العبودية

فهد عبدالله الصالح
1438/07/20 - 2017/04/17 07:12AM
عباد الله فاتقوا الله أيها المسلمون, فهي وصية الله إلى الأولين والآخرين , وهي خير لباس في الدنيا , وخير زاد إلي الآخرة ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) , (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً).
أيها المؤمنون إن جميع الرسل عليهم صلوات الله وسلامه وكل الكتب التي أنزلها عليهم إنما جاءت لدعوة الخلق لعبادة الله تعالي وحده لا شريك له : (اعبدوا الله مالكم من إله غيره ), وما أوجد الله الثقلين إلا لعبادته :( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
ولقد جعل الله العبودية وصفاً لأكمل خلقه وأحبهم إليه وأقربهم منه , وهم الأنبياء والمرسلون والملائكة المقربون (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً),ولما سأل جبريل محمداً عليه الصلاة والسلام عن الإحسان – وهو أعلى مراتب العبودية – قال :( أن تعبد الله كأنك تراه ,فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .
يكون ابن آدم في أعلى درجات الإنسانية وأسمى مراتب الشرف وأسمى درجات الكمال بقدر ما يحقق من العبودية , وكلما ازداد العبد تحققاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته .
أيها المؤمنون إذا كانت العبودية لله هي غاية الخلق وسر وجودهم فإن أي خلل فيها يعني خللاً في الإنسان ذاته وانحرافاً في مسيرته , بل إن الخلل في العبودية يعنى خللاً في الوجود الإنساني بأسره , فعبادة الله جل وعلا هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة , وأي انحراف عن العبادة الحقة أو نقص فيها يعني أن الحياة ستميل إلي الفساد العريض في كل مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمؤسساتية وغيرها, وما هذا الانحطاط الأخلاقي التي تعانيه البشرية , وما ذلك الظلم الذي تقاسيه الإنسانية إلا بسبب اختلال العبادة في قلوب البشر , بل إن المشكلات التي يعانيها المسلم في حياته الزوجية أو الوظيفية , وهذا الرهق والضيق والتبرم المتفشي في الناس ما هو إلا بسبب خلل أصاب العبادة , تراهم يحبون أولادهم ويشكون شقاءهم بهم , وتري الإنسان يجمع المال ، والمال هو الذي يشقيه ويضنيه , وتراه يعشق المناصب وفيها يكون عنته ومعاناته , ذلك أن من أحب شيئاً دون الله عذبه به .
وأكثر الناس ـ أيها الناس ـ لا يفطنون إلي نقص العبودية وضعفها في حياتهم , إذ إنهم بزعمهم يصلون مع المصلين ويصومون مع الصائمين ويرحلون ويؤوبون مع الحجيج ,ومع ذلك يشكون من أمراض القلوب ،ولا يعلمون سبب ذلك ، إنهم لا يدرون أن شقاءهم أتاهم من نقص عبودية القلب , وإذا أعرضت القلوب عن العبادة فما عبادة الجوارح بمغنية عن صاحبها شيئاً حتى وإن لبس مسوح الصالحين .
أيها المؤمنون : يقول الله عز وجل : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ) , ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة من أن يدع طعامه وشرابه ), وقال عز وجل ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ), فالعبادات إذا أديت على الوجه الأكمل هي التي تصون صاحبها من الانحراف .
فحقيقة السعادة التي يطلبها الناس في دنياهم وأخراهم لا تنال بما تمارسه الجوارح من أشكال العبادة , وإنما تنال بما يقوم في القلب من أعمال كالإخبات والتذلل والخضوع والحب لله والأنس به والخوف منه والانكسار له , فشرود القلب في مواطن العبادة من أعظم المصائب التي تصيب الإنسان في حياته , وذلك أن العبادة التي في جوارحه ولا تقوم في قلبه لا تترك الأثر المطلوب على نفسه , فلا يحصل بها أجر ولا يحقق أنسا وطمأنينة ولا راحة , يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عشر صلاته , تسعها , ثمنها ,سبعها , سدسها , خمسها , ربعها , ثلثها , نصفها) أخرجه النسائي في سننه.
وإذا استمر القلب في الشرود في ثنايا العبادة تحولت إلي حركات ظاهرة وشكليات يعتادها , ليس لها تأثير على سلوكه ولا علي أقواله وأفعاله , وذلك تفسير ما تراه من مخالفات وجرأة علي المعاصي وبذاءة في الأقوال ونزوع إلى الشهوات وطمع في الدنيا من أناس هم من رواد المساجد الراكعين الساجدين .
أيها المؤمنون : أعظم عقوبات القلوب الشاردة عن عبادة الله أنها تقع في عبادة غيره وتصير أسيرة لدى سفساف الأمور ومحقرات الأشياء ولذلك قالها صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم , تعس عبد الخميصة, تعس عبد القطيفة ) .
ومن تشعب قلبه بين المحبوبات ذاق ألوان القلق والحيرة والشك , وعاش ممزق النفس مشتت العقل , وما ظنك بعبد له أسياد مختلفون ,كل يأمره حسب هواه , فلا يدري من يعصي ومن يطيع ؟
( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلماً لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ).
فما أكثر من استعبد قلبه المال , فكان فيه نشاطه وكسله , وعليه رضاه وغضبه , وفيه حبه وبغضه ، وما أكثر من استأسر قلبه الشهوات , فبات عليها عاكفاً , ومنحها عزيز أوقاته وثمرة حياته ، وما أكثر من استرقتهم النساء فأصبحوا وأمسوا يغشون المعاصي طاعة لهن ويغفلون عن الطاعات تقرباً منهن , فهم في ظاهر أمرهم أسياد , ولكنهم علي الحقيقة أسرى مستعبدون , فقلوبهم شتات , وحياتهم قلق واضطراب , أين هم من العارفين الذين سكنت قلوبهم لخالقها واطمأنت نفوسهم لبارئها ؟. فكل ما سواه في أنفسهم حقير , وكل ما عداه عندهم هين , يقول عنهم ابن القيم ) وجملة أمرهم أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله , وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته , فسرت المحبة في أجزائهم , فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب , فقد أنساهم حبه ذكر غيره ,وأوحشهم أنسهم به ممن سواه , وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه , فشغلوا بحبه عن حب من سواه , وبذكره عن ذكر من سواه ). انتهى كلامه رحمنا الله وإياه وجعلنا وإياكم من العابدين لله حق العبادة .
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
اعلموا – أيها المؤمنون أن الإنسان بطبعه يعشق الحرية ويبذل دمه في سبيلها , ويأبي العبودية ولا يقبلها بأي ثمن , انظروا إلي العالم الذي يعيش واقعه المرير , ففيه أكبر شاهد علي تحول البشرية إلي حالة من الاستعباد , فالأقوياء يستعبدون الضعفاء, والأغنياء يسرقون الفقراء, وتجار الشهوات يأسرون عبيدها , وذلك علي مستوى الأفراد والمجتمعات والدول .
في ثقافة المصالح يصبح الناس عبيدا لكبرائهم وتجارهم , وتصبح الإنسانية في دوائر من الرق بعضها ملفوف على بعض فلا تري فيها حراً ولا طليقاً.
فالحرية الحق في ميزان الشرع وثقافة الإسلام هي حرية القلب , فمن تحرر قلبه من كل قوي الأرض وشهواتها فهو الحر الطليق , ولا سبيل لنفس أن تعتق من الأرض وما فيها إلا إذا دخلت في عبوديته عز وجل , ولهذا يقال : (العبد حر ما قنع ، والحر عبد ما طمع ), وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه قويت عبوديته وحريته عما سواه ,فكمال الشرف والحرية في كمال العبودية لله والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه, أولئك أدري الناس كيف تدار الحياة , وأعرفهم كيف تدرك الآخرة , أولئك يعيشون ملوكاً لا يذلون , أغنياء لا يفتقرون , آمنين لا يخافون , أحراراً لا يستعبدون , طلقاً لا يسجنون , أولئك هم أسعد الناس وأعقل الناس وأفقه الناس , أولئك الذين أسلموا وجوههم وقلوبهم إلي الله ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ولله عاقبة الأمور).
المشاهدات 759 | التعليقات 0