العالم الذي مات في مكتبته
احمد ابوبكر
1437/05/07 - 2016/02/16 12:45PM
[align=justify]الشيخ محمد الفراج
العالم الذي مات في مكتبته :
الشيخ العلامة المحدث الفقيه إبراهيم الصبيحي الخالدي أستاذ السنة بجامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله
جاورته سنين في حي الخالدية ؛ فلنعم الجار ، ولنعم الصاحب ، ولنعم العالم ، ولنعم المعلم ..
فجعنا بخبر أزمته ( وفاته دماغيا ) يوم الجمعة قبل الماضي ، وقد فجأه المصاب سحرا في مكتبته،كان من عادته رحمه الله أنه يقوم في ساعة من آناء الليل ويصلي ما كتب الله له ثم يلج مكتبته في جلسة بحثية طويلة متصلة ربما لم يخرج منها إلا قبل الظهر وبعده ، إلا ما يتخللها من خروج إلى المسجد ..
وهذا معهود من الشيخ ومعروف عنه ؛ فقد كان بحّاثة دؤوبا صبورا جلدا على البحث والتنقيب ، ولذلك لم يتفطن أهله حتى تأخر عن عادته في الخروج إليهم ، فوجدوه في المكتبة راقدا بين كتبه ، ونقل إلى المشفى فلم يفق حتى فارق الحياة البارحة،وبهذا يصدق عليه المقولة المأثورة عن الإمام أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة ،وقال بعضهم:مع المحبرة إلى المقبرة ، ومع الدواة حتى الممات ، وقال ابن المبارك وقد سئل حتى متى تشقى في الطلب ؟ فقال : حتى الممات إن شاء الله ؛ لعل الكلمة التي تنفعني لم أسمعها أو لم أكتبها بعد ، وقال آخر - ولا يصح حديثا - اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ، والمعنى صحيح ، وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة ) ..
وكم من عالم مات على مصحفه أو كتابه !!
ومما ذكر عن العلامة الكبير عبد الرحمن السيوطي رحمه الله أنه ولد في مكتبة أبيه بين الكتب ، بعث أبوه أمه لتبحث له عن كتاب ففجأها الطلق فوضعته ؛ وكان السيوطي شغوفا بالمطالعة دؤوبا على البحث ، احتبس بعد الأربعين في مكتبته في غرفة مطلة على النيل عشرين سنة لم يفتح نافذتها ليتفرج على النيل في أصبوحة أو أمسية وينعم بنسيمه الرقراق ؛ وذلك بسبب شغله بالبحث والتصنيف ؛ فصنف المصنفات المطولة في أنواع علوم الفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة والتاريخ ومات وعمره إحدى وستون سنة رحمه الله تعالى ، وأخبار العلماء كثيرة
جاورت الشيخ الحبيب إبراهيم وكان يشهد معنا الجمعة ويصلي معي التراويح ويتصدى لأسئلة المصلين مكتوبة في قيام الليل الأول والأخير ولا يجيب على السؤال مهما كان واضحا إلا بعد جولة من البحث والاستقصاء ؛ لورعه وأمانته العلمية !!
وعرفته بالتقوى والصدق والورع ؛ كان لا يحب أن يذكر عنده أحد بسوء خاصة أهل العلم مهما كان هذا الإنسان ، وإذا انفلت لسان جليسه بذكر أحد نفض رأسه وكرر الاستغفار .
وكان حريصا على لزوم الجادة ومسلك الجمهور وعدم الانفراد بالقول إلا إذا كان الدليل كالشمس وضوحا ونقاء ، ويقول : رأي علمائنا لنا أصح وأنصح من رأينا لأنفسنا وغيرنا ؛ لهذا وفي خضم الجدل والسجالات العلمية حول بعض المسائل صنف فيها بعد بحث وفحص : كمصنفه في مشروعية التراويح عشرين ركعة ، ومصنفه في عدم وجوب زكاة الحلي المستعمل ، وتأليفه في وقت صلاة الفجر ، وغيرها من المسائل التي تكثر فيها الجدالات والسجالات ..
ومن تواضعه وتحوطه رحمه الله أنه كان إذا فرغ من مسودة كتاب دفعه إلى عدة أشخاص يراجعون عليه وبعضهم من طبقة تلامذته ، وكان يحرجني بمثل هذا الطلب تواضعا وتربية منه رحمه الله ؛ وإلا فمثلي لا يعقب على مثله .
فليت الشبيبة المتصدين للبحث يستفيدون من أدب الشيخ وورعه في هذا الجانب ..
وكان بارا بوالدته رحمها الله وجمعهما في جناته كان لا يأتي إلى المسجد في رمضان إلا معها يمشي خلفها أدبا ويلين الخطاب لها برا وتنتظره بعد الصلاة لدى الباب ؛ فإذا لمحها واقفة قطع جوابه وخطابه واعتذر للسائل والمحادث وقال : أمي وانصرف .
وكان إذا لحظ عليّ شيئا في الخطبة تقدم إلي وقدم بمقدمات وأضفى علي من ألقاب لا أستحق بعضها وأطنب في الثناء على الخطبة ، ثم أبدى ملحوظته على استحياء شديد وتحرّج ؛ ولولا الأمانة ما فعل رحمه الله .
وكان كريما جوادا له في بيته مجلس عامر يدعونا ويستضيف المشايخ ولا تسمع في مجلسه حديثا عن الدنيا أو الناس إلا فائدة علمية ونقاشا هادفا ..
وكان شديد التوقير للعلماء الأموات منهم والأحياء المتقدمين والمتأخرين يدعو لهم ويذكر فضائلهم ويعتذر لهفواتهم ، حتى كنت في حماس الشباب أعترض أحيانا وأقول : فعل وقال . فيقول : يا فضيلة الشيخ لو كتبنا ما كتبوا لكانت عثراتنا أكبر وأكثر الله يسترنا بستره وكان لا يخاطبني إلا بهذا تواضعا وأدبا مع أني أضع نفسي في خانة تلاميذه..
وفي حدّة الحملة على الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كان يذكر حسناته ويستغفر له ..
ومع ذلك كان غيورا على منهج السلف موقرا له
وسيرته حافلة عاطرة وحياته مدرسة في التقوى والورع والعلم والخلق الرفيع ..
رحمه الله ورفعه في عليين وخلفه في عقبه في الغابرين وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأحسن عزاءنا وأهله وجبر مصابنا بفراقه وفقده
وبارك في أبنائه الشيخ صالح وإخوانه وأخواته وأهله،والحمد لله رب العالمين
[/align]
العالم الذي مات في مكتبته :
الشيخ العلامة المحدث الفقيه إبراهيم الصبيحي الخالدي أستاذ السنة بجامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله
جاورته سنين في حي الخالدية ؛ فلنعم الجار ، ولنعم الصاحب ، ولنعم العالم ، ولنعم المعلم ..
فجعنا بخبر أزمته ( وفاته دماغيا ) يوم الجمعة قبل الماضي ، وقد فجأه المصاب سحرا في مكتبته،كان من عادته رحمه الله أنه يقوم في ساعة من آناء الليل ويصلي ما كتب الله له ثم يلج مكتبته في جلسة بحثية طويلة متصلة ربما لم يخرج منها إلا قبل الظهر وبعده ، إلا ما يتخللها من خروج إلى المسجد ..
وهذا معهود من الشيخ ومعروف عنه ؛ فقد كان بحّاثة دؤوبا صبورا جلدا على البحث والتنقيب ، ولذلك لم يتفطن أهله حتى تأخر عن عادته في الخروج إليهم ، فوجدوه في المكتبة راقدا بين كتبه ، ونقل إلى المشفى فلم يفق حتى فارق الحياة البارحة،وبهذا يصدق عليه المقولة المأثورة عن الإمام أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة ،وقال بعضهم:مع المحبرة إلى المقبرة ، ومع الدواة حتى الممات ، وقال ابن المبارك وقد سئل حتى متى تشقى في الطلب ؟ فقال : حتى الممات إن شاء الله ؛ لعل الكلمة التي تنفعني لم أسمعها أو لم أكتبها بعد ، وقال آخر - ولا يصح حديثا - اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ، والمعنى صحيح ، وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة ) ..
وكم من عالم مات على مصحفه أو كتابه !!
ومما ذكر عن العلامة الكبير عبد الرحمن السيوطي رحمه الله أنه ولد في مكتبة أبيه بين الكتب ، بعث أبوه أمه لتبحث له عن كتاب ففجأها الطلق فوضعته ؛ وكان السيوطي شغوفا بالمطالعة دؤوبا على البحث ، احتبس بعد الأربعين في مكتبته في غرفة مطلة على النيل عشرين سنة لم يفتح نافذتها ليتفرج على النيل في أصبوحة أو أمسية وينعم بنسيمه الرقراق ؛ وذلك بسبب شغله بالبحث والتصنيف ؛ فصنف المصنفات المطولة في أنواع علوم الفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة والتاريخ ومات وعمره إحدى وستون سنة رحمه الله تعالى ، وأخبار العلماء كثيرة
جاورت الشيخ الحبيب إبراهيم وكان يشهد معنا الجمعة ويصلي معي التراويح ويتصدى لأسئلة المصلين مكتوبة في قيام الليل الأول والأخير ولا يجيب على السؤال مهما كان واضحا إلا بعد جولة من البحث والاستقصاء ؛ لورعه وأمانته العلمية !!
وعرفته بالتقوى والصدق والورع ؛ كان لا يحب أن يذكر عنده أحد بسوء خاصة أهل العلم مهما كان هذا الإنسان ، وإذا انفلت لسان جليسه بذكر أحد نفض رأسه وكرر الاستغفار .
وكان حريصا على لزوم الجادة ومسلك الجمهور وعدم الانفراد بالقول إلا إذا كان الدليل كالشمس وضوحا ونقاء ، ويقول : رأي علمائنا لنا أصح وأنصح من رأينا لأنفسنا وغيرنا ؛ لهذا وفي خضم الجدل والسجالات العلمية حول بعض المسائل صنف فيها بعد بحث وفحص : كمصنفه في مشروعية التراويح عشرين ركعة ، ومصنفه في عدم وجوب زكاة الحلي المستعمل ، وتأليفه في وقت صلاة الفجر ، وغيرها من المسائل التي تكثر فيها الجدالات والسجالات ..
ومن تواضعه وتحوطه رحمه الله أنه كان إذا فرغ من مسودة كتاب دفعه إلى عدة أشخاص يراجعون عليه وبعضهم من طبقة تلامذته ، وكان يحرجني بمثل هذا الطلب تواضعا وتربية منه رحمه الله ؛ وإلا فمثلي لا يعقب على مثله .
فليت الشبيبة المتصدين للبحث يستفيدون من أدب الشيخ وورعه في هذا الجانب ..
وكان بارا بوالدته رحمها الله وجمعهما في جناته كان لا يأتي إلى المسجد في رمضان إلا معها يمشي خلفها أدبا ويلين الخطاب لها برا وتنتظره بعد الصلاة لدى الباب ؛ فإذا لمحها واقفة قطع جوابه وخطابه واعتذر للسائل والمحادث وقال : أمي وانصرف .
وكان إذا لحظ عليّ شيئا في الخطبة تقدم إلي وقدم بمقدمات وأضفى علي من ألقاب لا أستحق بعضها وأطنب في الثناء على الخطبة ، ثم أبدى ملحوظته على استحياء شديد وتحرّج ؛ ولولا الأمانة ما فعل رحمه الله .
وكان كريما جوادا له في بيته مجلس عامر يدعونا ويستضيف المشايخ ولا تسمع في مجلسه حديثا عن الدنيا أو الناس إلا فائدة علمية ونقاشا هادفا ..
وكان شديد التوقير للعلماء الأموات منهم والأحياء المتقدمين والمتأخرين يدعو لهم ويذكر فضائلهم ويعتذر لهفواتهم ، حتى كنت في حماس الشباب أعترض أحيانا وأقول : فعل وقال . فيقول : يا فضيلة الشيخ لو كتبنا ما كتبوا لكانت عثراتنا أكبر وأكثر الله يسترنا بستره وكان لا يخاطبني إلا بهذا تواضعا وأدبا مع أني أضع نفسي في خانة تلاميذه..
وفي حدّة الحملة على الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كان يذكر حسناته ويستغفر له ..
ومع ذلك كان غيورا على منهج السلف موقرا له
وسيرته حافلة عاطرة وحياته مدرسة في التقوى والورع والعلم والخلق الرفيع ..
رحمه الله ورفعه في عليين وخلفه في عقبه في الغابرين وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأحسن عزاءنا وأهله وجبر مصابنا بفراقه وفقده
وبارك في أبنائه الشيخ صالح وإخوانه وأخواته وأهله،والحمد لله رب العالمين
[/align]