العزةُ في سماءِ غزةَ-5-4-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
العزةُ في سماءِ غزةَ-5-4-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي أَكرمَنا بالإسلامِ، وأَعزَّنا بالإيمانِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، جَعلَ السعادةَ فيمن أطاعَه واتَّبعَ رِضاهُ، وجَعلَ العَزَّةَ والكَرامةَ لمن خَافَهُ واتَّقاهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا وحَبيبَنا محمدًا رسولُ اللهِ، وخَليلُه من خَلقِه ومُصطفاهُ، فَازَ ورَبِحَ من اتَّبعَ سُنتَه وهُداهُ، وخَابَ وخَسِرَ من خَالفَهُ وعَصاهُ-اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ وباركْ عَليهِ وعلى آلِه وصَحابتِه-واجعلنا والمسلمينَ مِن رُوَّادِ حَوضِهِ وأَهلِ شَفاعتِهِ، أما بعدُ:
فها هيَ غزوةُ أُحدٍ تَحُطُّ رِحالَها، وها هو الغبارُ يَكشفُ أَطلالَها، فنرى رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-قد شُجَّتْ جبهتُه، وكُسِرتْ رَباعيتُه-الرَباعيةُ: السنُ الثانيةُ من الوسطِ، اثنتانِ فوقَ واثنتانِ تحتَ فسُميتْ رَباعيةً-، وجُرِحتْ شَفَتُه، ودَخلتْ حَلَقاتُ المِغفرِ-الخوذةِ-في وَجنَتِه، ونرى على الأرضِ سبعينَ من خِيرةِ صحابتِه-رضي الله عنهم-، قَد مُثِّلَ بِهم، فَقُطِّعتْ منهم الأنوفُ والآذانُ، وبُقرتْ-شُقَّتْ-منهم البطونُ، بينَهم سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِالمطلِّبِ-رَضيَ اللهُ عنه-، ونرى من الرُّماةِ من تَركَ مكانَه وعَصى، ونرى من الجنودِ من تركَ أرضَ المعركةِ وتولَّى، ومن ثَبتَ من الصَّحابةِ منهم من اسْتُشْهِدَ، ومنهم من جُرحَ، فكانَ يومًا أليمًا على المسلمينَ.
ولكنَّ العَجيبَ أنَّه لمَّا نزلتْ آياتُ سورةِ آلِ عِمرانَ في غزوةِ أُحدٍ، كانَ فيها: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فسبحانَ اللهِ، إنَّها واللهِ رسالةٌ ربَّانيةٌ: أنَّ أهلَ الإيمانِ هم الأعلى والأعزُّ، حتى مع الهزيمةِ والضَّعفِ وتسلُّطِ الأعداءِ، فالمؤمنُ عزيزٌ بربِّه ودينِه، وثباتِه على عقيدتِه.
ولذلكَ "لمَّا قالَ أبو سفيانَ: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، قالَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: أَلَا تُجِيبُوه؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ.
فَقالَ أبو سُفيانَ: لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ، فَقالَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: أَلَا تُجِيبُوه؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ.
قَالَ أبو سفيان: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجالٌ-مرةً لنا ومرةً لكم-، فأجابه عمرُ: لَا سَوَاءَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النار".
ألا ترونَ إلى المستضعفينَ من المسلمينَ في مكةَ، وهم يُعذَّبونَ أشدَّ العذابِ، فهناكَ عمَّارُ بنُ ياسرٍ وأبوهُ وأمُّه، وهناكَ بلالُ بنُ رباحٍ، وهناكَ خبَّابُ بنُ الأرتِّ-رضي اللهُ عنهم-، ومع ذلكَ كانوا أعزَّةً، ثابتينَ على الحقِّ، حتى عَجِزَ عنهم صناديدُ قُريشٍ، وأصابتهم الهَزيمةُ النَّفسيةُ والذُّلُ؛ ليأسِهم من صدِّهم عن دينِهم وعَقيدَتِهم، وصدَقَ رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-حينَ قالَ: "عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ".
