الظلم ظلمات 1445/7/7ه

يوسف العوض
1445/07/06 - 2024/01/18 13:28PM

الخطبة الاولى

عِبَادَ اللَّهِ: حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ وَجُرْمٍ خَطِيرٍ حَدِيثُنَا عَنْ خُلُقٍ سَيْءٍ وَوَصْفٍ لَئِيمٍ وَذَنْبٍ جَسِيمٍ, يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، وَيَجْلِبُ الْوَيْلَاتِ، وَيُورِثُ الْعَدَاوَاتِ وَالْمُشَاحَنَاتِ، وَيُسَبِّبُ الْقَطِيعَةَ وَالْعُقُوقَ، وَيُحِيلُ حَيَاةَ النَّاسِ إِلَى جَحِيمٍ وَشَقَاءٍ, وَكَدَرٍ وَبَلاءٍ، إِنَّهُ – يَا عِبَادَ اللَّهِ- الظُّلْمُ.. نَعَمْ الظُّلْمُ… وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحُدودِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَّلَ-، الظُّلْمُ هُوَ التَّعَدِّي وَالتَّطَاوُلُ عَلَى شَرَائِعِ اللهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى حُقُوقِ الآخَرِينَ.
وَالظُّلْمُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ, وَالْكَبَائِرِ الْجِسَامِ، يُحِيطُ بِصَاحِبِهِ وَيُدَمِّرُهُ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهِ أَحْوَالَهُ، فَتَزُولُ بِهِ النِّعَمُ، وَتَنْزِلُ بِهِ النِّقَمُ، وَيُدْرِكُهُ شُؤْمُهُ وعُقُوبَاتُهُ فِي الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَلأَجْلِ كَثْرَةِ مَضَارِّ الظُّلْمِ وَعَظِيمِ خَطَرِهِ, وَتَنَوُّعِ مَفَاسِدِهِ وَكَثِيرِ شَرِّهِ؛ حَرَّمَهُ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ, كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْحَديثِ الْقُدْسِيِّ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
.وَالظَّالِمُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَا يَهْدِيهِ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ -إلّا إِذَا شَاءَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَلْ إِنَّهُ مَحْرُومٌ مِنَ الْفَلاَحِ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَأَمَّلْ مَعِي فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظّالِمِينَ).. 
أيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ… لَا يَظُنَّنَّ أحَدٌ أَنَّ ظُلْمَهُ لِلْعِبَادِ بِضَرْبٍ، أَوْ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ، أَوْ تَزْوِيرٍ، أَوْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَوْ هَتْكِ عِرْضٍ, أَوْ سَفْكِ دَمٍ، أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ نَمِيمَةٍ، أَوْ اسْتِهْزاءٍ أَوْ سُخْرِيَةٍ، أَوْ جَرْحِ كَرَامَةٍ؛ أَوْ مُمَاطَلَةٍ فِي الدُّيُونِ أَوْ مِنْ اعْتَدِّي عَلَيْك بِأَخْذ وَلَوْ شِبْرًا مِنْ أَرْضِكَ أَوْ سَرَقَ شَيْءٌ بَسِيطًا مِن اموالك .لَا يَظُنَّنَّ أحَدٌ- أَنَّ شيئاً مِنْ ذَلِكَ الظُّلْمِ سَيَضِيعُ وَيَذْهَبُ دُونَ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ.
كَلَّا، كلَّا وَاللهِ… بَلْ لابُدَّ لِلظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي مَحْكَمَةِ الْعَدْلِ الْإلَهِيَّةِ, لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ. ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا وَاسِطَةَ وَلَا جَاهَ وَلَا رَشْوَةَ وَلَا شَهَادَةَ زُورٍ. (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الظُّلْمَ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِكُلِّ إِنْسانٍ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَلِهَذَا كَانَ الْعَدْلُ أَمْرًا وَاجِبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ, وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ, وَالظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ, وَلِكُلِّ أَحَدٍ. فَلَا يَحِلُّ ظُلْمُ أَحَدٍ أَصْلًا. سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا, أَوْ كَانَ ظَالِمًا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) " انتهى كلامه رحمه الله.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللَّهِ:إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فِي الدَّارَيْنِ، وَهَذَا هُوَ عَزَاءُ الْمَظْلُومِينَ، فَمِنْ آثَارِ الظُّلْمِ, أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَهْنَأُ بِحَيَاةٍ,فَهُوَ دَائِمُ الشُّعُورِ بِالْخَوْفِ وَالْقَلَقِ, وَالْخَوفِ مِنِ انْتِقَامِ الْمَظْلُومِينَ، وَمِنْ دَعَوَاتِهِمُ الَّتِي لَا تُرَدُّ.
وَمِنْهَا:-- الْمَصَائِبُ وَالْبَلايَا الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ دُعَاءِ الْمَظْلُومِينَ وَابْتِهَالِهِمْ إِلَى اللهِ،فَكَمْ نَغَّصَتْ عَلَى الظَّالِمِينَ حَيَاتَهُمْ!'! وَكَمْ جَرَّتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْجَاعَ وَالْأسْقَامَ، /وَذَهَابَ الْأَوْلاَدِ وَالْأَمْوَالِ،وَالْقَتْلَ وَالتَّعْذِيبَ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
أَمَّا فِي الْآخِرَةِ--: فَأَوَّلُ مَا يَنْزِلُ بِالظَّالِمِ اللَّعْنَةُ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى،يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) .
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الظَّالِمَ لَنْ يَكُونَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصِيرٌ وَلَا شَفِيعٌ وَلَا حَمِيمٌ. فَيُحْرَمُ الظَّلَمَةُ مِنْ شَفَاعَةِ إمَامِ الْمُرْسَلِينَ, وَشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنِ اللهُ له فِي الشَّفَاعَةِ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) ، وَمِمَّا يُصِيبُ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أيضًا الْحَسْرَةُ وَالنَّدَمُ،فَكُلُّ ظالِمٍ سَيَنْدَمُ هُنَاك تَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فِي ذَلِكَ الظَّالِمِ, عِنْدَمَا يُحِيطُ بِهِ خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, كُلٌّ يُرِيدُ أَخْذَ حَقِّهِ مِنْهُ فَهَذَا يُمْسِكُ يَدَهُ, وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ, وهَذَا يَقُولُ: ظَلَمَنِي فَغَشَّنِي،وَذَاكَ يَقُولُ: ظَلَمَنِي فَخَدَعَنِي،وَثَالِثٌ يَقُولُ:ظَلَمَنِي فَأَكَلَ مَالِي,وَرَابِعٌ يَقُولُ: ظَلَمَنِي فَاغْتَابَنِي وخامس يقول اخذ ارضي…
وآخَرٌ يَقُولُ: كَذَبَ عَلَيَّ، وَهَذِهِ زَوْجَةٌ تَقُولُ:ظَلَمَنِي فِي وَلَمْ يُحْسِنْ عِشْرَتِي،ولم ينفق عليّأَوْ تَقُولُ: لَمْ يَعْدِلْ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْأُخْرَى. وَهَذَا الزَّوْجُ يَقُولُ: عَصَتْنِي زَوْجَتِي وَنَشَزَتْ عَلَيَّ ! وهذا يقول سرقني واخذ ارضي! وَهَكَذَا.فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ وَقَدْ أَنْشَب الخصماء فِيه مخالبهم وَاحْكُمُوا فِي تلابيبه أَيْدِيهِم ،وَهُو مَبْهُوت مُتَحَيِّرٌ مِنْ كَثْرَتِهِمْ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ عَامَلَهُ عَلَى دِرْهَمٍ أَوْ جَالَسْته فِي مَجْلِسِإلّا وَقَدْ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مظْلمَة وهنا! إذ قَرَعَ سَمْعَهُ نِدَاء الْجَبَّارَ جَلَّ جَلَالُهُ  (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَلِع قَلْبِهِ مِنْ الْهَيْبَةِ وتوقن نَفْسِه بالبوار ،وَيَتَذَكَّر عِنْدَئِذ مَا أَنْذَرَه اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ حَيْثُ قَالَ : (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُمُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)
يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ وَمَا أَشَدَّهَا مِنْ حَسْرَةٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ،إِذَا جَاءَ الرَّبُّ جَلَّ وَعَلَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ،وَرَأَى الظَّالِمُ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَقِيرٌ عَاجِزٌ مَهِينٌ، لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ حَقًّا أَوْ يُظْهِرَ عُذْرًا.
وَبَعْدَ هَذَا الْمِشْوَارِ، وَبَعْدَ كُلِّ هَذَا سَيَمْكُثُ الظَّلَمَةُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،ما شاء الله, وَتَكُونُ هِي نِهَايَتُهُمْ فَبِئْسَتِ النِّهَايَةُ،وَسَاءَتِ الْخَاتِمَةُ.

المشاهدات 1004 | التعليقات 0