي" وأرجى ليالي الوتر ليلة سبع وعشرين وقد حلف أبي كعب رضي الله عنه أنَّها ليلة سبع وعشرين ولم يستثن " وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الليلة نظراً لاختلاف الأدلة الصحيحة فيها ولكن رجح المحققون من أهل العلم أنَّها تنتقل وليست في ليلة واحدة معينة كلَّ عام ، قال الإمام النووي : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلَّا بانتقالها ) وقد أخفى الله تعالى علم هذه الليلة عن العباد رحمة بهم ليكثروا من الطاعة والعبادة طلباً لتلك الليلة وليرى المولى جدَِّ العباد واجتهادهم في تحرِّيها وطلبها وكثرة العبادة فيها كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها فنبغي للإنسان المسلم أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر واقتداءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تفوته هذه الأيام والليالي القلائل فإنَّ فيها أجراً عظيماً، وعليه أن يتعرض لنفحات الله فيها فلربما أصابته نفحة من نفحات الله فلا يشقى بعدها أبداً ، وعليه أن يكثر من الدعاء والتضرع وسؤال الله بصدق وتذلل خاصة ذلك الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها حين قالْتُ:" يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" أحمد والترمذي وابن ماجه .
أيها المسلمون: إنّ من رحمة الله وفضله لهذه الأمة أن هيأ لها فرص الأعمال الصالحة والمناسبات الفاضلة كالعشر الأواخر التي يبارك الله لهم فيها بالأعمال والأعمار فحين قصرت أعمار هذه الأمة عن أعمار الأمم السابقة عوَّضها الله تعالى بمثل ليلة القدر التي يعدل العمل فيها بل هو خير وأفضل من عمل ثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فلا تحرموا أنفسكم أيها المسلمون من هذه الفرصة العظيمة ولا يقعد بكم الكسل أو تستجيبوا لنزغات الشيطان بل قوموا مع القائمين وشاركوا المسلمين في صلواتهم ودعواتهم وخشوعهم وسلوا الله القبول فلا تدرون أتشهدونها في عام قابل أم تكونون في عداد الموتى . اللهم لا تحرمنا فضلك وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات والمبتعدين عن المعاصي والمنكرات اللهم ضاعف لنا الحسنات وأدخلنا في برحمتك عالي الجنات وجنبنا بفضلك وكرمك الجحيم والدركات بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
أيها المسلمون: ثالثاً: ومن فضائل العشر وخصائصها اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة والاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى والتفرغ لذكره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر تقول عائشة رضي الله عنها :" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ} متفق عليه. يقول الإمام الزهري : ( عجباً للمسلمين كيف يتركوا الاعتكاف مع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله ) , وسر الاعتكاف أنَّ في العبادات من الأسرار والحكم الشيء الكثير ، وذلك أنّ مدار الأعمال على القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وأكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله تعالى من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة وغير ذلك من الصوارف التي تفرِّق أمر القلب وتفسد جمعيته على طاعة الله فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف كالصيام مثلاً فإنَّ الصيام الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب والجماع في النهار ينعكس ذلك الامتناع عن فضول الملذات على القلب فيقوى سيره إلى الله وينعتق من أغلال الشهوات التي تصرف المرء عن الآخرة إلى الدنيا .
أيها المسلمون: وكما أنّ الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية من فضول الطعام والشراب والنكاح فكذلك الاعتكاف ينطوي على سر عظيم ألا وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة فإنَّ الصحبة قد تزيد عن حدِّ الاعتدال وفيه أيضاً حماية القلب من جرائر فضول الكلام لأنَّ المرء غالباً يعتكف وحده فيقبل على الله بالقيام وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك ، وفيه أيضاً حماية العبد من كثرة النوم فإنَّ العبد إنَّما اعتكف في المسجد ليتفرغ للتقرب إلى الله بأنواع الطاعات ولم يلزم المسجد لينام ، ولا ريب أنّ نجاح العبد في التخلص من فضول الصحبة والنوم والكلام يسهم في دفع القلب نحو الإقبال على الله وحمايته من ضد ذلك .
