العام الجديد وشهر الله المحرم
عبدالرحمن السحيم
الحمد لله جعل التقوَى خيرَ زاد، أحمدهُ - سبحانه - وأشكرُه، والشكرُ حقٌّ واجبٌ له على كلِّ العباد، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولا نظيرَ ولا أنداد، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، شفيعُ المُوحِّدين يومَ التناد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه ذوي البرِّ والتُّقَى والرشاد.
أما بعد: فاتَّقُوا الله - عباد الله -، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
ذلك اليوم الذي تُكشَفُ فيه السرائِر، وكل مخفي في الضمائر، يومَ تُوضَعُ موازينُ العدل، وتُنشَرُ صحائِفُ الأعمال، ويُحاسَبُ فيه الخلائِقُ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
فأعِدُّوا لهذا اليوم عُدَّتَه، وخذُوا له أُهبَتَه. فمن صدَقَ يقينُه جدَّ، ومن علِمَ قُربَ الغايةِ استعدَّ، وليوم المعاد أعدّ.
ثم اعلَمُوا - رحِمَكم الله - أن الزمانَ سيَّار، وقد أدبَرَ عامُه واستدَار، وما مضَى فلن يعُود، وكلُّ لحظةٍ تمرُّ تزُفُّك - عبدَ الله - إلى يومٍ موعود.
فاغتنِمُوا الفرصةَ، وحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبرِ، وإنما يخِفُّ الحسابُ يومَ القيامةِ على من حاسَبَ نفسَه في الدنيا، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)
أيها المسلمون:
قد دخَلتُم في عامٍ جديد، بدايتُه شهرٌ حرام، ونهايتُه شهرٌ حرام. جعل الله عامكم عام خير ورزق وبر وعافية لكم ونصر للإسلام والمسلمين.
واعلموا عباد الله أن شهر محرَّم من الأشهُرِ الحُرمِ التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)
وقالَ فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الزَّمانَ قدِ استدَارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعَةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ مُتوالِياتٌ: ذو القَعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمُحرَّمُ، ورجَبُ مُضرَ الَّذي بينَ جُمادى وشعبانَ»؛ متفقٌ عليه.
فحرِيٌّ بالمسلم أن يستقبِلَ عامَه الجديدَ بطاعةِ اللهِ - عز وجلَّ -، والانقِيادِ لأوامرِه، والاستِعدادِ للقائِه، وأن يستشعِرَ ويعرِفَ للأشهر المُحرَّمة حُرمَتَها وفضلَها ومكانتَها، وأن يجتنب المحرمات فإن الذنوب في هذه الأشهر أعظم.
وقد رجَّحَ كثيرٌ من أهلِ العلم أن شهرَ مُحرَّم أفضلُ الأشهُرِ الحُرُم، وهو أفضل شهور العام بعد رمضان، ولعِظَمِ مكانتهِ في نفوس الصحابة، استأنَفُوا به في عهد عمر تقويمَ السنةِ الهجريةِ.
وقد اختص هذا الشهر بنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ سَائِرِ الشُّهُورِ؛ فَيُقَالُ: شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَلَا يُقَالُ فِي غَيْرِهِ كَذَلِكَ؛ وهذه دلالة عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَا يُضِيفُ إِلَيْهِ إِلَّا خَوَاصَّ مَخْلُوقَاتِهِ.
ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله -تعالى-، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله -تعالى- كما جاء في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به)، ناسب أن يختص هذا الشهر بالندب فيه إلى الصيام. فاحرِصُوا عباد الله على أن يكون لكم في شهركم هذا أكثر نصيبٍ من فضلِه.
فعن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضان: شهرُ اللهِ المُحَرَّم، وأفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضة: صلاةُ الليل» (رواه مسلم).
عبدَ الله:
لا للَّهو خُلِقتَ ولا للكسلِ. فبادِر وبادِر ودَع عنك العِلَل .. واغتَنِمِ الفُرصةَ قبل فواتِ الأمَلِ، ولا تكُن كمن نعَاه الحادِي:
قَطَعْتَ شُهورَ العامِ لهوًا وغفلةً *** ولم تَحْتَرِم فيما أتَيْتَ المُحَرَّمَا
فَلَا رَجَبًا وَافَيْتَ فِيهِ بِحَقِّهِ *** وَلَا صُمْتَ شَهْرَ الصَّوْمِ صَوْمًا مُتَمَّمَا
وَلَا فِي لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي *** مَضَى كُنْتَ قَوَّامًا وَلَا كُنْتَ مُحْرِمَا
فَهَل لك أن تمحُو الذُّنوبَ بِعَبرةٍ *** وتبكِي عليهَا حسرةً وتنَدُّمَا
وتستقبِلَ العامَ الجديدَ بِتَوبةٍ *** لعلَّك أن تمحُو بِهَا ما تَقَدَّمَا
فتداركوا ما فرطتم بصدق المتاب، وسارعوا إلى طاعة ربكم، مسارعة الحريص على نيل الثواب. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فالتقوى هي النجاةُ غدًا والزادُ أبدًا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
مَعشرَ المُسلمين: يوم عاشوراء، يومٌ عظيم، وفضلُه قديم، قد اختصَّ بخصائِصَ تاريخيةٍ ودينيَّة؛ منها:
مشروعيَّةُ صيامِه، فقد كان نبيُّ الله موسى - عليه الصلاة والسلام - يصومه، وكانت قريشٌ تصومه، فلما قدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – المدينةَ وجَدَ اليهودَ يصومونَه، فلما كان في العام القابِلِ صامَه وأمَرَ بصيامِه، ثمَّ فُرضَ شهرُ رمضانَ ذلك العام، فنُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراء، وبقِيَ صومُه مُستحبًّا.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فوجدَ اليهود يصومونَ يوم عاشوراء، فسُئِلُوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهَرَ الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومُه تعظيمًا له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «نحن أَولَى بموسى منهم، فصُومُوه» (متفقٌ عليه).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى صيام يومٍ فضَّله على غيرِه، إلا هذا اليومَ يومَ عاشوراء، وهذا الشهرَ - يعني: شهر رمضان -" (رواه البخاري).
وقد بلَغَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر عُمُره أن اليهود يتَّخِذُون عاشوراء عيدًا، فهَمَّ أن يصومَ التاسعَ والعاشرَ من العامِ المُقبل، وقال: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» فحالَتْ دونَه المنيَّة.
فَاسْتَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى سُنِّيَّةِ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، مَعَ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ بِصِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ، أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ؛ وإن صام ثلاثة أيام فله ذلك
وفي فضل صوم عاشوراء قال النبي - صلى الله عليه وسلم « صيامُ يومِ عاشوراءَ أَحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه». رواه مسلم" صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ ــ إِذَا قُبِلَ ــ يُغفَرُ بِهِ لِلإِنْسَانِ صغائر سَنَةٍ كَامِلَةٍ.. فَكَيْفَ يُفَرِّطُ عاقل فِي هَذَا الأَجْرِ العَظِيمِ وَالفَضْلِ الكَبيرِ، بِأَنْ يُؤْثِرَ لَذَةً مُؤقَتةً عَلَى مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ – (وَهَذَا فِيمَنْ صَادَفَهُ صَوْمُهُ وَلَهُ سَيِّئَاتٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُكَفِّرُهَا، فَإِنْ صَادَفَهُ صَوْمُهُ وَقَدْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ بِغَيْرِهِ انْقَلَبَتْ زِيَادَةً فِي دَرَجَاتِهِ». وقد كان الصحابة يحرصون على صومه ، ويُصوّمون صبيانهم، بل جاء عن بعض السلف صومه حتى لو كان مسافرا، فكَانَ الزُّهْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ - يُفْطِرُ إِذَا سَافَرَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ عَاشُورَاءَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَمْ يُفْطِرْ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّ رَمَضَانَ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَاشُورَاءَ يَفُوتُ».
فَاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى صِيَامِهِ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ؛ فَصُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ، ومن غُلِب فلا يُغلبنَّ على صيام اليوم العاشر.
وهو الموافق ليوم الجمعة القادم
ومن خصائص هذا اليوم: أنَّه يومٌ نجَّى الله فيه موسى وأهله، وأهلَك فرعون وقومه، ولهذا صامَه موسى وبنو إسرائيل شكرًا لله - عزَّ وجل -، ثم صامه النبي - صلى الله عليه وسلم – شكرًا لله -عزَّ وجل-.
ولا يشرع في هذا اليوم شيء غير الصيام كالنِيَاحَة ولطم الخدود وغير ذلك.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِيْ الآَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1689860776_العام الجديد .. وشهر الله المحرم.doc
1689860783_العام الجديد وشهر محرم..pdf