عِزَّةُ المؤمنِ هيَ التي جَعلتْ خُبيبَ بنَ عدِيٍّ-رضي اللهُ عنه-يقفُ شامخًا عزيزًا أمامَ كُفَّارِ قُريشٍ، يُصلي ركعتينِ قبلَ مَقتلِه، وَيَقولُ: "واللهِ لَولا أَن تَظنُّوا أني طَوَّلتُ جَزَعًا-خوفًا-من القَتلِ لاستَكثَرتُ من الصَّلاةِ"، ثُمَّ قالَ قبلَ أن يُصلبَ:
ولَستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِمًا*
على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ*
يُبارِكْ على أوْصالِ جِسْمٍ مُمَزعِ
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلتْ أصحابَ الأُخْدودِ-رحمهم اللهُ-، لا يُبالونَ بنارِ الملكِ العظيمةِ التي قد ملأتِ الأخاديدَ في الطُّرقاتِ، فيُرمى بعضُهم أمامَ بعضٍ، ويُحرقُ بعضُهم أمامَ بعضٍ، وهم في ثباتٍ على الدِّينِ والإيمانِ، حتى أتتِ امرأةٌ ومعها طفلٌ صغيرٌ، فتقاعسَتْ-تباطأتْ-عن الوُقوعِ فيها؛ خوفًا على صَغيرِها، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: "يا أُمَّهْ، اصْبِرِي فإنَّكِ علَى الحَقِّ".
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلَتْ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ-رحمَه اللهُ-يقفُ موقفَ الجبالِ الرَّاسخاتِ، أمامَ فِتنةِ خلقِ القرآنِ، معَ ما تَعرَّضَ لهُ من السَّجْنِ والجَلدِ، حتى أصبحَ إمامًا لأهلِ السُّنةِ والجَماعةِ.
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جعلتْ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ يَقولُ: "مَاذا يَفعلُ بي أَعدائي، سَجني خَلوةٌ، ونَفيي سِياحةٌ، وقَتلي شَهادةٌ".
أستغفرُ اللهَ لي ولكم، وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ العزيزِ المَلكِ الحقِّ المُبينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمدًا رَسولُ اللهِ، الصادقُ الأمينُ-عليه الصلاةُ والسلامُ-، كَانَ عَزيزًا بربِّهِ، وعَلَّمَ أُمَّتَه العِزةَ، ورَضيَ اللهُ عن أَصحابِه، الذين وصفَهم اللهُ-تعالى-بقولِه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)، أما بعدُ:
فاليومَ ترى العِزةَ في سَماءِ غَزةَ، تراها في عُيونِ ذلكَ الشيخِ الكَبيرِ، الذي يَرفعُ يَديهِ إلى السَّميعِ البَصيرِ، وَمَعَ شِدةِ البَلاءِ وطُولِ السِّنينَ، ما يَزالُ يَدعو بِقَلبٍ يَملأَهُ اليَقينُ، وتَرى العِزةَ في صُمودِ أولئكَ الشَّبابِ أَمامَ الأخطَارِ والأهوالِ، في انقَاذِهم للمُصابينَ مِن كِبارٍ ونِسَاءٍ وأَطفَالٍ، وتَرى العِزةَ في مَشاعرِ تَلكَ الأمِّ التي تُودِّعُ أبناءَها شَهيدًا بَعدَ شهيدٍ، بكَلِماتِ الثَّباتِ والفَرحِ والزَّغاريدِ، وتَرى العِزةَ في الأبِّ الذي أحضَرَ ابنَهُ المُصابَ إلى المُستَشفى، فَطمأنَّهُ الطَّبيبُ أنَّهُ بَعَدَ أيامٍ سَيُشفى، فَلمَا جَاءَ في اليَومِ التَالي لَم يَجدْ ابنَهُ ولا الطَّبيبَ ولا المَستَشفى، ولِسانُ حَالِهِ يقولُ: "إنَّ القَلبَ ليَحزَنُ، وإنَّ العَينَ لَتَدمعُ، ولا نَقولُ إلا مَا يُرضي رَبَّنا، وإنَّا عَلى فِراقِكم لَمحزونونَ"، وهَكَذا كُلَّما قَلَّبتَ عَينَكَ في غَزَّةَ، رَأيتَ مَوقِفًا عَجيبًا مِن مَواقفِ العِزَّةِ.
ولا عَجبَ في ذلكَ، فاللهُ-تَعالى-ربطَ العزَّةَ بوصفِ الإيمانِ، فقالَ-سُبحانَه-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فمتى وُجِدَ الإيمانُ، وُجِدَتِ العِزَّةُ، فَالعِزَّةُ ثَباتٌ في أَحلَكِ الأوقاتِ، حتى مَعَ الآلامِ والضَّعفِ، ومَعَ الجِراحِ والقَصفِ، فمنْ عَاشَ عَاشَ كريمًا حَميدًا، ومن مَاتَ مَاتَ سعيدًا شهيدًا، فَصبرًا يا أهلَ غَزَّةَ عَلى البَلاءِ، فَالأمَّةُ الإسلاميَّةُ مَعَكم بَالقلبِ والدَّعاءِ.
يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، نسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.
اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَقمْ من مَجدِهم مَا تَهدَّمَ، وَصِلْ من حَبلِهم مَا تَصرَّمَ، واهدِهم صِراطَكَ الأقوَمَ.
اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ لنا وللمسلمينَ عِزَّةَ الإيمانِ، والثَّباتَ على الإسلامِ.
اللَّهُمَّ إِنَّ بِإِخْوانِنا الْمَنْكُوبِينَ فِي غَزَّةَ وغيرِها مِنَ البَلاَءِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْتَ، وَإِنَّ بِنا مِنَ الوَهَنِ وَالتَّقْصِيرِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ، إِلَهَنا إِلَى مَنْ نَشْتَكِي وَأَنْتَ الكَرِيمُ القَادِرُ، وبمنْ نَسْتَنْصِرُ وَأَنْتَ المَوْلَى النَّاصِرُ، وبِمَنْ نَسْتَغِيثُ وَأَنْتَ المَوْلَى القَاهِرُ.
اللَّهُمَّ يا مَنْ بِيَدِهِ مَفاتِيحُ الفَرَجِ، فَرِّجْ عَنْ إِخْوانِنا في غزةَ وفي كُلِّ مكانٍ، وَارفعْ ما بِهِمْ مِنْ ذُلٍ وهوانٍ.
اللَّهُمَّ يا عَزِيزُ يا جَبَّارُ، يا قَاهِرُ يا قَادِرُ، يا مَنْ لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماءِ، أَنْزِلْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ عَلَى المعتدين من اليَهُودِ والنصارى والكافرينَ، وعلى كلِّ عدوٍ للإسلامِ والمسلمينَ.
اللَّهُمَّ يا مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ، يا مَنْ يُغَيِّرُ وَلاَ يَتَغَيَّرُ، تاقَتْ أُنْفُسُنا إِلَى عِزَّةِ الإِسْلاَمِ، فَنَسْأَلُكَ نَصْرًا تُعِزُّ بِهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَتٌذِلُّ بِهِ البَاطِلَ وَأَهْلَهُ.
اللَّهُمَّ اجزِ بِلادَنا وولاةَ أمرِنا خيرًا في مَوقفِهم تُجاهَ إخوانِنا في فلسطينَ وكلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، واجعلْ أَمرَهم لِنَصرِ دِينِكَ، ولإعلاءِ كَلمتِكَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ.
اللَّهُمَّ اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه.
اللَّهُمَّ أنتَ حسبُنا ونِعْمَ الوكيلُ، عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ وعليكَ بالظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم.
اللَّهُمَّ انصرْ المسلمينَ وجنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1697796145_العزةُ في سماءِ غزةَ-5-4-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1697796146_العزةُ في سماءِ غزةَ-5-4-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf