( العدل بين الأولاد) الجمعة: 19-4-1430

أ.د عبدالله الطيار
1439/06/05 - 2018/02/21 10:04AM

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فإنها نعمة الوصية الرفيعة والموعظة البليغة قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] (الطلاق الآية 1، 2، 3).

عباد الله: الأولاد هم عدة المستقبل ورجال الغد وهم ثمار القلوب وعماد الظهور وفلذات الأكباد حبهم مغروس في النفوس فالمرء يرى فيهم مستقبله المشرق وامتداده الطبيعي بعد الوفاة وما من أحد من الناس إلا وهو يحب الأبناء ويسأل الله أن يرزقه الذرية الصالحة.

وقد أناط الله مسئولية التربية والتوجيه إلى الوالدين وجعل القوامة بيد الأب ليحسن التصرف ويحقق العدل بينهم، والعدل أساس الشرائع السماوية وسبب المصالح الدنيوية تواطأت عليه العقول السليمة والفطر المستقيمة والنفوس السوية حبه مغروس في القلوب به تنشرح الصدور وتزول الهموم أمر الله به في محكم كتابه فقال: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد الآية 25).

بالعدل قامت السماوات والأرض فهو أساس الاطمئنان ومفتاح السعادة وعلامة الحق والصدق وهو جامع الكلمة ومؤلف القلوب وطارد الظلم به ينصر الضعيف ويقوي جانبه ويهون أمر القوي وينقطع طمعه وقد أعلن ذلك خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقال: (الضعيف فيكم قوي عندي حتى أخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه).

والعدل هو شعار هذه الأمة فهم خيار عدل وسط ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً وهي مأمورة به في سائر شؤونها قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (] السناء الآية 58).

قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظيِّ رحمهما الله صف لي العدل قال سألت عن عظيم ثم قال كن للصغير أباً وللكبير ابناً وللمثل أخاً وللنساء كذلك وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر احتمالهم ولا تضر بن لغضبك سوطاً واحداً فتكون من العادين).

والعدل مطلوب حتى مع الأعداء لكي تحفظ الحقوق وتؤدى إلى أصحابها قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] (النساء الآية 135).

والعدل مع أقرب الناس وأبعدهم ينبغي أن يكون على حد سواء فلا يحابى قريب لقربه ولا يترك بعيد فيضيَّع حقه لبعده بل الناس في ذلك سواسية وقد أعلن هذا المبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المخزومية التي سرقت وجاء أسامة بن زيد يشفع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ). ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). (رواه مسلم).

لقد حرم الله الظلم وجعله بين العباد محرماً قال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (رواه مسلم).

ومن الدعاء المستجاب دعوة المظلوم على الظالم وصدق الله العظيم : [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود الآية 102).

عباد الله: ومن أهم وأوجب العدل المأمور به العدل بين الأولاد فلا يجوز للأبوين أن يفضلوا بين أولادهم لا بالعطية ولا بالكلام ولا بالمأكل والمشرب ولا أن يدني أحداً ويبعد الآخر ولا أن يعطي ذكراً ويحرم أنثى لأنه لا يعلم في أيهم يكون النفع والخير ولا يدري في أيهم يكون الأمل والرجاء بعد الله، وقد يخلف الله ظنه فيقسو عليه من أولاده من كان يكرمه ويحنو على الأب من كان الأب يقسو عليه ويسيء به الظن فالصلاح والهداية بيد الله جل وعلا والعدل بين الأولاد واجب في العطية وغيرها ولا يستثنى إلا النفقة فالأب ينفق على المحتاج منهم دون غيره.

وكل ما يتعلق بالنفقة لا يلزم العدل فيه بل تكون حسب الحاجة فمثلاً كون الأب يعطي أحد الأولاد خمسة ريالات للمصروف المدرسي ويعطي الأصغر ريالين حسب السن والمرحلة الدراسية فهذا لا إشكال فيه أما أن يعطي هذا سيارة دون الآخر أو يعطي هذا أرضاً دون الآخر فهذا محرم إلا إذا كان ذلك بيعاً وبرضا الأطراف كلها فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال إِنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا كَانَ لِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم« أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا ». فَقَالَ لاَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « فَارْجِعْهُ ». (رواه مسلم).

 أيها المؤمنون: ما أحسن البيت الذي يعدل فيه الوالد فيرى الأولاد أباً حكيماً رحيماً يزن الأمور بمعيار الحكمة والشرع فلا يميل لغير الحق يسوِّي بين أولاده فيطمئنون لتصرفه ويستمعون لتوجيهه ويقتدون بفعله وهكذا يعيش أفراد هذا البيت حياة كريمة لا يحمل أحد على أحد بل شعارهم التعاون والمحبة لأن طريقهم واضح رسمه لهم والدهم قولاً وفعلاً.

وفي قصة يوسف مع إخوته عظة وعبرة لأولي الألباب: [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ] (يوسف الآية 7، 8، 9).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله الذي أمر بالعدل وجعله شعاراً للمؤمنين الصادقين وأشهد ألا إله إلا الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام العادلين وقدوة الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العدل الشامل مما تصلح به حال الدنيا فهو يدعو للألفة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمو به الأموال وليس شيء أسرع إلى خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور والظلم لأنه لا ينتهي إلى حد ولا يقف عند غاية.

قال بعض البلغاء: (العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه للحق فلا تخالفه في ميزانه واستعن على العدل بخصلتين قلة الطمع وكثرة الورع).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا). (رواه مسلم).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عز و جل وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين). (رواه الترمذي).

أيها المؤمنون: لقد وقع كثير من الآباء والأمهات في خلط غير مقصود في قضية العدل بين أولادهم ولذا ترتب على هذه التصرفات خلافات وشحناء بين الإخوة في حال حياة الأبوين وكثيراً ما يكون ذلك بعد وفاتهما أو أحدهما.

ووصيتي لنفسي ولإخواني أن نجتهد في هذا الأمر وأن نسأل أهل العلم لئلا يقع الإنسان في المحذور من حيث لا يشعر وكثيراً ما يسأل الآباء عن موضوع السيارة إذا أراد أن يشتريها لأحد أبنائه خصوصاً إذا كان الولد يخدم أهله في البيت ونقول للأب لا حرج عليك في شراء السيارة لكن اجعلها تحمل اسمك ولا يستطيع الولد أن يتصرف فيها ببيع وإجارة وغير ذلك لكن ينتفع بها ويقضي بها حاجة أهل البيت وهنا لا حرج على الأب في ذلك.

وأما مسألة العدل في الأشياء اليسيرة التي يتسامح فيها الناس عادة كالريال والريالين وما في حكمها فلا يلزم العدل فيه إلا إذا ترتب على ذلك آثار على الأولاد والبنات.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا للعدل بين أولادنا، وأن يصلح ذرياتنا وذريات المسلمين، وأن يجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة.

هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الجمعة: 19-4-1430هـ

المشاهدات 787 | التعليقات 0