الطيب -جل جلاله- د عبدالله بن مشبب القحطاني
الفريق العلمي
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70- 71].
عِبَادَ اللَّهِ: جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[الْمُؤْمِنُونَ: 51]، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!".
فَرَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- مُطَهَّرٌ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ آفَةٍ وَشَرٍّ وَسُوءٍ؛ لِكَمَالِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَجَلَالِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ.
وَرَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ خَالٍ مِنْ كَمَالٍ، أَوْ خَالٍ مِنْ طَيِّبِ الثَّنَاءِ؛ فِي أَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَرَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الطَّيِّبُ فِي ذَاتِهِ؛ فَهِيَ أَكْمَلُ الذَّوَاتِ، الْمُتَّصِفَةِ بِأَعْلَى الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا.
وَالطَّيِّبُ فِي أَسْمَائِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِإِنْبَائِهَا عَنْ أَحْسَنِ الْمَعَانِي، وَأَشْرَفِ الدَّلَالَاتِ.
وَالطَّيِّبُ فِي أَفْعَالِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهَا فِي غَايَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الْأَكْمَلَ وَالْأَحْسَنَ وَالْأَطْيَبَ.
وَالطَّيِّبُ فِي أَقْوَالِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَمِنْهُ الصِّدْقُ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلُ فِي الْأَوَامِرِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الطَّيِّبُ فِي أَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ؛ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِّ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).
وَطَيِّبٌ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ، وَطَيِّبٌ فِي أَحْكَامِهِ الْجَزَائِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ وَفَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- طَيَّبَ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَجَعَلَهَا ذَاتَ رِيحٍ طَيِّبَةٍ؛ (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُ)[مُحَمَّدٍ: 6].
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَهُوَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ إِلَّا مَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالطِّيبِ؛ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فَاطِرٍ: 10]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ)[الْبَقَرَةِ: 267].
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ؛ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ؛ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ".
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الطَّيِّبِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عِبَادَ اللَّهِ: الْمُؤْمِنُ كُلُّهُ طَيِّبٌ: قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَسَدُهُ؛ بِمَا يَسْكُنُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَيَظْهَرُ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَعَلَى جَوَارِحِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ؛ وَلِذَلِكَ اشْتَقَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِلطَّيِّبِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَوَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[بِالنُّورِ: 26].
وَهَدَى أَوْلِيَاءَهُ الطَّيِّبِينَ؛ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)[الْحَجِّ: 24].
فَالْمُؤْمِنُ طَيِّبٌ، حَسَنُ الْخُلُقِ، لَا يَتَأَثَّرُ بِسَفَهِ السُّفَهَاءِ، لَا يَتْرُكُ كَرَمَهُ لِبُخْلِ الْبُخَلَاءِ، يُقَابِلُ غَدْرَ الْأَصْحَابِ بِالْوَفَاءِ، يَلْبَسُ الْحَيَاءَ إِذَا لَقِيَ الْفُجُورَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ بِالْعَطَاءِ إِذَا قَبَضَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، حَلِيمٌ لَا يَسْتَخِفُّهُ طَيْشُ الْجَاهِلِينَ، أَمِينٌ إِذَا كَثُرَ الْخَائِنُونَ، وَإِذَا قَلَّ النَّاصِحُونَ كَانَ نَاصِحًا، وَإِذَا كَثُرَ الْكَاذِبُونَ كَانَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، الْأَصْلُ فِيهِ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالطَّيِّبُ حَالُهُ كَالنَّخْلِ.
كُنْ كَالنَّخِيلِ عَنِ الْأَحْقَادِ مُرْتَفِعًا *** يُرْمَى بِصَخْرٍ فَيُلْقِي أَطْيَبَ الثَّمَرِ
يَقُولُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ؛ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً! فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ! ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ؛ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
وَلِهَذَا لَمَّا طَابَ الْمُؤْمِنُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِدُخُولِ دَارِ الطَّيِّبِينَ؛ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ)[النَّحْلِ: 32]، (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)[التَّوْبَةِ: 72].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الطَّيِّبِينَ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[الْأَعْرَافِ: 49].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.