العذاب النفسي لأهل النار
هلال الهاجري
1434/02/28 - 2013/01/10 20:20PM
إن الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) أما بعد:
لا يختلفُ العقلاءُ وأصحابُ التجربةِ على أن الألمَ النفسي أشدُ وأقوى من الألمِ الجسدي .. فالجرحُ في الجسدِ إذا التئمَ ذهبت آلامُه وآثارُه .. وأما الألمُ النفسي فتبقى آثارهُ زمناً طويلاً .. تتجددُ بالذكرى .. بل قد لا تزولُ أبداً ما كان صاحبُها حياً ..
عبادَ اللهِ ..
من تأملَ كتابَ اللهِ تعالى وسنةَ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فإنه سيجدُ العذابَ النفسي ظاهراً لأصحابِ النار .. وهو العذابُ المهينُ الذي ذكره اللهُ تعالى في آياتٍ كثيرةٍ ..
وإن أولَ هذا العذابُ هو في تلك اللحظةِ الحرجةِ التي يصارعُ فيها ذلك الظالمُ سكراتِ الموتِ فتأتيه (مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ) .. الملائكةُ التي يُضربُ بها المثلُ في الجمالِ تأتيه بهذه الصورةِ زيادةً في العذابِ النفسي .. (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) .. فيخاطبونَ الروحَ بأبشعِ خطابٍ (أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ).
ثم إذا خرجت روحُه (يَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .. فأي ذلٍ وهوانٍ يشعرُ به ذلك الميتُ؟.
ما تظنونَ الحكمةَ في أن يُفتحَ للكافرِ والمنافقِ (بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ) فيرى من النعيمِ ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ .. ثم يُقالُ له: (فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا)؟ .. أليسَ هو العذابُ النفسي؟.
في أصعبِ الأوقاتِ .. وفي أحلكِ اللحظاتِ .. وهو وحيدٌ في قبرِه .. مستوحشٌ من الظلامِ .. قد تركَه الأصحابُ .. وفارقَه الأحبابُ .. (فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ) .. حسرةٌ وألمٌ.. حين لا ينفعُ الندمُ.
أما إذا جاءَ يومُ النشورِ .. وبُعثَ مَنْ في القبورِ .. فلا تسلْ عن العذابِ النفسي الذي ينتظرُ أصحابَ النارِ .. فخليلُ الدنيا وصاحبُ العُمُرِ يصبحُ عدواً لدوداً (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) .. ويعضُ على يديه بدلاً من أصبعِه ندماً على تلك الأيامِ .. التي ضاعت في الحرامِ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا).
رؤيةُ جهنمَ التي وُعدوا بها يومَ القيامةِ .. عذابٌ نفسيٌ عظيمٌ .. فما بالكُ بأهلِها حين (يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا)؟ .. (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) فما ظنُكَ بشعورِهم حينئذ؟ .. يرونَ الشرارةَ من نارِها كأنها قصرٌ عظيمٌ (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ).
وأما طريقةُ دخولِهم إلى النارِ .. فهي في غايةِ الإهانةِ والذلِ .. (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) .. ويُجر من أشرفِ مكانٍ في بدنِه وهي ناصيتُه .. (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ).
فإذا دخلوا النارَ فإن عتابَ الملائكةِ لهم .. فيه ألمٌ نفسيٌ .. بتذكيرِهم برحمةِ اللهِ تعالى لهم أن أرسلَ لهم رسولاً يبينُ لهم الحقَ (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) .. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ).
إن أهلَ البلاءِ في الدنيا ليتسلونَ برؤيةِ من هم أشدُ منهم بلاءً .. وتهونُ مصيبةُ البعضِ إذا سمعَ بمصيبةِ غيرِه .. وأما في النار .. فكلُهم يرى أنه أشدُهم عذاباً .. وأعظمُهم عقاباً .. قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ –أي القِدْر- مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا) .. فكيفَ الأثرُ النفسي فيمن يرى أنه أشدُ الناسِ عذاباً في نارٍ وقودُها الناسُ والحجارةُ.
يا أهلَ الإيمانِ ..
من مِنّا لا يخافُ من الموتِ؟ .. سكراتُ الموتِ عظيمةٌ .. ولحظاتُه أليمةٌ .. ولكم أن تتخيلوا حالَ من يحيطُ به الموتُ في كلِ وقتٍ ومكانٍ .. ولا يموتُ فيرتاحُ .. (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) .. تدرونَ لماذا؟ .. لأن النبيَ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: (إذَا صَارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إلَى الجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إلَى النَّارِ جِيءَ بِالموتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحاً إلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْناً إلَى حُزْنِهِمْ) .. والحزنُ له ألمٌ نفسيٌ شديدٌ.
إن الحبسَ عذابٌ للمحبوسِ .. ولكنه عذابٌ نفسي .. وهكذا هم أهلُ النارِ .. فمع أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منها، إلا أن اللهَ تعالى جعلَ عليهم الجُدُرَ العاليةَ المحيطةَ بهم (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) والأبوابَ ذاتَ الأعمدةِ العاليةِ (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريمِ، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمؤمنينَ، فاستغفروه إنه غفورٌ رحيمٌ .
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، مَنَّ على من شاءَ من عبادِه بهدايتِهم للإيمانِ وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ إلى كافةِ الإنسِ والجانِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه الذين جاهدوا في اللهِ حقَ جهادِه حتى نشروا العدلَ والأمنَ والإيمانَ وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
عبادَ اللهِ ..
هل سمعتُم بخطبةِ الشيطانِ التي سيخطبُ بها في النارِ؟ .. إذا قُضيَ الأمرُ ودخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ .. ودخلَ أهلُ النارِ النارَ .. قالَ الحسن البصري رحمَه اللهُ تعالى: يقفُ إبليسُ يومَ القيامةِ خطيباً في جهنمَ على منبرٍ من نارٍ يسمعُه الخلائقُ جميعاً .. فماذا سيقول؟ .. وهل في خطبتِه اعترافٌ بالخطأِ؟ .. هل فيها بصيصُ أملٍ في الخروجِ من هذا العذابِ الأليمِ؟ .. أو في التخفيفِ منه؟ .. (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. فالعاقلُ من يتبرأُ من الشيطانِ في الدنيا قبلَ أن يتبرأَ منه في الآخرة .. ولا يعيشُ تلك اللحظاتِ النفسيةَ العصيبةَ .. التي قد تكونُ على صاحبِها أشدَ من قمعِ الحديدِ .. وشُربِ الصديدِ؟
في الآخرةِ ينتقمُ أهلُ الإيمانِ من المنافقينَ والكفارِ .. بأن يسخروا منهم كما سخروا منهم .. (فَالْيوم الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * على الْأَرَائِكِ ينظرون * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) .. ويحمدونَ اللهَ تعالى أن ثبَّتهم على الحقِ ولم يميلوا إليهم ويتركوا ما كانوا عليه من الهدى والإيمانِ .. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ).
وأما إن سألتُم عن أشدِ ألوانِ العذابِ النفسي في النارِ .. فإنها لحظتانِ عصيبتانِ لا يرى أهلُ النارِ مثلَهما:
أما الأولى: فهي التي يخاطبونَ فيها الملكَ جلَ جلالُه ويقدمونَ الاعتذارَ .. فيأتيهم الجوابُ القاطعُ .. (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .. فييأسونَ عن آخر الآمالِ .. وهي رحمةُ الكبيرِ المتعالِ ..
وأما الثانيةُ: فهي تلك اللحظةُ التي يتمتعُ بها أهلُ الجنةِ بأعظمِ لذةِ .. وأكبرِ نعيمٍ .. وهو النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ .. الذي خلقَهم .. والذي أكرمَهم .. والذي هداهم .. والذي أدخلَهم الجنةَ برحمتِه .. وأما أهلُ النارِ .. فكما قالَ تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ).
[font="]اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْييِنا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لنا، وَتَوَفَّنا إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لنا، نسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ .. اللَّهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ.[/font]
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) أما بعد:
لا يختلفُ العقلاءُ وأصحابُ التجربةِ على أن الألمَ النفسي أشدُ وأقوى من الألمِ الجسدي .. فالجرحُ في الجسدِ إذا التئمَ ذهبت آلامُه وآثارُه .. وأما الألمُ النفسي فتبقى آثارهُ زمناً طويلاً .. تتجددُ بالذكرى .. بل قد لا تزولُ أبداً ما كان صاحبُها حياً ..
عبادَ اللهِ ..
من تأملَ كتابَ اللهِ تعالى وسنةَ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فإنه سيجدُ العذابَ النفسي ظاهراً لأصحابِ النار .. وهو العذابُ المهينُ الذي ذكره اللهُ تعالى في آياتٍ كثيرةٍ ..
وإن أولَ هذا العذابُ هو في تلك اللحظةِ الحرجةِ التي يصارعُ فيها ذلك الظالمُ سكراتِ الموتِ فتأتيه (مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ) .. الملائكةُ التي يُضربُ بها المثلُ في الجمالِ تأتيه بهذه الصورةِ زيادةً في العذابِ النفسي .. (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) .. فيخاطبونَ الروحَ بأبشعِ خطابٍ (أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ).
ثم إذا خرجت روحُه (يَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .. فأي ذلٍ وهوانٍ يشعرُ به ذلك الميتُ؟.
ما تظنونَ الحكمةَ في أن يُفتحَ للكافرِ والمنافقِ (بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ) فيرى من النعيمِ ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ .. ثم يُقالُ له: (فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا)؟ .. أليسَ هو العذابُ النفسي؟.
في أصعبِ الأوقاتِ .. وفي أحلكِ اللحظاتِ .. وهو وحيدٌ في قبرِه .. مستوحشٌ من الظلامِ .. قد تركَه الأصحابُ .. وفارقَه الأحبابُ .. (فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ) .. حسرةٌ وألمٌ.. حين لا ينفعُ الندمُ.
أما إذا جاءَ يومُ النشورِ .. وبُعثَ مَنْ في القبورِ .. فلا تسلْ عن العذابِ النفسي الذي ينتظرُ أصحابَ النارِ .. فخليلُ الدنيا وصاحبُ العُمُرِ يصبحُ عدواً لدوداً (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) .. ويعضُ على يديه بدلاً من أصبعِه ندماً على تلك الأيامِ .. التي ضاعت في الحرامِ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا).
رؤيةُ جهنمَ التي وُعدوا بها يومَ القيامةِ .. عذابٌ نفسيٌ عظيمٌ .. فما بالكُ بأهلِها حين (يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا)؟ .. (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) فما ظنُكَ بشعورِهم حينئذ؟ .. يرونَ الشرارةَ من نارِها كأنها قصرٌ عظيمٌ (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ).
وأما طريقةُ دخولِهم إلى النارِ .. فهي في غايةِ الإهانةِ والذلِ .. (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) .. ويُجر من أشرفِ مكانٍ في بدنِه وهي ناصيتُه .. (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ).
فإذا دخلوا النارَ فإن عتابَ الملائكةِ لهم .. فيه ألمٌ نفسيٌ .. بتذكيرِهم برحمةِ اللهِ تعالى لهم أن أرسلَ لهم رسولاً يبينُ لهم الحقَ (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) .. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ).
إن أهلَ البلاءِ في الدنيا ليتسلونَ برؤيةِ من هم أشدُ منهم بلاءً .. وتهونُ مصيبةُ البعضِ إذا سمعَ بمصيبةِ غيرِه .. وأما في النار .. فكلُهم يرى أنه أشدُهم عذاباً .. وأعظمُهم عقاباً .. قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ –أي القِدْر- مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا) .. فكيفَ الأثرُ النفسي فيمن يرى أنه أشدُ الناسِ عذاباً في نارٍ وقودُها الناسُ والحجارةُ.
يا أهلَ الإيمانِ ..
من مِنّا لا يخافُ من الموتِ؟ .. سكراتُ الموتِ عظيمةٌ .. ولحظاتُه أليمةٌ .. ولكم أن تتخيلوا حالَ من يحيطُ به الموتُ في كلِ وقتٍ ومكانٍ .. ولا يموتُ فيرتاحُ .. (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) .. تدرونَ لماذا؟ .. لأن النبيَ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: (إذَا صَارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إلَى الجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إلَى النَّارِ جِيءَ بِالموتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحاً إلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْناً إلَى حُزْنِهِمْ) .. والحزنُ له ألمٌ نفسيٌ شديدٌ.
إن الحبسَ عذابٌ للمحبوسِ .. ولكنه عذابٌ نفسي .. وهكذا هم أهلُ النارِ .. فمع أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منها، إلا أن اللهَ تعالى جعلَ عليهم الجُدُرَ العاليةَ المحيطةَ بهم (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) والأبوابَ ذاتَ الأعمدةِ العاليةِ (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريمِ، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمؤمنينَ، فاستغفروه إنه غفورٌ رحيمٌ .
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، مَنَّ على من شاءَ من عبادِه بهدايتِهم للإيمانِ وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ إلى كافةِ الإنسِ والجانِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه الذين جاهدوا في اللهِ حقَ جهادِه حتى نشروا العدلَ والأمنَ والإيمانَ وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
عبادَ اللهِ ..
هل سمعتُم بخطبةِ الشيطانِ التي سيخطبُ بها في النارِ؟ .. إذا قُضيَ الأمرُ ودخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ .. ودخلَ أهلُ النارِ النارَ .. قالَ الحسن البصري رحمَه اللهُ تعالى: يقفُ إبليسُ يومَ القيامةِ خطيباً في جهنمَ على منبرٍ من نارٍ يسمعُه الخلائقُ جميعاً .. فماذا سيقول؟ .. وهل في خطبتِه اعترافٌ بالخطأِ؟ .. هل فيها بصيصُ أملٍ في الخروجِ من هذا العذابِ الأليمِ؟ .. أو في التخفيفِ منه؟ .. (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. فالعاقلُ من يتبرأُ من الشيطانِ في الدنيا قبلَ أن يتبرأَ منه في الآخرة .. ولا يعيشُ تلك اللحظاتِ النفسيةَ العصيبةَ .. التي قد تكونُ على صاحبِها أشدَ من قمعِ الحديدِ .. وشُربِ الصديدِ؟
في الآخرةِ ينتقمُ أهلُ الإيمانِ من المنافقينَ والكفارِ .. بأن يسخروا منهم كما سخروا منهم .. (فَالْيوم الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * على الْأَرَائِكِ ينظرون * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) .. ويحمدونَ اللهَ تعالى أن ثبَّتهم على الحقِ ولم يميلوا إليهم ويتركوا ما كانوا عليه من الهدى والإيمانِ .. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ).
وأما إن سألتُم عن أشدِ ألوانِ العذابِ النفسي في النارِ .. فإنها لحظتانِ عصيبتانِ لا يرى أهلُ النارِ مثلَهما:
أما الأولى: فهي التي يخاطبونَ فيها الملكَ جلَ جلالُه ويقدمونَ الاعتذارَ .. فيأتيهم الجوابُ القاطعُ .. (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .. فييأسونَ عن آخر الآمالِ .. وهي رحمةُ الكبيرِ المتعالِ ..
وأما الثانيةُ: فهي تلك اللحظةُ التي يتمتعُ بها أهلُ الجنةِ بأعظمِ لذةِ .. وأكبرِ نعيمٍ .. وهو النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ .. الذي خلقَهم .. والذي أكرمَهم .. والذي هداهم .. والذي أدخلَهم الجنةَ برحمتِه .. وأما أهلُ النارِ .. فكما قالَ تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ).
[font="]اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْييِنا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لنا، وَتَوَفَّنا إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لنا، نسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ .. اللَّهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ.[/font]
المرفقات
العذاب النفسي لأهل النار.zip
العذاب النفسي لأهل النار.zip
المشاهدات 3729 | التعليقات 3
سلمت أناملك على هذه الخطبة الرائعة
أتحفتنا بالفرائد
وفقك الله
لافض فوك ياشيخنا وبارك الله فيك وفي علمك .. خطبة رائعة
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق