العُجْبُ مَعْنَاهُ وَآَفَاتُهُ: 1443/1/19هـ 

عبد الله بن علي الطريف
1443/01/18 - 2021/08/26 19:02PM

العُجْبُ مَعْنَاهُ وَآَفَاتُهُ: 1443/1/19هـ 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). [آل عمران:102]  

أما بعد أيها الأحبة: في القصص عبر، لذلك كان رسول الله ﷺ يذكُرُ لأصحابه ما فيه عبرة ومن ذلك ما رواه صُهَيْبٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى هَمَسَ شَيْئًا، لَا نَفْهَمُهُ، وَلَا يُحَدِّثُنَا بِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَطِنْتُمْ لِي.؟» قَالَ قَائِلٌ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ جُنُودًا مِنْ قَوْمِهِ.؟ فَقَالَ: مَنْ يُكَافِئُ هَؤُلَاءِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ، أَوْ كَلِمَةً شَبِيهَةً بِهَذِهِ، وفي رواية: أَعْجَبَتْهُ كَثْرَةُ أُمْتِهِ فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ [أي أنه أعجب بكثرتهم، وفهم أنه لا يقدر أحدٌ على مقاومَتِهم ولا يقدرُ على طلبِ هؤلاء شيءٌ لكثرتهم وقوتهم]، قَالَ: «فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: اخْتَرْ لِقَوْمِكَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوِ الْجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ  قَالَ: فَاسْتَشَارَ قَوْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ، نَكِلُ ذَلِكَ إِلَيْكَ، فَخِرْ لَنَا قَالَ: فَقَامَ إِلَى صَلَاتِهِ قَالَ: وَكَانُوا يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى ما شاء الله. [أي: كانوا إذا خافوا من شيء التجأوا إلى الصلاة] قَالَ: وَقَالَ: [نبيهم] أَمَّا عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا، أَوِ الْجُوعُ فَلَا، وَلَكِنِ الْمَوْتُ قَالَ: فَسُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَهَمْسِي الَّذِي تَرَوْنَ أَنِّي أَقُولُ: اللهُمَّ يَا رَبِّ، بِكَ أُقَاتِلُ، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ». ورواه أحمد وابن حبان وغيرهما وصححه الألباني.  

أيها الإخوة العُجبُ: آفةٌ عظيمة، وهو استعظامُ النعمةِ والركونُ إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم, وهذا نبي من الأنبياء رزقه الله أمةً كثيرةً العدد قوية البأس, فنظر فيما أعطاه الله، فأعجبه ما رأى, ووقع في نفسه أنه لا يقوم لأمته أحد, ولا يستطيع أن يتغلب عليها متغلب, وقد عاقبه الله تعالى بأن طلب منه أن يختار لقومه واحدةً من ثلاث, إما أن يسلط الله عليهم عدوًا من غيرهم, أو يسلط عليهم الجوع, أو يصيبهم بالموت. 

ولا شك أن كلَ واحدةٍ من هذه الآفات تُذْهِبُ قوة هذه الأمة وتضعفها وتزيل العجب الذي حل في قلوبهم وقلب نبيهم, فإذا سلط الله عليهم عدوهم فإنه يذلهم ويستبيح بيضتهم, وإن سلط عليهم الجوع فإن قوتهم تذهب, ويسهل التغلب عليهم, وإن أصابهم الموت قل عددهم. 

واختيار واحدة من هذه الثلاث أمر محير, يحتاج إلى موازنة بينها, وقد استشار هذا النبي عليه السلام قومه, فردوا الأمر إليه, فهو نبي الله والأنبياء مهديون مسددون, وقد اختار نبيهم عليه السلام الموت وكان اختيارًا موفقًا, لأن تسليط الأعداء فيه قتل وإذلال وإهانة, وتسليط الجوع فيه عذاب شديد لهم، وهو سبب للضعف وتسليط الأعداء, أما اختيار الموت فهو اختيار لأمر لابد منه وهو حال لا محالة, ومن مات منهم يرجى أن يكون من المقبولين, ومن بقي منهم سيتعظ بما وقع, وقد يكثرُهم الله إن شاء. ولقد سرى بهم الموت سريان النار بالهشيم فحصدهم حصدًا وأباد خضراءهم، ومات منهم في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سبعون ألفًا. وهذه عاقبة إعجاب ذلكم النبي بقومه, وقد كانت عاقبةً مخيفة. ذلك أن الإعجاب يضعف التوكل على الله والاعتماد عليه، ويجعل الـمَرْءَ يعتمدُ على الأسبابِ الدنيوية, وينسى مُسَبْبِها. 

