العبادة المفقودة
أبو عبد الله الأنصاري
1433/09/16 - 2012/08/04 04:57AM
نقف اليوم أيها الكرام مقاماً لابد لكل مسلم منه ، نذكر أنفسنا فيه بالعبادة المفقودة ألا وهي عبادة الخشوع !! الخشوع في أداء أجل عبادات البدن ألا وهي الصلاة التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان: ( وَاعْلَموا أَنَّ خَيرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةَ) صححه الحافظ ابن حجر والألباني رحمهما الله ، هذا الأصل الذي فقدناه ففقدنا معه الأنس بهذه العبادة والله ، فهل للمؤمن أن يأنس قلبه ويطمئن فؤاده بغير لقاء ربه ومليكه والوقوف بين يديه ؟ ثم هل أجلُّ في عبوديات الإسلام من عبودية الصلاة ؟! فإذا أضاعها المسلم ؟ وأتى بها كالجثة الهامدة التي لا روح فيها فماذا يبقى له بعدها ؟! ورحم الله الْحَسَنَ البصري إذ يقول : ( يَا ابْنَ آدَمَ أَيُّ شَيْءٍ يَعِزُّ عَلَيْكَ مِنْ دِينِكَ إِذَا هَانَتْ عَلَيْكَ صَلَاتُكَ ).
لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بما سيؤول إليه حال كثير من المصلين من الغفلة في الصلاة وفقدانهم الخشوع فيها ، وتأديتهم لها تأدية جوفاء تحضر فيها الأبدان وتفقد فيها القلوب فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أول شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوعُ ، حتى لا ترى فيها خاشعا !!) رواه الترمذي والطبراني وحسنه الهيثمي وصححه الألباني .
ولله ما أجل كلمات الصحابي العالِم أبي هريرة رضي الله عنه إذ يقول مبيناً لنا مقام الخشوع في الصلاة ومكانته فيقول :( الصَّلاَةُ قُرْبَانٌ ،وَالصَّدَقَةُ فِدَاءٌ ،وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ،إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلاَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَرَادَ مِنْ إِمَامٍ حَاجَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً ، وَمَثَلُ الصَّدَقَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أُسِرَ فَفَدَى نَفْسَهُ ، وَمَثَلُ الصِّيَامِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَقِيَ عُدُوًّا وَعَلَيْهِ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ ، وَقَالَ : إِذَا قَامَ الْعَبْدُ يَعْنِي إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ فِي مَقَامٍ عَظِيمٍ ، وَاقِفٌ عَلَى اللهِ يُنَاجِيهِ ، وَيَتَرَضَّاهُ ، قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْمَعُ لِقِيلِهِ ، وَيَرَى عَمَلَهُ ، وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، فَلْيُقْبِلْ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ، وَجَسَدِهِ ، ثُمَّ لِيَرْمِ بِبَصَرِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ خَاشِعًا ، أَوْ لِيَخْفِضْهُ فَهُوَ أَقَلُّ لِسَهْوِهِ ، وَلاَ يَلْتَفِتْ ، وَلاَ يُحَرِّكْ شَيْئًا بِيَدِهِ ، وَلاَ بِرِجْلِهِ ، وَلاَ شَيْئًا مِنْ جَوَارِحِهِ ، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ ، وَلْيَبْشِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
إن صلاة الساهي صلاة ناقصة ذاهبة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد، وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الها عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ( إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبْعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ( لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا ))أ.ه. ولما كان السلف معظمين لشأن الصلاة والخشوع فيها فقد كانوا يتأهبون لصلاتهم ويبادرون لها حفاظاً على القيام بكافة حقوقها بل كانوا يجعلون تلك المبادرة معياراً تُعرف به استقامة العبد وصدق تديُّنِهِ حتى كان وكيعٌ يقول:( من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يحافظ عليها ، ومن تهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه) .
وقال سعيد بن المسيب :( منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة ) ، وكان يُسمى حمامة المسجد ، وقال عبد الرزاق : ( من عشرين سنة ما سمعت الأذان إلا في المسجد ) .وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( خيار عباد اللّه الذين يُراعون الشمس والقمر والأظلّة لذكر اللّه ) . قال الإمام المروزي - رحمه الله - : ( ومن حقوق الصلاة الطهارة من الأحداث وطهارة الثياب التي تُصلى فيها وطهارة البقاع التي تُصلى عليها والمحافظة على مواقيتها التي كان يحافظ عليها النبي صلى الها عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - والخشوع فيها من ترك الالتفات والعبث وحديث النفس وترك الفكرة فيما ليس من أمر الصلاة وإحضار القلب واشتغاله بما يقرأ ويقول بلسانه وإتمام الركوع والسجود فمن أتى بذلك كله كاملا على ما أمر به فهو الذي له العهد عند الله بأن يدخله الجنة ، ومن أتى بهن ولم يتركهن وقد انتقص من حقوقهن شيئا فهو الذي لا عهد له عند الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) .
إن ما يبين عظيم قدر الخشوع في الصلاة وأهمية حضور المصلي بقلبه وعقله في صلاته حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أَوَّلُ ما يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبدُ يَومَ القيَامةِ: يُحَاسَبُ بِصَلاتِهِ، فَإنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأنْجَحَ، وإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وأي صلاح في صلاة يؤديها بدن المصلي ويغيب عنها قلبه وعقله فربما لم يَدْرِ كم صلى ؟! وربما لم يدر ما قرأ إمامه ؟! يدخل في الصلاة بغفلة ويخرج منها بغفلة !!
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدَّام أنفسنا نتناوب الرعاية رعاية إبلنا ، فكانت عَليَّ رعاية الإبل فروَّحتها بالعَشِيِّ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فسمعته يوما يقول : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيركع ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه فقد أوجب) ، فقلت بخ بخ ما أجود هذه . رواه مسلم وأبو داود واللفظ له . وأوجب: أتى بما يُوجب له الجنة . ورواه الحاكم بلفظ : ( ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمُّه ..) الحديث وقال صحيح الإسناد وصححه الألباني .
فـتأملوا - يا رعاكم الله - كيف أكد صلى الله عليه وسلم على ضرورة حضور القلب في الصلاة بقوله : ( يقبل عليها بقلبه ووجهه ) وقوله ( فيعلم ما يقول ) . لأن صلاة يؤديها المصلي لا يعلم ما يقول فيها ليست بصلاة ، والصلاة التي لا يقبل المصلي فيها بقلبه على ربه ليست بصلاة .
o وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فلما سلَّم نادى رجلا - كان في آخر الصفوف - فقال : ( يا فلان ألا تتقي الله ؟! ألا تنظر كيف تصلي ؟ إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه.) . رواه ابن خزيمة في صحيحه وحسنه الألباني .
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ مَوْلَى هُذَيْلٍ ، قَالَ : جَاوَرْتُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي قُبَّةٍ لَهُ ، فَأَشَارَ إِلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنِ اجْتَمِعُوا ، فَاجْتَمَعْنَا ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، فَقَالَ : ( إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي ، فَإِنَّهُ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يُنَاجِيهِ ) وفي لفظ : ثُمَّ وَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ وَرَغَّبَ وَحَذَّرَ ، فَأَبْلَغَ جِدًّا ، ثُمَّ قَالَ : (إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلينظر أحدكم ما يقول في صلاته ) رواه البغوي وصححه الألباني.
إنه تنبيه إلى أن للوقوف بين يدي الله أدباً وخلقاً ، وليس في ذلك أقل من أن يعيَ المصلي ألفاظه التي يخاطب بها ربه لأن ليس من الأدب أن يخاطب المرء غيره بغير وعي ولا انتباه فكيف إذا كان يخاطب ربه ومليكه وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – (ومَثَلُ من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان ، فأوقفه بين يديه ، واقبل يناديه ويخاطبه وهو - في خلال ذلك - يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا ، وقد انصرف قلبه عن السلطان ، فلا يفهم ما يخاطبه به ، لأن قلبه ليس حاضرا معه ، فما ظن هذا الرجل أن يَفعل به السلطان ؟! أفليس أقلَّ المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مُبْعَدَا ؟! قد سقط من عينيه ؟! فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب ، المقبل على الله تعالى في صلاته ، الذي قد أشعر قلبه عظمةَ مَن هو واقف بين يديه ، فامتلأ قلبه من هيبته ، وذلَّت عنقُه له ، واستحى من ربه تعالى أن يُقبل على غيره أو يلتفت عنه ، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية : ( إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض ، وذلك : أن احدهما مقبل على الله - عز وجل - والآخر ساه غافل ) . فإذا أقبل العبد على مخلوق مثلِه وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا ، فما الظن بالخالق عز وجل ؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفةٌ بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالا ؟ وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب ؟ ) .
وعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أبو داود وصححه ابن رجب والألباني، ورواه النسائي ولفظه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلميصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل . يعني : يبكي .
وعن علي رضي قال : ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح رواه ابن خزيمة وصححه الألباني .
ولقد كان من الوصايا النبوية النافعة التي تحمل المصلي على الخشوع في صلاته أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا يقول : ( إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ) رواه أحمد والبيهقي أبي أيوب رضي الله عنه وصححه المحدث الألباني ، من صلى صلاة يعُدها آخر صلاة له على الدنيا وأنه يلقى الله بعدها فإنه يؤديها على أتم وجه وأكمله ، يُحضرُ فيها قلبه ، ويعظم فيها ربه .
ولقد اشتدت عناية أسلافنا الصالحين بالخشوع في الصلاة فحافظوا عليه وبينوا قدره وممنزلته ومن ذلك :
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر : ( إنّ الرجل ليَشِيْبُ عارضاه في الإسلام وما أكمل للّه تعالى صلاة !! ) ، قيل : وكيف ذاك ؟ : ( لا يُتم خشوعها وتواضعها وإقبالَه على اللّه تعالى فيها !!) .
ويقول سلمان الفارسي رضي الله عنه : ( الصلاة مكيال فمن وفَّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين ) .
ويقول حذيفة رضي الله عنه – أمينُ سرِّ النبي صلى الله عليه وسلم - : ( أول ما تَفقدون من دينكم الخشوع ، وآخرُ ما تَفقدون من دينكم الصلاة ، ورُبَّ مصلٍ لا خير فيه ، ويُوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا ) .
وعن عطاء قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : ( إذا صليتَ فانَّ ربَّك أمامك وأنت مناجيه ، فلا تلتفت ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( إن الله لا يزال مقبلا على العبد ما دام في صلاته ما لم يحدث أو يلتفت ).
عن الربيع بن أنس قال : ( إن العبد إذا التفت في الصلاة قال له الرب : ابنَ آدم أَقْبِلْ إليَّ ، فإن التفت الثانية قال له : ابن آدم أَقْبِلْ إليَّ ، فإن التفت الثالثة أو الرابعة - شك أبو يحيى - قال له الله : ابن آدم لا حاجة لي فيك).
ورأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رجلاً يصلي يَعبَث بلحيته فقال : ( لو خشع قلب هذا سَكَنَتْ جوارحه ) .
قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه : ( فِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ، لَوْ كُنْت فِي سَائِرِ أَحْوَالِي أَكُونُ فِيهِنَّ كُنْت أَنَا أَنَا : إذَا كُنْت فِي الصَّلَاةِ لَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَإِذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَا يَقَعُ فِي قَلْبِي رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ ، وَإِذَا كُنْت فِي جِنَازَةٍ لَمْ أُحَدِّثْ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ ، وَيُقَالُ لَهَا ) .
وقال عطاءٌ – رحمه الله - : ( بلغني أن الرب يقول : يا ابن آدم إلى مَن تلتفت أنا خير لك ممن تلتفت إليه ) .
وعن الحسن – رحمه الله - قال : ( إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتا كما أمرك الله ، وإياك والسهو ، والالتفات : أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره ، تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساهٍ ولا تدري ما تقول بلسانك !! ) .
وقيل لبعضهم : إنا لنوسوس في صلاتنا ؟ قال : ( بأيِّ شيءٍ بالجنة ؟ أو الحور العين والقيامة ) ؟ قالوا : لا ، بل بالدنيا !! فقال : ( لأن تختلف فيَّ الأسِنَّةُ أي : - أي تختلف في جسدي السيوف - أحبُ إليَّ مِن ذلك ، تقف في صلاتك بجسدك وقد وجهتَ وجهك إلى القبلة ووجهتَ قلبك إلى قُطر آخر !! ، ويحك ما تَصلح هذه الصلاة مهرا للجنة فكيف تصلح ثمنا للمحبة ).
وسُئل بعضهم : هل تذكر في صلاتك شيئاً ؟ قال : ( وهل شيء أحبّ إليّ من الصلاة فأذكره فيها ؟ ) .
وعن عبَّاد بن كثير قال : ( للمصلي ثلاث : تحف به الملائكة من قدميه إلى عنان السماء ، وتُناثر عليه البِّرِّ من عنان السماء إلى مفرق رأسه ، وينادي مناد : لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل ) .
وقال سعيد بن جبير : ما عرفت من على يميني ولا على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة ، منذ سمعت ابن عباس يقول : الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلّي من على يمينه وعن شماله .
وعن مجاهد عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقوم في الصلاة كأنه عود، وكان أبوبكر يفعل ذلك، وقال مجاهد: هو الخشوع في الصلاة.
وكان شُعْبَةَ بن الحجاج يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ فِي صَلَاةٍ قَطُّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَنْفَتِلَ حَتَّى يُسْتَجَابَ لَهُ "
ويقول الإمام سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله تعالى : " لَوْ رَأَيْتَ مَنْصُورًا يُصَلِّي لَقُلْتَ يَمُوتُ السَّاعَةَ " ومنصور هو ابن المعتمر الإمام المحدث .
قال بعض أهل العلم : إن كان – أي المصلي - متواضعا في الدنيا في صلاته خاشعا يَأخذ بيده اليسرى باليمنى حُشر على إخباته في صلاته ، ثوابا لخشوعه في صلاته ، علامة له من بين الخلائق : أنه هكذا كان لله في الدنيا ، متذللا إذا قام بين يديه يناجيه.
يقول الإمام الكبير محمد بن نصر المروزي : ( أهل العلم مجتمعون على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير عمل الصلاة ، أو بفكر ، وشغل قلبه بالنظر في غير أمر الصلاة ، أنه منقوص من ثواب من لم يفعل ذلك ، تاركا جزءا من تمام صلاته وكمالها ، فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ولا في شيء منها ، إذا كان بجميع قلبه وجميع بدنه في الصلاة ، فكأنه ليس في الأرض ، إلا أن ثِقَلَ بدنه عليها ، وذلك أنه يناجي الملك الأكبر ، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها .
وكيف يفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن الله مقبل عليه بوجهه ؟! ، فكيف يجوز لمن صدَّق بأن الله مقبل عليه بوجهه : أن يلتفت ؟! أو يغيب ؟! أو يتفكر ؟! أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ؟! ، لأن اشتغاله في صلاته بغيرها من الالتفات أو العبث أو التفكر في شيء من الدنيا هو إعراضٌ عمن أقبل عليه ، وما يقوى قلب عاقل لبيب أن يقبل عليه مِن الخلق مَن له عنده قدر فيراه يولي عنه بمعنى من المعاني !! ، وكلُ مقبلٍ - سوى الله - لا يطَّلع على ضمير من ولَّى عنه بضميره ، والله تعالى مقبل على المصلي بوجهه ، يرى إعراضه بضميره ، وبكل جارحة من جوارحه ، سوى صلاته التي أقبل عليه بوجهه من أجلها ، فكيف يجوز لمؤمن عاقل أن يملَّها أو يلتفت أو يتشاغل بغير الإقبال على رب العالمين ؟! ، إذ أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله مقبل عليه بوجهه ، فهل يفعل ذلك مَن فَعَلَهُ إلا قلةَ مبالاةٍ بالمقبل عليه ؟! ، أو كيف يجوز لمن عَرَفَ أن الله مقبلٌ عليه وهو مناجٍ له أن يُعرض عنه بما قل أو كثر ؟!!!.).
الخطبة الثانية
يقول الغزاليُّ رحمه اللّه : ( واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك عن معاني قراءتك فهو وسواس ؛ فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة ؛ بل المقصود معانيها ) .
ويبين الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – الكيد العظيم الذي يبذله الشيطان الرجيم عليه لعائن الله في تضييع الصلاة على العبد فيقول : ( والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه ، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربِه وأغيظِه للشيطان وأشدِّه عليه ، فهو يحرص ويجتهد أن لا يُقِيمَه فيه ، بل لا يزال به يَعِدُه ويُمَنِّيْه ويُنسيه ويُجْلِبُ عليه بخيله ورَجْلِه حتى يهوِّن عليه شأن الصلاة ، فيتهاون بها فيتركها ، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ، ويحول بينه وبين قلبه ، فيذكِّرُه في الصلاة ما لم يذْكر قبل دخوله فيها ، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ، ليشغل قلبه بها ، ويأخذه عن الله عز وجل ، فيقوم فيها بلا قلب !! فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته ، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها ، بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة ، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها ، وأكمل خشوعها ، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه ، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه ، وأحس بأثقال قد وُضعت عنه ، فوجد نشاطا وراحة وروحا ، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها ، لأنها قرة عينيه ، ونعيم روحه ، وجنة قلبه ، ومستراحه في الدنيا ، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها ، فيستريح بها لا منها ، فالمحبون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم : ( يا بلال أرحنا بالصلاة ، ، ولم يقل أرحنا منها !! وقال صلى الله عليه وسلم :( جعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة) ، فمن جُعلت قرةُ عينه في الصلاة كيف تقرُّ عينُه بدونها ؟! وكيف يُطيق الصبرَ عنها ؟ فصلاةُ هذا الحاضر بقلبه ، الذي قرة عينه في الصلاة ، هي التي تصعد ولها نور وبرهان ، حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول : حفظك الله تعالى كما حفظتني ، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها فإنها تُلف كما يلف الثوب الخَلِق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول : ضيعك الله كما ضيعتني ) .
ويقول – رحمه الله تعالى - : « للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف ، قال تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } »..
والذي يعينك – أخي المصلي – على تحقيق الخشوع في الصلاة أمور منها :
1. اجمع همتك وأحضر قلبك: فإنه متى أهمك أمرٌ حضر قلبك ضرورة ، ولا علاج لإحضاره إلا صرفُ الهمة إلى الصلاة، وانصرافُ الهمة يَقوى ويَضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا،وعن ابن المبارك،قال:سألت سفيان الثوري قلت: الرجل إذا قام إلى الصلاة أي شيء ينوي بقراءته وصلاته؟قال:( ينوي أنه يناجي ربه ).
2. تلذذ بصلاتك ومناجاتك معبودك الذي تقف بين يديه وتخاطبه : فاللذة التي يجدها العُبَّاد في صلاتهم هي التي عبر عنها ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»، ولا نظن أن مصليا وجد هذه اللذة وذاق طعمها يفرط فيها ويتساهل في طلبها.
3. بكِّر إلى الصلاة : وذلك ليتهيأ قلبك للوقوف بين يدي الله عز وجل، ومجيء المصلي إلى الصلاة مبكرًا وقراءته لما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع كل ذلك أدعى لحصول خشوعه في الصلاة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لا تنتظروا بالصلاة أن يُنادى بها ، ولكن تأهبوا لها ، فأتوها وعليكم السكينة والوقار ) .وعن عدي بن حاتم قال : ( ما دخل وقت صلاة قط حتى أشتاق إليها ) .وفرقٌ بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس لغو وحديث في الدنيا ، وبين شخص قام إلى الصلاة مهيأ القلب هادئ النفس للوقوف أمام الله ، فلا شك أن حال الثاني مع الله في صلاته أفضل من الأول بكثير.
4. جاهد نفسك ودوام مطالبتها بتحقيق الخشوع في الصلاة وراقبها وحاسبها على التقصير في ذلك : فلا يزال العبد الموفَّقُ يجاهد نفسه على ذلك ويتدرج في تحصيله ويلوم نفسه على النقص فيه والإخلال به حتى يمنَّ الله عليه بنعمته فيصبح للصلاة في قلبه شأن لا يصرفه عنه شيء أبداً .
5. استشعر الحياء من الله أن تصلي وقلبك غافل : وذلك بأن تستحيي من الله أن تتقرب إليه بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالحياء من الله يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة.
6. احمل نفسك على الاقتداء بسلفك المباركين : الذين عرفوا ربهم حقاً وعظموه صدقاً فامتلأت قلوبهم هيبة لمقام الوقوف بين يديه فكان للصلاة عندهم شأناً .
7. اشغل نفسك بتدبر معنى ما تقرأ وتقول : ففي ذلك انصراف عن الخطرات والوساوس وانتفاع بالذكر والمناجاة والتدبر وفي الحديث:( إن في الصلاة لشغلاً ).
لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بما سيؤول إليه حال كثير من المصلين من الغفلة في الصلاة وفقدانهم الخشوع فيها ، وتأديتهم لها تأدية جوفاء تحضر فيها الأبدان وتفقد فيها القلوب فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أول شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوعُ ، حتى لا ترى فيها خاشعا !!) رواه الترمذي والطبراني وحسنه الهيثمي وصححه الألباني .
ولله ما أجل كلمات الصحابي العالِم أبي هريرة رضي الله عنه إذ يقول مبيناً لنا مقام الخشوع في الصلاة ومكانته فيقول :( الصَّلاَةُ قُرْبَانٌ ،وَالصَّدَقَةُ فِدَاءٌ ،وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ،إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلاَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَرَادَ مِنْ إِمَامٍ حَاجَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً ، وَمَثَلُ الصَّدَقَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أُسِرَ فَفَدَى نَفْسَهُ ، وَمَثَلُ الصِّيَامِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَقِيَ عُدُوًّا وَعَلَيْهِ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ ، وَقَالَ : إِذَا قَامَ الْعَبْدُ يَعْنِي إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ فِي مَقَامٍ عَظِيمٍ ، وَاقِفٌ عَلَى اللهِ يُنَاجِيهِ ، وَيَتَرَضَّاهُ ، قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْمَعُ لِقِيلِهِ ، وَيَرَى عَمَلَهُ ، وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، فَلْيُقْبِلْ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ، وَجَسَدِهِ ، ثُمَّ لِيَرْمِ بِبَصَرِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ خَاشِعًا ، أَوْ لِيَخْفِضْهُ فَهُوَ أَقَلُّ لِسَهْوِهِ ، وَلاَ يَلْتَفِتْ ، وَلاَ يُحَرِّكْ شَيْئًا بِيَدِهِ ، وَلاَ بِرِجْلِهِ ، وَلاَ شَيْئًا مِنْ جَوَارِحِهِ ، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ ، وَلْيَبْشِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
إن صلاة الساهي صلاة ناقصة ذاهبة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد، وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الها عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ( إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبْعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ( لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا ))أ.ه. ولما كان السلف معظمين لشأن الصلاة والخشوع فيها فقد كانوا يتأهبون لصلاتهم ويبادرون لها حفاظاً على القيام بكافة حقوقها بل كانوا يجعلون تلك المبادرة معياراً تُعرف به استقامة العبد وصدق تديُّنِهِ حتى كان وكيعٌ يقول:( من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يحافظ عليها ، ومن تهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه) .
وقال سعيد بن المسيب :( منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة ) ، وكان يُسمى حمامة المسجد ، وقال عبد الرزاق : ( من عشرين سنة ما سمعت الأذان إلا في المسجد ) .وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( خيار عباد اللّه الذين يُراعون الشمس والقمر والأظلّة لذكر اللّه ) . قال الإمام المروزي - رحمه الله - : ( ومن حقوق الصلاة الطهارة من الأحداث وطهارة الثياب التي تُصلى فيها وطهارة البقاع التي تُصلى عليها والمحافظة على مواقيتها التي كان يحافظ عليها النبي صلى الها عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - والخشوع فيها من ترك الالتفات والعبث وحديث النفس وترك الفكرة فيما ليس من أمر الصلاة وإحضار القلب واشتغاله بما يقرأ ويقول بلسانه وإتمام الركوع والسجود فمن أتى بذلك كله كاملا على ما أمر به فهو الذي له العهد عند الله بأن يدخله الجنة ، ومن أتى بهن ولم يتركهن وقد انتقص من حقوقهن شيئا فهو الذي لا عهد له عند الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) .
إن ما يبين عظيم قدر الخشوع في الصلاة وأهمية حضور المصلي بقلبه وعقله في صلاته حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أَوَّلُ ما يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبدُ يَومَ القيَامةِ: يُحَاسَبُ بِصَلاتِهِ، فَإنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأنْجَحَ، وإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وأي صلاح في صلاة يؤديها بدن المصلي ويغيب عنها قلبه وعقله فربما لم يَدْرِ كم صلى ؟! وربما لم يدر ما قرأ إمامه ؟! يدخل في الصلاة بغفلة ويخرج منها بغفلة !!
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدَّام أنفسنا نتناوب الرعاية رعاية إبلنا ، فكانت عَليَّ رعاية الإبل فروَّحتها بالعَشِيِّ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فسمعته يوما يقول : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيركع ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه فقد أوجب) ، فقلت بخ بخ ما أجود هذه . رواه مسلم وأبو داود واللفظ له . وأوجب: أتى بما يُوجب له الجنة . ورواه الحاكم بلفظ : ( ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمُّه ..) الحديث وقال صحيح الإسناد وصححه الألباني .
فـتأملوا - يا رعاكم الله - كيف أكد صلى الله عليه وسلم على ضرورة حضور القلب في الصلاة بقوله : ( يقبل عليها بقلبه ووجهه ) وقوله ( فيعلم ما يقول ) . لأن صلاة يؤديها المصلي لا يعلم ما يقول فيها ليست بصلاة ، والصلاة التي لا يقبل المصلي فيها بقلبه على ربه ليست بصلاة .
o وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فلما سلَّم نادى رجلا - كان في آخر الصفوف - فقال : ( يا فلان ألا تتقي الله ؟! ألا تنظر كيف تصلي ؟ إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه.) . رواه ابن خزيمة في صحيحه وحسنه الألباني .
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ مَوْلَى هُذَيْلٍ ، قَالَ : جَاوَرْتُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي قُبَّةٍ لَهُ ، فَأَشَارَ إِلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنِ اجْتَمِعُوا ، فَاجْتَمَعْنَا ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، فَقَالَ : ( إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي ، فَإِنَّهُ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يُنَاجِيهِ ) وفي لفظ : ثُمَّ وَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ وَرَغَّبَ وَحَذَّرَ ، فَأَبْلَغَ جِدًّا ، ثُمَّ قَالَ : (إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلينظر أحدكم ما يقول في صلاته ) رواه البغوي وصححه الألباني.
إنه تنبيه إلى أن للوقوف بين يدي الله أدباً وخلقاً ، وليس في ذلك أقل من أن يعيَ المصلي ألفاظه التي يخاطب بها ربه لأن ليس من الأدب أن يخاطب المرء غيره بغير وعي ولا انتباه فكيف إذا كان يخاطب ربه ومليكه وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – (ومَثَلُ من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان ، فأوقفه بين يديه ، واقبل يناديه ويخاطبه وهو - في خلال ذلك - يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا ، وقد انصرف قلبه عن السلطان ، فلا يفهم ما يخاطبه به ، لأن قلبه ليس حاضرا معه ، فما ظن هذا الرجل أن يَفعل به السلطان ؟! أفليس أقلَّ المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مُبْعَدَا ؟! قد سقط من عينيه ؟! فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب ، المقبل على الله تعالى في صلاته ، الذي قد أشعر قلبه عظمةَ مَن هو واقف بين يديه ، فامتلأ قلبه من هيبته ، وذلَّت عنقُه له ، واستحى من ربه تعالى أن يُقبل على غيره أو يلتفت عنه ، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية : ( إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض ، وذلك : أن احدهما مقبل على الله - عز وجل - والآخر ساه غافل ) . فإذا أقبل العبد على مخلوق مثلِه وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا ، فما الظن بالخالق عز وجل ؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفةٌ بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالا ؟ وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب ؟ ) .
وعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أبو داود وصححه ابن رجب والألباني، ورواه النسائي ولفظه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلميصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل . يعني : يبكي .
وعن علي رضي قال : ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح رواه ابن خزيمة وصححه الألباني .
ولقد كان من الوصايا النبوية النافعة التي تحمل المصلي على الخشوع في صلاته أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا يقول : ( إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ) رواه أحمد والبيهقي أبي أيوب رضي الله عنه وصححه المحدث الألباني ، من صلى صلاة يعُدها آخر صلاة له على الدنيا وأنه يلقى الله بعدها فإنه يؤديها على أتم وجه وأكمله ، يُحضرُ فيها قلبه ، ويعظم فيها ربه .
ولقد اشتدت عناية أسلافنا الصالحين بالخشوع في الصلاة فحافظوا عليه وبينوا قدره وممنزلته ومن ذلك :
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر : ( إنّ الرجل ليَشِيْبُ عارضاه في الإسلام وما أكمل للّه تعالى صلاة !! ) ، قيل : وكيف ذاك ؟ : ( لا يُتم خشوعها وتواضعها وإقبالَه على اللّه تعالى فيها !!) .
ويقول سلمان الفارسي رضي الله عنه : ( الصلاة مكيال فمن وفَّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين ) .
ويقول حذيفة رضي الله عنه – أمينُ سرِّ النبي صلى الله عليه وسلم - : ( أول ما تَفقدون من دينكم الخشوع ، وآخرُ ما تَفقدون من دينكم الصلاة ، ورُبَّ مصلٍ لا خير فيه ، ويُوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا ) .
وعن عطاء قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : ( إذا صليتَ فانَّ ربَّك أمامك وأنت مناجيه ، فلا تلتفت ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( إن الله لا يزال مقبلا على العبد ما دام في صلاته ما لم يحدث أو يلتفت ).
عن الربيع بن أنس قال : ( إن العبد إذا التفت في الصلاة قال له الرب : ابنَ آدم أَقْبِلْ إليَّ ، فإن التفت الثانية قال له : ابن آدم أَقْبِلْ إليَّ ، فإن التفت الثالثة أو الرابعة - شك أبو يحيى - قال له الله : ابن آدم لا حاجة لي فيك).
ورأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رجلاً يصلي يَعبَث بلحيته فقال : ( لو خشع قلب هذا سَكَنَتْ جوارحه ) .
قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه : ( فِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ، لَوْ كُنْت فِي سَائِرِ أَحْوَالِي أَكُونُ فِيهِنَّ كُنْت أَنَا أَنَا : إذَا كُنْت فِي الصَّلَاةِ لَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَإِذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَا يَقَعُ فِي قَلْبِي رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ ، وَإِذَا كُنْت فِي جِنَازَةٍ لَمْ أُحَدِّثْ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ ، وَيُقَالُ لَهَا ) .
وقال عطاءٌ – رحمه الله - : ( بلغني أن الرب يقول : يا ابن آدم إلى مَن تلتفت أنا خير لك ممن تلتفت إليه ) .
وعن الحسن – رحمه الله - قال : ( إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتا كما أمرك الله ، وإياك والسهو ، والالتفات : أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره ، تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساهٍ ولا تدري ما تقول بلسانك !! ) .
وقيل لبعضهم : إنا لنوسوس في صلاتنا ؟ قال : ( بأيِّ شيءٍ بالجنة ؟ أو الحور العين والقيامة ) ؟ قالوا : لا ، بل بالدنيا !! فقال : ( لأن تختلف فيَّ الأسِنَّةُ أي : - أي تختلف في جسدي السيوف - أحبُ إليَّ مِن ذلك ، تقف في صلاتك بجسدك وقد وجهتَ وجهك إلى القبلة ووجهتَ قلبك إلى قُطر آخر !! ، ويحك ما تَصلح هذه الصلاة مهرا للجنة فكيف تصلح ثمنا للمحبة ).
وسُئل بعضهم : هل تذكر في صلاتك شيئاً ؟ قال : ( وهل شيء أحبّ إليّ من الصلاة فأذكره فيها ؟ ) .
وعن عبَّاد بن كثير قال : ( للمصلي ثلاث : تحف به الملائكة من قدميه إلى عنان السماء ، وتُناثر عليه البِّرِّ من عنان السماء إلى مفرق رأسه ، وينادي مناد : لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل ) .
وقال سعيد بن جبير : ما عرفت من على يميني ولا على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة ، منذ سمعت ابن عباس يقول : الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلّي من على يمينه وعن شماله .
وعن مجاهد عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقوم في الصلاة كأنه عود، وكان أبوبكر يفعل ذلك، وقال مجاهد: هو الخشوع في الصلاة.
وكان شُعْبَةَ بن الحجاج يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ فِي صَلَاةٍ قَطُّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَنْفَتِلَ حَتَّى يُسْتَجَابَ لَهُ "
ويقول الإمام سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله تعالى : " لَوْ رَأَيْتَ مَنْصُورًا يُصَلِّي لَقُلْتَ يَمُوتُ السَّاعَةَ " ومنصور هو ابن المعتمر الإمام المحدث .
قال بعض أهل العلم : إن كان – أي المصلي - متواضعا في الدنيا في صلاته خاشعا يَأخذ بيده اليسرى باليمنى حُشر على إخباته في صلاته ، ثوابا لخشوعه في صلاته ، علامة له من بين الخلائق : أنه هكذا كان لله في الدنيا ، متذللا إذا قام بين يديه يناجيه.
يقول الإمام الكبير محمد بن نصر المروزي : ( أهل العلم مجتمعون على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير عمل الصلاة ، أو بفكر ، وشغل قلبه بالنظر في غير أمر الصلاة ، أنه منقوص من ثواب من لم يفعل ذلك ، تاركا جزءا من تمام صلاته وكمالها ، فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ولا في شيء منها ، إذا كان بجميع قلبه وجميع بدنه في الصلاة ، فكأنه ليس في الأرض ، إلا أن ثِقَلَ بدنه عليها ، وذلك أنه يناجي الملك الأكبر ، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها .
وكيف يفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن الله مقبل عليه بوجهه ؟! ، فكيف يجوز لمن صدَّق بأن الله مقبل عليه بوجهه : أن يلتفت ؟! أو يغيب ؟! أو يتفكر ؟! أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ؟! ، لأن اشتغاله في صلاته بغيرها من الالتفات أو العبث أو التفكر في شيء من الدنيا هو إعراضٌ عمن أقبل عليه ، وما يقوى قلب عاقل لبيب أن يقبل عليه مِن الخلق مَن له عنده قدر فيراه يولي عنه بمعنى من المعاني !! ، وكلُ مقبلٍ - سوى الله - لا يطَّلع على ضمير من ولَّى عنه بضميره ، والله تعالى مقبل على المصلي بوجهه ، يرى إعراضه بضميره ، وبكل جارحة من جوارحه ، سوى صلاته التي أقبل عليه بوجهه من أجلها ، فكيف يجوز لمؤمن عاقل أن يملَّها أو يلتفت أو يتشاغل بغير الإقبال على رب العالمين ؟! ، إذ أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله مقبل عليه بوجهه ، فهل يفعل ذلك مَن فَعَلَهُ إلا قلةَ مبالاةٍ بالمقبل عليه ؟! ، أو كيف يجوز لمن عَرَفَ أن الله مقبلٌ عليه وهو مناجٍ له أن يُعرض عنه بما قل أو كثر ؟!!!.).
الخطبة الثانية
يقول الغزاليُّ رحمه اللّه : ( واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك عن معاني قراءتك فهو وسواس ؛ فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة ؛ بل المقصود معانيها ) .
ويبين الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – الكيد العظيم الذي يبذله الشيطان الرجيم عليه لعائن الله في تضييع الصلاة على العبد فيقول : ( والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه ، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربِه وأغيظِه للشيطان وأشدِّه عليه ، فهو يحرص ويجتهد أن لا يُقِيمَه فيه ، بل لا يزال به يَعِدُه ويُمَنِّيْه ويُنسيه ويُجْلِبُ عليه بخيله ورَجْلِه حتى يهوِّن عليه شأن الصلاة ، فيتهاون بها فيتركها ، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ، ويحول بينه وبين قلبه ، فيذكِّرُه في الصلاة ما لم يذْكر قبل دخوله فيها ، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ، ليشغل قلبه بها ، ويأخذه عن الله عز وجل ، فيقوم فيها بلا قلب !! فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته ، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها ، بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة ، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها ، وأكمل خشوعها ، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه ، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه ، وأحس بأثقال قد وُضعت عنه ، فوجد نشاطا وراحة وروحا ، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها ، لأنها قرة عينيه ، ونعيم روحه ، وجنة قلبه ، ومستراحه في الدنيا ، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها ، فيستريح بها لا منها ، فالمحبون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم : ( يا بلال أرحنا بالصلاة ، ، ولم يقل أرحنا منها !! وقال صلى الله عليه وسلم :( جعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة) ، فمن جُعلت قرةُ عينه في الصلاة كيف تقرُّ عينُه بدونها ؟! وكيف يُطيق الصبرَ عنها ؟ فصلاةُ هذا الحاضر بقلبه ، الذي قرة عينه في الصلاة ، هي التي تصعد ولها نور وبرهان ، حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول : حفظك الله تعالى كما حفظتني ، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها فإنها تُلف كما يلف الثوب الخَلِق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول : ضيعك الله كما ضيعتني ) .
ويقول – رحمه الله تعالى - : « للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف ، قال تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } »..
والذي يعينك – أخي المصلي – على تحقيق الخشوع في الصلاة أمور منها :
1. اجمع همتك وأحضر قلبك: فإنه متى أهمك أمرٌ حضر قلبك ضرورة ، ولا علاج لإحضاره إلا صرفُ الهمة إلى الصلاة، وانصرافُ الهمة يَقوى ويَضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا،وعن ابن المبارك،قال:سألت سفيان الثوري قلت: الرجل إذا قام إلى الصلاة أي شيء ينوي بقراءته وصلاته؟قال:( ينوي أنه يناجي ربه ).
2. تلذذ بصلاتك ومناجاتك معبودك الذي تقف بين يديه وتخاطبه : فاللذة التي يجدها العُبَّاد في صلاتهم هي التي عبر عنها ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»، ولا نظن أن مصليا وجد هذه اللذة وذاق طعمها يفرط فيها ويتساهل في طلبها.
3. بكِّر إلى الصلاة : وذلك ليتهيأ قلبك للوقوف بين يدي الله عز وجل، ومجيء المصلي إلى الصلاة مبكرًا وقراءته لما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع كل ذلك أدعى لحصول خشوعه في الصلاة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لا تنتظروا بالصلاة أن يُنادى بها ، ولكن تأهبوا لها ، فأتوها وعليكم السكينة والوقار ) .وعن عدي بن حاتم قال : ( ما دخل وقت صلاة قط حتى أشتاق إليها ) .وفرقٌ بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس لغو وحديث في الدنيا ، وبين شخص قام إلى الصلاة مهيأ القلب هادئ النفس للوقوف أمام الله ، فلا شك أن حال الثاني مع الله في صلاته أفضل من الأول بكثير.
4. جاهد نفسك ودوام مطالبتها بتحقيق الخشوع في الصلاة وراقبها وحاسبها على التقصير في ذلك : فلا يزال العبد الموفَّقُ يجاهد نفسه على ذلك ويتدرج في تحصيله ويلوم نفسه على النقص فيه والإخلال به حتى يمنَّ الله عليه بنعمته فيصبح للصلاة في قلبه شأن لا يصرفه عنه شيء أبداً .
5. استشعر الحياء من الله أن تصلي وقلبك غافل : وذلك بأن تستحيي من الله أن تتقرب إليه بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالحياء من الله يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة.
6. احمل نفسك على الاقتداء بسلفك المباركين : الذين عرفوا ربهم حقاً وعظموه صدقاً فامتلأت قلوبهم هيبة لمقام الوقوف بين يديه فكان للصلاة عندهم شأناً .
7. اشغل نفسك بتدبر معنى ما تقرأ وتقول : ففي ذلك انصراف عن الخطرات والوساوس وانتفاع بالذكر والمناجاة والتدبر وفي الحديث:( إن في الصلاة لشغلاً ).