أيها المسلمون: لقد كان النبي إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة ، والأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء يقولون يدخل قبل الغروب وأوَّلوا حديث عائشة هذا أنّ المراد به أنَّه دخل المعتكف وانقطع وخلا بنفسه بعد صلاة الصبح لا أنَّ ذلك ابتداء وقت الاعتكاف . ويسن للمعتكف أن ينشغل بالطاعات من الذكر والدعاء والصلاة والصيام وقراءة القرآن وغيرها من الطاعات. ويحرم عليه الجماع ومقدماته ودواعيه { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . ولا يجوز للمتعكف أن يخرج من المسجد إلَّا لحاجة لا بدَّ منها ، ولا يمكن فعلها في المسجد لقول عائشة رضي الله عنها :"كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ" متفق عليه . ويجوز للمتعكف أن يجلس مع أهله وغيرهم ممن يأنس به ويتحدث معه في مباح قليلاً من وقته لأنَّ صفية رضي الله عنها زارت النبي في معتكفه وتحدَّث معها ساعة ثم قامت " رواه البخاري ومسلم وإن اشترط الخروج لعيادة مريض أو شهود جنازة فله الخروج ولا يخرج لذلك بلا شرط قالت عائشة رضي الله عنها :"إن كنت لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ " مسلم. وذهب العلماء إلى أنَّ الصوم شرط في صحة الاعتكاف ولكن الراجح أنَّ الصوم مستحب مع الاعتكاف لأنَّ الرسول اعتكف في شوال ولم يثبت أنَّه كان صائماً . والاعتكاف جائز في كل مسجد تقام فيه الفروض الخمسة ولكن يستحب أن يكون في جامع حتى لا يحتاج للخروج للجمعة ، ولا ينبغي للمعتكف أن يقضي وقته بالنوم أو الحديث مع فلان وعلَّان بل عليه أن يغتنم وقته ويحافظ عليه إذ الهدف من الاعتكاف هو حفظ الأوقات ومبادرة الحسنات والاشتغال بالطاعات . اللهم فقهنا في الدين ووفقنا للعمل به وثبتنا على الإسلام حتى نلقاك وأنت راض عنَّا يا كريم .
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل رمضان سيد الشهور ، وضاعف الحسنات والأجور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفور ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد... فاتقوا الله أيها المسلمون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
أيها المسلمون: لقد أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة ألا وهي بلوغ شهر رمضان ، وما كنَّا لنبلغه إلَّا بفضل الحليم الرحمن. بلغنا رمضان ونحن في عافية في الأبدان وأمن في الأوطان ، ورغد عيش بين الأهل والوالدان فالحمد لله كالذي نقول وخيراً مما نقول.
أيها المسلمون : ما أسرع الزمان بالأمس كنَّا نترقب هلال رمضان ، وها نحن نترقب دخول العشر الأواخر ، هاهي أيام الشهر قد تتابعت ولياليه الغر قد تلاحقت ، هاهي أيام رمضان قد أوشكت بالرحيل وقد جاوزت نصف الشهر ، بعد يومين نستقبل العشر الأواخر منه والتي هي ختام الشهر ووداعه ، نقف على أبواب العشر الأواخر ونحن فقراء إلى رحمة الله ، نقف على أبواب العشر ونحن نشكو تقصيرنا إلى الله ، نقف على أبواب العشر وكلُّنا أمل وطمع في رحمة الله نسأل الله بفضله أن لا يخيب رجاءنا وأن يستجيب دعاءنا ، نقف على أبواب العشر التي ما دخلت على رسول الله إلَّا وشدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ، نقف على أبواب العشر التي إذا دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى المساجد معتكفين راكعين ساجدين يبتغون فضلاً من الله ورحمة وهو أرحم الرحمين . سيماهم في وجوههم من أثر السجود، قد فارقوا النوم والهجود، ويرجون رحمة الحليم الودود ، ويسألونه مقاماً مع الركع السجود في جنات الخلود ، قد سمت أرواحهم إلى الخيرات ، وتنافست أجسادهم في فعل الباقيات الصالحات . العشر الأواخر وما أدراك ما هذه العشر ؟ عظَّم الله شأنها ، وأقسم بها في كتابه المبين{والفجر وليال عشر}
أيها المسلمون: إنَّ الله عز وجل بحكمته فضَّل بعض الأزمنة على بعض ، وجعل منها مواسم للتجارة الرابحة . فكما أنَّه سبحانه فضَّل رمضان على سائر الشهور فقد جعل العشر الأواخر منه أفضل لياليه وأيامها أكمل أيامه وخصها بخصائص وميزها بمزايا وفضَّلها بفضائل ومن أظهر فضائل العشر وخصائصها:
أولا: اجتهاد النبي فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :" وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره " ومن اجتهاده في العشر أنَّه كان يحيي الليل فيها تقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر " متفق عليه . ومن مبالغته في الاجتهاد أنَّه كان يشد مئزره أي يعتزل النساء تفرغاً للعبادة واشتغالا بها ، ومن ذلك أيضاً إيقاظه أهله في لياليها . وكلُّ ما ذكر دليل على اهتمام الرسول بطاعة ربه ، ومبادرته للأوقات ، واغتنامه للأزمنة الفاضلة ، فاجتهدوا أيها المسلمون في عبادة ربكم وليكن لكم في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ولا تضيعوا ساعات هذه الأيام والليالي فإنَّ المرء لا يدري، فلعله لا يدركها مرَّة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم
ثانياً : من فضائل العشر وخصائصها أنَّ الله خصَّها بليلة القدر ، تلك الليلة المباركة لكثرة خيرها وبركاتها ومن فضائل هذه الليلة وبركاتها أنَّ القرآن نزل فيها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ},{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} هذا القرآن العظيم الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ومنها أنَّها خير من ألف شهر {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي عبادتها خير من عبادة ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة ، ومنها أنَّه فيها يكثر تنزل الملائكة لكثرة بركتها , والملائكة لا ينزلون إلَّا بالخير والبركة والرحمة ، ومنها أنَّها سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى وهي سلام لكثرة السلامة فيها من العذاب والعقاب بما يقوم به العبد من طاعة ربه جل وعلا ، ومنها أنَّه فيها يفرق كل أمر حكيم مما هو مقدر في العام {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}فيقدر فيها مقادير الخلائق على مدى العام , ومنها أنَّ الله أنزل في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة , ومنها أنَّ الله يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنوبه فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي :" مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ"وقوله أيماناً واحتساباً أي تصديقاً بوعد الله عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء وسمعة وغير ذلك , ولقد كان النبي يلتمس هذه الليلة ويطلبها ويتحراها مسابقة منه في الخير فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ" وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" البخاري ومسلم . وفي الوتر من العشر آكد فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" أي ليلة إحدى وعشرين , وثلاث وعشرين , وخمس وعشرين ,وسبع وعشرين، وتسع وعشرين , ويكون ذلك باعتبار ما بقي فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى"وعلى هذا إذا كان الشهر كاملاً ثلاثين يوماً فتكون هذه الليلة في الشفع أي أنَّ ليلة اثنين وعشرين هي التاسعة التي تبقى وهكذا فعلى المسلم أن يتحراها في العشر الأواخر جميعاً كما فعل النبي فقد قام العشر كلَّها وأرجاها الوتر وأرجى الوتر السبع الأواخر كما جاء عن ابن عمر :" أنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" متفق عليه , وعند مسلم عن ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي" وأرجى ليالي الوتر ليلة سبع وعشرين وقد حلف أبي كعب رضي الله عنه أنَّها ليلة سبع وعشرين ولم يستثن " وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الليلة نظراً لاختلاف الأدلة الصحيحة فيها ولكن رجح المحققون من أهل العلم أنَّها تنتقل وليست في ليلة واحدة معينة كلَّ عام ، قال الإمام النووي : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلَّا بانتقالها ) وقد أخفى الله تعالى علم هذه الليلة عن العباد رحمة بهم ليكثروا من الطاعة والعبادة طلباً لتلك الليلة وليرى المولى جدَِّ العباد واجتهادهم في تحرِّيها وطلبها وكثرة العبادة فيها كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها فنبغي للإنسان المسلم أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر واقتداءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تفوته هذه الأيام والليالي القلائل فإنَّ فيها أجراً عظيماً، وعليه أن يتعرض لنفحات الله فيها فلربما أصابته نفحة من نفحات الله فلا يشقى بعدها أبداً ، وعليه أن يكثر من الدعاء والتضرع وسؤال الله بصدق وتذلل خاصة ذلك الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها حين قالْتُ:" يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" أحمد والترمذي وابن ماجه .
أيها المسلمون: إنّ من رحمة الله وفضله لهذه الأمة أن هيأ لها فرص الأعمال الصالحة والمناسبات الفاضلة كالعشر الأواخر التي يبارك الله لهم فيها بالأعمال والأعمار فحين قصرت أعمار هذه الأمة عن أعمار الأمم السابقة عوَّضها الله تعالى بمثل ليلة القدر التي يعدل العمل فيها بل هو خير وأفضل من عمل ثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فلا تحرموا أنفسكم أيها المسلمون من هذه الفرصة العظيمة ولا يقعد بكم الكسل أو تستجيبوا لنزغات الشيطان بل قوموا مع القائمين وشاركوا المسلمين في صلواتهم ودعواتهم وخشوعهم وسلوا الله القبول فلا تدرون أتشهدونها في عام قابل أم تكونون في عداد الموتى . اللهم لا تحرمنا فضلك وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات والمبتعدين عن المعاصي والمنكرات اللهم ضاعف لنا الحسنات وأدخلنا في برحمتك عالي الجنات وجنبنا بفضلك وكرمك الجحيم والدركات بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
أيها المسلمون: ثالثاً: ومن فضائل العشر وخصائصها اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة والاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى والتفرغ لذكره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر تقول عائشة رضي الله عنها :" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ} متفق عليه. يقول الإمام الزهري : ( عجباً للمسلمين كيف يتركوا الاعتكاف مع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله ) , وسر الاعتكاف أنَّ في العبادات من الأسرار والحكم الشيء الكثير ، وذلك أنّ مدار الأعمال على القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وأكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله تعالى من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة وغير ذلك من الصوارف التي تفرِّق أمر القلب وتفسد جمعيته على طاعة الله فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف كالصيام مثلاً فإنَّ الصيام الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب والجماع في النهار ينعكس ذلك الامتناع عن فضول الملذات على القلب فيقوى سيره إلى الله وينعتق من أغلال الشهوات التي تصرف المرء عن الآخرة إلى الدنيا .
أيها المسلمون: وكما أنّ الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية من فضول الطعام والشراب والنكاح فكذلك الاعتكاف ينطوي على سر عظيم ألا وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة فإنَّ الصحبة قد تزيد عن حدِّ الاعتدال وفيه أيضاً حماية القلب من جرائر فضول الكلام لأنَّ المرء غالباً يعتكف وحده فيقبل على الله بالقيام وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك ، وفيه أيضاً حماية العبد من كثرة النوم فإنَّ العبد إنَّما اعتكف في المسجد ليتفرغ للتقرب إلى الله بأنواع الطاعات ولم يلزم المسجد لينام ، ولا ريب أنّ نجاح العبد في التخلص من فضول الصحبة والنوم والكلام يسهم في دفع القلب نحو الإقبال على الله وحمايته من ضد ذلك .
أيها المسلمون: لقد كان النبي إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة ، والأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء يقولون يدخل قبل الغروب وأوَّلوا حديث عائشة هذا أنّ المراد به أنَّه دخل المعتكف وانقطع وخلا بنفسه بعد صلاة الصبح لا أنَّ ذلك ابتداء وقت الاعتكاف . ويسن للمعتكف أن ينشغل بالطاعات من الذكر والدعاء والصلاة والصيام وقراءة القرآن وغيرها من الطاعات. ويحرم عليه الجماع ومقدماته ودواعيه { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . ولا يجوز للمتعكف أن يخرج من المسجد إلَّا لحاجة لا بدَّ منها ، ولا يمكن فعلها في المسجد لقول عائشة رضي الله عنها :"كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ" متفق عليه . ويجوز للمتعكف أن يجلس مع أهله وغيرهم ممن يأنس به ويتحدث معه في مباح قليلاً من وقته لأنَّ صفية رضي الله عنها زارت النبي في معتكفه وتحدَّث معها ساعة ثم قامت " رواه البخاري ومسلم وإن اشترط الخروج لعيادة مريض أو شهود جنازة فله الخروج ولا يخرج لذلك بلا شرط قالت عائشة رضي الله عنها :"إن كنت لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ " مسلم. وذهب العلماء إلى أنَّ الصوم شرط في صحة الاعتكاف ولكن الراجح أنَّ الصوم مستحب مع الاعتكاف لأنَّ الرسول اعتكف في شوال ولم يثبت أنَّه كان صائماً . والاعتكاف جائز في كل مسجد تقام فيه الفروض الخمسة ولكن يستحب أن يكون في جامع حتى لا يحتاج للخروج للجمعة ، ولا ينبغي للمعتكف أن يقضي وقته بالنوم أو الحديث مع فلان وعلَّان بل عليه أن يغتنم وقته ويحافظ عليه إذ الهدف من الاعتكاف هو حفظ الأوقات ومبادرة الحسنات والاشتغال بالطاعات . اللهم فقهنا في الدين ووفقنا للعمل به وثبتنا على الإسلام حتى نلقاك وأنت راض عنَّا يا كريم .
المشاهدات 3623 | التعليقات 4
رعاك الله يا شيخ منديل فقد أعذرت إلى ربك فيما كتبت ونصحت لإخوانك فيما ذكرت واللبيب بالإشارة يفهم فها هي سوق التجارة قائمة والسلع متوفرة سهلة ويسيرة ورابحة والثمن موعود ومحقق فأين المشتري وأين المنافس وأين المسارع ؟!
ألا يا باغي الخير أقبل ويا راغبا في الجنة اعمل فسلعة الله غالية
رشيد بن ابراهيم بوعافية;17611 wrote:
بارك الله فيك أستاذ منديل ، نصائح غالية عمليّة و في وقتها ، تقبّل الله منّا ومنكم وأعاننا على حسن استقبال العشر وليلة القدر .
آمين على دعواتك الطيبة وشكرا جزيلا لشدك ﻷزر إخوانك وتشجيعك لهم تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
زياد الريسي;17632 wrote:
رعاك الله يا شيخ منديل فقد أعذرت إلى ربك فيما كتبت ونصحت لإخوانك فيما ذكرت واللبيب بالإشارة يفهم فها هي سوق التجارة قائمة والسلع متوفرة سهلة ويسيرة ورابحة والثمن موعود ومحقق فأين المشتري وأين المنافس وأين المسارع ؟!
ألا يا باغي الخير أقبل ويا راغبا في الجنة اعمل فسلعة الله غالية
ألا يا باغي الخير أقبل ويا راغبا في الجنة اعمل فسلعة الله غالية
شرف موضوعي بمرورك يا شيخ زياد واكتسى حلة بهية بتعليقك فلا حرمك الله من الأجر وجزاك عني كل خير
رشيد بن ابراهيم بوعافية
بارك الله فيك أستاذ منديل ، نصائح غالية عمليّة و في وقتها ، تقبّل الله منّا ومنكم وأعاننا على حسن استقبال العشر وليلة القدر .
تعديل التعليق