ولقد خاف رسول الله على أصحابه مثل تلك العاقبة, فكان يقول عقب الصلاة همسًا: «اللهُمَّ يَا رَبِّ، بِكَ أُقَاتِلُ، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ». ولا يخفى ما اشتمل عليه هذا الذكر من التبري من الحول والقوة, وأن العبد لا يملك من أمره شيئًا, وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب نفع إلا بإرادة الله تعالى وتوفيقه. 

ولقد وقع بعض أصحاب رسول الله فيما خشي منه فقالوا في غزوة حنين: لا نغلب اليوم من قلة, قال سبحانه: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة:25]. لكن الله بفضله أنزل سكينته على رسوله وعلى طائفة من المؤمنين قد تعلقوا بالله وحده، وعلموا أن النصر منه سبحانه وأنه لا حول لهم ولا قوة. 

أيها الإخوة: ومن هذه القصة يتبين لنا أن علينا جميعًا أن نحذر من الإعجاب بما حبانا الله تعالى به من الإمكانات المادية والبشرية فربما كان هذا الإعجاب وبالًا علينا ونحن لا نشعر.. وعلينا أن نتوكل على الله ونعتمد عليه في جميع أمورنا وما الأمور الدنيوية إلى أسباب..  

هذه عاقبة العُجْبِ على مستوى الأمم والجماعات، أما عاقبته على الفرد فقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.  

قال القرطبي رحمه الله: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله عليه..  

وترجيل الشعر تسريحه والجمة هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين ومعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها متدافعًا.. 

أيها الأحبة: العجب من المهلكات قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» رواه البيهقي في شعب الإيمان عَنْ أَنَسٍ وحسنه الألباني.  

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبونَ، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبرُ من ذلِكَ؛ العُجْبُ العُجْبُ» رواه البزار عَنْ أَنَسٍ وحسنه الألباني. فجعله من أكبر الذنوب.  

أيها الإخوة: وإعجاب المرء بنفسه على أنواع منها أن يُعجب المرء ببدنه فيلتفت إلى جماله وهيئته وصحته وقوته وحسن صوته، وينسى أنه نعمة من الله تعالى وأنه عُرضة للزوال على كل حال. 

ومنها العُجب بالقوة: استعظامًا لها مع نسيان شكرها وترك الاعتماد على خالقها سبحانه، وما أكثر هذا في عالم اليوم، ولقد حكى الله عن قوم عاد قولهم اغترارًا بقوتهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فأجابهم الله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) ثم حكى عذابهم فقال:(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت:16]  

اللهم قنا العُجب وارزقنا الاعتماد عليك؛ ففيك نحول وبك نصول وبك نقاتل 

الخطبة الثانية:   

اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاءك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

ولقد وصى الله للأولين والآخرين فقال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]  

أما بعد أيها الإخوة: ومن العُجب: العُجب بالعقل, والكياسة والتفطن إلى دقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا, وثمرته الاستبداد بالرأي, وترك المشورة, واستهجان الناس المخالفين له ولرأيه، ويفضي إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل.. وعلاجه: أن يشكر الله على ما رُزِقَ من العقل وأنه ربما يسلب منه كما فعل بغيره، وأنه مهما أوتي من العلم فإنه لم يؤتى إلا قليلا.  

ومن العُجبِ: العُجب بالنسب الشريف, افتخار به واعتقاد للفضل به على كثير من العباد ومن مظاهره لمز من يرى أنهم أقل منه نسبًا واحتقارهم، ولو في قلبه.. وأنهم ليسوا أهلًا للقيادة والسيادة، وهذا العُجب لا يجلب ثوابًا ولا يدفع عذابًا وأكرم الناس عند الله أتقاهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب فقال: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ». رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وحسنه الألباني.  

وَلَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214] صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فقال: «يابَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ، يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا». رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 

فبين لهم أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم النسب القرشي فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه لم ينظر للنسب..  

ومن العُجب: العجبُ بكثرة الأموال والعدد من الأولاد والخدم والعشيرة والأقارب، وعلاجه أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ثم كيف يعجب بهم وهم سيفارقونه إذا مات ودفن وحيداً.. أما المال فآفاته كثيرة وسريعة.. أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالإيمان والعمل الصالح وأن يجنبنا العُجب ويقينا شره إنه جواد كريم 

 

المشاهدات 870 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا