العالم الإسلامي في خضم التحولات الكونية

العالم الإسلامي في خضم التحولات الكونية

د. بوطالب: رقابة الضمير الديني تمثل سلطة الحكم الإسلامي الضاربة جذورها في أعماق المجتمع


عبد السلام طويل
رئيس تحرير مجلة الإحياء

إن أي تفكير جدّي في مستقبل العالم الإسلامي رهن بإجالة النظر وتعميق التفكير من الوجهتين السياسية والإستراتيجية في طبيعة ما أمسى ينعت بمشروع "النظام العالمي الجديد"، وشبكة الروابط والتوازنات التي تربطه بعالمنا الإسلامي في ظل ظاهرة العولمة، حتى يمكننا فك الارتباط الظالم بنظام القوة والمصلحة العارية من القيم، وتأسيس قواعد جديدة لنظام عالمي قوامه العدل والتعايش والتعاون.
ومن الدراسات القليلة الجادة التي تصدت لتحليل هذا الموضوع ومقاربته من موقع المفكر العالم بالتاريخ والسياسة والفاعل فيها، دراسة الأستاذ عبد الهادي بو طالب من خلال كتابه: "العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد". وقد قسمه إلى مقدمة مكثفة اختزل فيها المشهد الدولي الحديث والمعاصر بكثير من العمق والاستيعاب، وأربعة فصول: الفصل الأول: العلاقات الدولية من القطبية الثنائية إلى القطبية المتعددة.
الفصل الثاني: العالم الإسلامي ومقوماته الذاتية. الفصل الثالث: مقومات النظام الإسلامي. الفصل الرابع: تمهيد لقيام نظام عالمي جديد. فمع أن النقاش العام في مجال الدراسات السياسية والإستراتيجية قد انتقل من التركيز على "مفهوم النظام العالمي الجديد" إلى مفهوم يتجاوزه جدليا ويستبطنه؛ وهو مفهوم "العولمة"، إلا أن المنظور التفسيري للكتاب موضوع القراءة (العالم الإسلامي والنظام العالمي الجديد"، دار الساقي، بيروت، لبنان، 1995، وقد سبق أن نشرت بمجلة "الفيصل" السعودية، عدد: 237، 1996، ص: 57-60) لا زال يحتفظ براهنيته رغم مرور حوالي 14 سنة عن صدوره...
ففي الفصل الأول يتجاوز الكاتب شرنقة الارتهان بين الثنائية القطبية و الأحادية القطبية، مؤكداً أن أية قوة مهما كان نفوذها لن تستطيع السيطرة على العالم والتحكم فيه، وأن العالم بعد انهيار القطب الشيوعي أمست تحكمه تعددية قطبية، ولو أنها في مرحلة التشكل.
أما القطب الأمريكي فلم يتردد عدد من المفكرين، أبرزهم أمريكيون، في توقع انهياره في المستقبل القريب بوصفه دولة عظمى وهي الحقيقة التي جعلت الولايات المتحدة تنهج سياسة الضغط على الحلفاء المنافسين واستدراج الدول المجاورة إلى وحدة جمركية كاملة، واتباع سياسة الاحتضان الاقتصادي والسياسي للحيلولة دون طموحات اليابان في اكتساب الأسواق الجديدة في أوربا، وهو ما اتضح بجلاء في منطقة الخليج العربي.
لقد عرض بو طالب، وفق منظور منهجي يمزج، بشكل رفيع، بين السياسي والاقتصادي والثقافي، أهمّ المناطق والمنظومات المؤهلة لأن تؤدي دورا طلائعياً ومؤثراً في تشكيل الملامح الكبرى لمشروع النظام العالمي الجديد إلى جانب الفاعلين التقليديين: الولايات المتحدة وروسيا، في مقدمتها الاتحاد الأوربي واليابان والصين والهند وأمريكا اللاتينية.
ويُلمح الكاتب إلى انعدام التطابق بين التطور السياسي والاقتصادي من جهة، والتطور الأخلاقي من جهة أخرى، فليست هناك علاقة تلازم شرطية تربط بينهما، فالنمو الاقتصادي والسياسي لا يؤديان بالضرورة إلى نمو أخلاقي، وهو ما لاحظه بالنسبة لتجربة أمريكا اللاتينية: "ومن المفارقات المؤسفة أنه كلما تم انفتاح وتطور سياسي واقتصادي كانت له تبعات سلبية في ميدان المخدرات..!".
وبعد أن أوضح إخفاق معظم الدول الإفريقية في إعادة الهيكلة الاقتصادية إذعانا لشروط برامج المؤسسات المالية الدولية، وكيف أدى ذلك إلى مضاعفة متاعبها الاقتصادية، وترسيخ مختلف مظاهر الانحلال الإداري التي تمس هيبة الدولة وقدرتها على حسن التدبير، يتساءل المؤلف: "وفي هذا الوضع القاتم كيف يتأتّى لدول القارة السمراء أن تُسمعَ صوتَها في عالم تخلى عن المبادئ ليبني مستقبله على تفاعل القوى؟".
وإلى غاية نهاية الفصل الأول لا نكاد نمسك بأية ملامح محددة للنظام العالمي الجديد، حيث جميع القرائن تتضافر للدلالة على أن الحيرة بدأت تدب في جميع المناطق بما في ذلك الولايات المتحدة وأوربا، وأن غالبية الفاعلين الدوليين هم في ريبة من النظام الجديد، ولاسيما أن الأحداث قد أخذت تعود بالعالم القهقرى إلى سابق مطاحناته.
ص43. في الفصل الثاني، بعد أن يحدد المؤلف العالم الإسلامي تحديدا عقديا قبل أي تحديد جغرافي أو اقتصادي أو اجتماعي، لكونه "عالم الرسالة المحمدية العالمية التي جاءت دعوتها موجهة للناس كافة، والتي أمر دستورُها "القرآن" أمّتها أن تكون الداعية إلى الخير، الناهية عن المنكر في كل مكان"، وبعد أن يحدد الأمة بكونها الأمة التي تلتف حول الإسلام، يقف على المفهومين الجزئي والكلي للإسلام مشدداً على المفهوم الكلي الحضاري الواسع حيث يجرى الحديث عن الحضارة الإسلامية، والسياسية الإسلامية، والنظام الإسلامي، والثروات الإسلامية، والطاقات الفكرية الإسلامية في إطار مشروع شامل لأسلمة المعرفة بجميع مشاربها.ص49.
ومع أن لا أحد يجادل في المضمون الكوني للإسلام ورسالته العالمية، فإن عبد الهادي بو طالب إذ يوسع دائرة امتداده واستقطابه وتأثيره لتشمل بعض رموز التراث المسيحي واليهودي مثل ابن العبري المالطي وابن ميمون الأندلسي وابن جبيرول وابن سهل الشاعر ص51 قد يثير بعض الحساسيات والاعتراضات من جرّاء انفتاحه الجريء، غير أن هذا الانفتاح في نظرنا ليس وليد رؤية مستلبة بقدر ما يعبر عن تصور متكامل أصيل يحسب أن العالم الإسلامي إنما "نشأ وامتد عالما تفاعلت فيه الحضارات والثقافات في ظل قيم الإسلام الذي انتشر كدين عالمي، ورسالة تحررية عالمية، فقامت له دولة، وازدهر له فكر، وانتشرت له حضارة..".
بعد ذلك يقوم المؤلف برصد أهم أبعاد العالم الإسلامي: الاستراتيجية الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية وذلك بلغة علمية رصينة تستحضر الأرقام والإحصاءات والجداول التوضيحية والمقارنات.
البعد الجغرافي: تناول فيه المؤلف العمق الاستراتيجي المتميز للعالم الإسلامي الذي قسمه إلى ثلاث مناطق مناخية: المنطقة الإفريقية، ومنطقة الشرق الأدنى، والمنطقة الآسيوية. البعد الاقتصادي: تناول فيه العامل السكاني "الديمجرافي" حيث يبلغ مجمل سكان الدول الإسلامية الأربع والخمسين ما يزيد على مليار نسمة.
يضاف إليها 194 مليون من الأقليات الإسلامية. ومع أن العامل السكاني يشكل لدى بعضهم هاجس تخوف، إلا أن عبد الهادي بوطالب يذهب إلى "أنها من حيث البعد الاستراتيجي قد تصبح من المقومات المهمة لتقدم العالم الإسلامي في حالة توحيده الاقتصادي، معتبراً أن السوق الإسلامية المفترضة تفوق السوق الأوربية المشتركة ومنطقة التبادل الحر بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك أربع مرات".
الثروات الطبيعية: وفي مقدمتها موارد الطاقة: نفط، غاز.. إذ يمتلك العالم الإسلامي 27٪ من الإنتاج العالمي، ويختزن العالم العربي وحده نسبة 62٬4٪ من الاحتياطي النفطي العالمي، وهو ما جعل دول العالم الإسلامي تحتل مركزا مهماً في السوق النفطية الدولية، بما تمثله من أغلبية داخل منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، بل توشك هذه المنظمة أن تكون إسلامية.
كما يمتاز العالم الإسلامي بموارده المعدنية ذات الأهمية الإستراتيجية؛ كالفوسفات الذي يحتل المغرب فيه موقع الصدارة من حيث التصدير، وثاني منتج بعد الولايات المتحدة. كما يوجد الأورانيوم بكميات مهمة في النيجر، والحديد في موريتانيا، والمنجنيز في الجابون...
رغم كل هذه المعطيات فإن الكاتب، انسجاما مع نزوعه النقدي، يعد "السياسات الاستثمارية التي انتُهجت حتى الآن أدت إلى بطلان مردودية الخيرات الإسلامية بالنسبة للعالم الإسلامي" ص61. صحيح أن هناك صعابا وعوائق لا تشجع على الاستثمار في العالم العربي، من قبيل عدم الاستقرار السياسي الذي غالبًا ما يؤدي إلى عدم استقرار الاختيارات الاقتصادية، وعدم وجود قوانين ثابتة لضمان الاستثمار وتشجيعه، أو تشعب الإجراءات الإدارية وتعقدها، فضلا عن عدم توافر البنيات الصالحة لتنشيط الاقتصاد، إلا أننا لا نلمس رغبة حقيقية لدى أصحاب رؤوس الأموال العربية في تدارس هذه المشكلات وإيجاد حل لها.
كما أشار الكاتب إلى المضاعفات الاقتصادية السلبية للحرب العراقية الإيرانية "350 مليار دولار"، وحرب الخليج الثانية بعد اكتساح العراق غير المشروع للكويت مهما كانت المسوغات "450 مليار دولار". وبنبرة متفائلة يبشر الكاتب بغد إسلامي أفضل بفضل المقومات البشرية والطبيعية التي يقوم عليها العالم الإسلامي، وبفضل ما يتمتع به من طاقة للإنتاج والاستهلاك كفيلة بان تجعل منه منطقة مؤهلة للتوسع التنموي، وذات بعد اقتصادي واعد، مع انتقاده الشديد لغياب وعي سياسي بالضرورة المصيرية للوحدة الإسلامية.
البعد السياسي: يشير الكاتب إلى أن العالم الإسلامي بدوله الأربع والخمسين يحتل قرابة 30٪ من مقاعد الأمم المتحدة، كما أنه، على تشتته في إطار تنظيمات جهوية غير إسلامية، أمسى حضوره واضحاً في السياسة الدولية، وبرغم ما يتميز به من قوة بشرية وطاقة هائلة، وخيرات ومواد خام ضرورية في الاقتصاد العالمي، فإنه يعاني من كثرة صراعاته وتناحراته الخارجية والداخلية..
ويكشف عبد الهادي بوطالب مختلف المفارقات التي يعيشها العالم الإسلامي "فهو عالم تجارب أسلحة الأقوياء المتطورة، وعالم التبعية الاقتصادية والفكرية، وعالم التحالفات التي يضطر إليها داخل سباق الصراعات، وبالتالي يخضع لها في تبرير سياسته واقتصاده.
والعالم الإسلامي في أكثريته عالم المديونية للغرب، كما أنه يتحمل ضغوط العهد الجديد الذي لم يعد عهد سيادة الدول على الشعوب، ولكن أصبح عهد سيادة المنظمات النقدية الدولية والبنوك العالمية ومؤسسات القروض، وكلها ـ كما يواصل الكاتب بأسلوب تحليلي متميزـ تفرض قيوداً على الدول الضعيفة المحتاجة، وتوجهها في اتجاه سياسة لا شعبية تخلق لها أزمات اجتماعية" ص69.
وخلافاً لكل التصورات الوحدوية الحالمة نجد عند الكاتب وعيا واقعيا نافذاً، إذ يستبعد وحدة العالم الإسلامي السياسية في شروطه وظروفه الحالية، لكون "الوحدة كلمة كبيرة معقدة صعبة التحقيق، خاصة بين مجموعات بشرية لها كياناتها وخصوصياتها وأنماط عيشها، وإن انتظمت كلها في منظومة الإسلام أو في قيم الإسلام"، ويقترح بدل الإغراق في مثاليات الوحدة الانطلاق من دراسة المعطيات المشتركة بين دول هذا العالم والمساعدة على تحقيق مشروع تضامنه الذي قد يؤدي إلى تحقيق وحدته في الأمد البعيد. وبعد أن يقف بتفصيل عند المقومات الروحية والمعنوية للوحدة الإسلامية يؤكد ضرورة البحث عن الشروط الموضوعية والمادية لخلق وحدة حقيقية، مستحضراً مخلفات الحقبة الاستعمارية الوخيمة على البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الإسلامية التي جعلت منها مجرد سوق استهلاك واسع للعالم المصنّع الذي يستورد منه المواد الخام بأثمان هزيلة ويعيدها إليه مصنعة جاهزة للاستهلاك بأثمان باهظة. ص70.
وقبل أن يختم أهم تجليات البعد السياسي يثير واحدا من أهم المواضيع السياسية والفكرية وأخطرها، يتعلق بمناهج التغيير، إذ نجده يميز بين مدرستين: المدرسة التطورية الانقلابية، والمدرسة الحضارية الإصلاحية، آخذاً في الحسبان "أن من بين المسلمين من يريد أن يحدث تغييراً كمياً "الانقلابيون" وفيهم من يريد أن يحقق تغييراً كيفياً "الحضاريون"، ولكنهم كلهم يسعون إلى التغيير، وهذا قاسمهم المشترك.ص:71، مشدداً على اتباع منهج التغيير الحضاري الذي يحض على التغيير القيمي والإصلاح الفكري والتربوي وفقا لسنة التدرج.
البعد الثقافي: يبدد الكاتب المخاوف التهويلية من الخطر الإسلامي المزعوم، بدليل أن قوة انتشار الإسلام وسرعة امتداده في المكان والزمان لا تعود "لقوة جيوشه، ولا لبطش قادته، وإنما لتقبل شعوب الأرض للرسالة الإسلامية كوسيلة للتحرر من الطغيان السائد على مستوى نظم الحكم، وعلى صعيد البنيات الاجتماعية".
ويشدد الكاتب على "أن طاقة الدفع الإسلامي لازالت قادرة اليوم على الفعل والتغيير لأنها طاقة أزلية، تستمد إشعاعها ودوامها من إشعاع ودوام الرسالة القرآنية: إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون.[الحجر: 9] ص72.
وفي عمق البعد الثقافي يتناول الكاتب مغزى الأمة في النظام الإسلامي مؤمناً أن الأمة الإسلامية ذات بعد عالمي إنساني بحكم أن الإسلام دين الناس كافة، وان رسالته رسالة عالمية خالدة تتجاوز الحدود القومية والأبعاد الحضارية والفروق الطبقية والحواجز المكانية والزمانية الفاصلة، لتلتقي في الوحدة الإسلامية..
ويؤكد عبد الهادي بوطالب أن الله ـ تبارك وتعالىـ في الأمة الإسلامية هو الموحّد والموحَّد، إذ بتوحيده تتوحد الأمة وتصبح: خير أمّة أُخرجت للنّاس.[آل عمران: 110]، ما دامت متشبثة بمقوماتها، ملتزمة أهداف دينها الداعي إلى مكارم الأخلاق.
بعد هذه الرؤية الاحتفائية بالذات الباعثة على الأمل تأتي الرؤية الواقعية النقدية لتكشف واقع المسلمين الذين يعيشون هوة شاسعة بين ماضيهم المجيد وحاضرهم الذي تحكمه ظاهرة التخلف الفكري المتمثل في ارتفاع نسبة الأمية، وفي الغياب شبه الكلي عن ميدان العلم والتقانة "التكنولوجيا"، وفي اجترار برامج تعليمية لم تعد تستجيب لمتطلبات العصر، وفي تبعية مناهجه التربوية للدول المستعمرة سابقا، وفي النسب الزهيدة من المبالغ المخصصة للبحث العلمي مما تسبب في هجرة الأدمغة، والارتهان الشبه الكلي لفضاء الحضارة الغربية.
إذا كان الفصل الثاني يركز على المقومات المادية والطبيعية للعالم الإسلامي، فإن الفصل الثالث يهتم بإبراز أهم الأسس الفكرية والدينية والسياسية للنظام الإسلامي، وكذا أهم المقومات التصورية والفلسفية المؤطرة للمنظومة الإسلامية في أفق التأكيد على "حجم الإسلام ووزنه كمجموعة فاعلة حضاريًا واقتصاديًا وسياسيًا، لها تطلعات على المستوى الدولي، كما أن عليها واجبات تجاه البشرية جمعاء" ص100.
لقد جاء الفصل الثالث مكثّفاً بأهم الإشكالات التي تثار عادة في حقل الفكر الإسلامي المعاصر، والسياسي منه على وجه الخصوص؛ كعلاقة الدين بالدنيا، وعلاقة الدين بالسياسة، وعلاقة السياسة بالأخلاق، وعلاقة السلطة بالمجتمع، وطبيعة السلطة في الإسلام، والموازنة المستفيضة بين الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية، فضلا عن الموازنة بين منهجية التنمية في كل من الإسلام والغرب.
لقد أوضح المؤلف أن الإسلام جاء نظاماً متكاملا ومكملا لما قبله؛ حينما تأهل الفكر البشري ليرقى إلى مستوى الاستنباط الفلسفي والاستنتاج العلمي. كما أثبت أن الفكر الموضوعي لا يمكنه أن يفصل بين الدين والدنيا، وان الدين طاقة روحية من صلب طبيعة البشر لا مفر منها ولا غنى عنها، فالمرجعية الأسمى للنظم السياسية في الإسلام هي القرآن والسنة..
إذ ما من عمل مؤسساتي إسلامي لا يستهدف تدبير أمور المجتمع في إطار الأحكام الإلهية "ص103"، ومن ثم فإن الفكر السياسي القائم على الشريعة الإسلامية حافل بالقيم والمبادئ والممارسات، يعتمد على تنظير وتطبيق يجعلان منه نمطاً خلقياً متميزاً كاملاً في معالجة شؤون الحياة كافة، وهو ما جعل الكاتب يستخلص باطمئنان علمي واثق أن علم السياسة لم يكن علماً دخيلاً على الإسلام، ولا مستقلاً عنه كما كان للديانة المسيحية، فالأخلاق جزء من السياسة، والسياسة بدورها أخلاقية محضة، وفي هذا تجاوز لكل انتهازية أو اصطناع، كما أن المعارضة في الإسلام واضحة المعاني والأهداف، فقصدها الأول هو مساعدة الحاكمين على انتهاج السياسة الأكثر عدلاً وارتباطاً بالنظام الإسلامي من طريق المراقبة التقويمية "ص104".
اما الغرض المقصود من الحكم فهو إقرار الحق في حكمة وتوازن بوساطة حاكم مدرك للقانون نصا وروحاً، ومعتمد على مؤسسات وأجهزة تساعده على تنفيذ الأحكام. ويستحضر الكاتب قولة ابن قيم الجوزية: "حيثما يوجد العدل فثم شرع الله"؛ ليستخلص أن الحكم في الإسلام إنما يؤكد الربط الكامل بين الحكم والعدل مصداقا لقوله تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكُموا بالعدل.[النساء:58].
كما يشير الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى أن ثنائية الراعي والرعية ـ خلافا لثنائية الحاكم والمحكومـ تفيد أن علاقتهما بشرية متمثلة في وعي كل منهما لدوره ومسؤوليته، فالكل راع والكل مسؤول عن رعيته. ويلاحظ المؤلف أن السلطة في الإسلام روحية أكثر منها مادية، فكما أنه لا إكراه في الدين، فلا إكراه ولا قهر في السياسة، فرقابة الضمير الديني المتمثل في رقابة الله التي هي رأس الحكمة، هي سلطة الحكم الإسلامي الضاربة جذورها في أعماق المجتمع، وهي سر انسجام المجتمع الإسلامي وتلاحمه. ص108.
وبعد أن يلخص شروط الحاكم في الكفاءة والنزاهة والثقة والعلم والاجتهاد يحدد البيعة بوصفها نوعاً من التعاقد الحر، مميزاً بين البيعة العامة المنصبة على اختيار الخليفة، والبيعة الخاصة المتعلقة باختيار نخبة من أهل الحل والعقد أو الهيئة البرلمانية بلغة العصر. وبرغم إقرار المؤلف باختصاص الله تعالى بالتشريع، إلا أنه أقر للمجتهدين باختصاص فرعي في التشريع كلما انعدم النص.
ويعد النظام السياسي الإسلامي الأمثل هو ذلك النظام الذي يقوم على الشرعية التي تفيد "مطابقة السلوك السياسي للنص الديني" والمشروعية التي تعني "الرضا والموافقة من طرف الأمة" معاً، وأن الشرعية بمفردها لا تغني عن المشروعية شيئا، وأن الشورى مقوّم أساسي من مقومات الحكم في الإسلام، كما أنها ملزمة وواجبة شرعاً، وهي اجتهاد لا يُلغي ولا يحل محل التشريع القرآني، وإنما يصار إليها للتشريع في المجالات التي لا يوجد فيها نص شرعي، أو يوجد لكنه غامض محتمل؛ كما يكون في القضايا المستجدة والنوازل العارضة في غير العبادات، أي في الأمور الدنيوية بحيث تصبح الشورى وسيلة للإجماع؛ ولا يغدو الاجتهاد مقصورا على الفقهاء، وإنما يتعداهم إلى الخبراء "ص:112، وهو ما يجعلنا نشدد من جهتنا على أن الشورى ليست سلوكاً أخلاقياً ضيقاً، وإنما هي آلية من آليات الارتقاء النوعي للمجتمع الإسلامي في الإطار السياسي، ووسيلة من وسائل تحصين القرار من الوقوع في محاذير الأوهام والأهواء الشخصية للحاكم.
فالشورى ليست شكلا من أشكال أنظمة الحكم لنقول إن نظام الحكم في الإسلام ثابت ومنصوص عليه، وإنما يختلف النظام باختلاف المجتمعات والظروف.. غير أن الشورى آلية من آليات إنتاج القرار التي تتوخى الوصول إلى الواقع، فهي في الحقيقة عملية استبانة واستظهار للرأي ممن يمتلكون رأيا، وهو ما يجعلنا نتحفظ على رأي المؤلف بخصوص التحديد الحصري للشورى بكونها: "مؤسسة آلية لتطبيق نظام الخلافة" ص114.
فالغاية العملية السالفة الذكر للشورى لابد أن تؤدّى بروحية أخلاقية سامية تجسد مفاهيم الأخوة والتراحم، وهما عنصران ضروريان، بانعدامهما تفقد الشورى خصوصيتها الإسلامية وتتحول إلى مجرد آلية خالية من الروح؛ فالديمقراطية لا تتقاطع مع الشورى إلا في واحدة من مراميها وهي مشاركة الأمة في القرار لكن غايات المشاركة ليست واحدة. كما نسجل على الأستاذ الجليل انعدام مساءلته للتجربة السياسية الإسلامية كما طبقت في التاريخ لا كما هو منصوص عليها، وعدم كشفه عن مظاهر الانحراف عن روح مبدأ الشورى آلية لكشف الواقع بوصفه نمطا تربويا إنسانيا قوامه التراحم والتآخي والتوالي، مع إيماننا أن الانحراف في التطبيق التاريخي للشورى لا يضر في أصل المفهوم، ما دام مصدر التشريع إلهياً والانحراف بشرياً.
وبدل الفصل القاطع بين السلطات وما ينتج عنه من أزمات سياسية، يدعو المؤلف إلى الأخذ بمنهج الإسلام في التكامل والتعاون بينها من دون الوقوع في الحكم الفردي المستبد. ويؤكد الباحث أن السيادة في الإسلام لله وحده، وأنه جل وعلا السلطة التأسيسة الخالدة التي تستَمد منها كل السلطات البشرية التنفيذية وجودها.
وأن نظام الشورى يشكل أساساً لحفظ التوازن ورقابة السلطة القضائية والتنفيذية مع التركيز على الوضعية الخاصة للسلطة القضائية في الإسلام، فقد قاضى الشعبُ أمام القضاء خلفاءه وملوكه، فخضع هؤلاء وامتثلوا للحكم القضائي الشرعي وأذعنوا لتنفيذ أحكامه.ص120..
فضلا عن كل هذه المقومات أبرز المؤلف إقرار الإسلام لمبدأ المساواة بين البشر، وإعلانه للسلام العالمي، وسعيه للتعايش السلمي، كما أوضح أن السلام في الإسلام هو القاعدة، وأن الحرب هي الاستثناء.
وفي الفصل الأخير الذي تميز بنزوع نقدي واضح لكلا العالمين الإسلامي والغربي، دعا المؤلف إلى التعاون والمشاركة في إرساء أسس نظام عالمي جديد يحكمه التعاون لا المواجهة، ويحل محل النظام القديم الذي أوشك أن يستنفد كل شروط وجوده ومسوغات استمراره من جراء ما أصابه من تصدع واعتراه من خلل، مع تشديده على إدخال الإسلام في الحساب ضمن المرتكزات التي سوف يحدد بمقتضاها النظام العالمي الجديد وذلك لما للمسلمين من حجم وثقل، وما تحتضنه تعاليم الإسلام من قيَم ومُثُل يمكن الأخذ والاقتباس منها في صياغة نظام عالمي جديد. فسواء من حيث الضخامة السكانية، والاتساع الجغرافي، والمؤهلات الطبيعية، أو من حيث المقومات الذاتية القمينة بتوفير التماسك والانسجام للمجتمع البشري فإن الإسلام يبرز حاليًا بهذه المعطيات طرفًا أصيلاً في معركة التحول الحضاري.

المصدر: الرابطة المحمدية للعلماء
المشاهدات 3048 | التعليقات 0