الطاعات بعد شهر الخيرات
عايد القزلان التميمي
1443/10/04 - 2022/05/05 17:15PM
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وأنعم عليه بالإيمان والإحسان في كل زمان ومكان ومنّ علينا بإدراك شهر رمضان وإتمامه , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة تتعاقب بتعاقب الضياء والظلام، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، (( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )).
أيها المؤمنون : لقد حذَّرنا الله تعالى في كتابه الكريم من أن نكون مثل رجل من بني إسرائيل، ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها. قال تعالى: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) .
وحذَّرنا ربنا سبحانه أن نكون مثل امرأة مجنونة كانت بمكة، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكما ثم تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )) .
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله، ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من المسلمين ـ هداهم الله ـ يكونون في رمضان من الذين هم على صلاتهم يحافظون، فإذا انقضى رمضان أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين يجتنبون في رمضان شرب الدخان ومشاهدة المحرمات وارتكاب المعاصي، فإذا انقضى رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه من الباطل، وهؤلاء يُخشى عليهم أن يُختم لهم بالسيئات أعاذنا الله وإياكم.
عبادَ الله: إنَّ الذِين يفعلونَ الخيرَ في رمضانَ ثُمَّ إذا انقضَى عَادوا إلى سِيرتِهِمُ الأُولى مِن الفُسوقِ والعصْيانِ إنَّما هُم كَمَنْ يُجْهِدُ نفسَه بالغَزلِ طُولَ النهارِ ثُم في آخِرِه يَنْقُضُهُ.
جَاءَ سُفيانُ بنُ عبدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ" رواه مسلمٌ.
أي استقمْ على شَرعِ اللهِ جميع أيام حياتك حتَّى تلقَى ربَّك وهو عنكَ رَاضٍ .
عباد الله إن الطاعة ليس لها زمن محدود، ولا للعبادة أجل معدود، فعبادة رب العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
عباد الله إن الطاعة ليس لها زمن محدود، ولا للعبادة أجل معدود، فعبادة رب العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
عباد الله وإن للقبول والربح علامات، وللخسارة والرد أمارات، وإن من علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها ووقاية من خطرها، قال جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ}.
عباد الله إن انقضى موسم رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعا في غيره من الشهور، فقد سن المصطفى صلى الله عليه وسلم صيام يوم الاثنين والخميس، وقال: «تُعرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ فأحبُّ أن يُعرَضَ عملي وأنا صائمٌ» (صحيح الترمذي)،
وأوصى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» (متفق عليه)،
وأتبعوا صيام رمضان بصيام ست من شوال، يقول عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر» (رواه مسلم).
ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟».
واعلم أيها المسلم أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، ومن زاد فمن الخير ازداد (( وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَـٰافِسُونَ ))
ومن تعطر فاه بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب ربه فليكن له ورد يومي من القرآن الكريم .
فلنعلم أيها المؤمنون : أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أداء الفرائض والواجبات، ففي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا : ((وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه )) أخرجه البخاري. ،
فلنتق الله أيها المؤمنون ولنعمر أيامنا وشهورنا وأعمارنا كلها بما يقربنا من ربنا ويزيد في رصيدنا عند مولانا. وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر الصحائف (( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَءوفُ بِٱلْعِبَادِ ))
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل جنته الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعدُ فيا أيها المؤمنون :
إن مِن أَكْثَرِ ما يَحِثُّ المؤمنَ لمواصَلةِ الطَّاعةِ مَع ربِّ العالمينَ: تَذَكُّرُ مَا يَنتظِرُه في الجنَّةِ إِن أَحْسَنَ العملَ مع ربِّه وتَقَبَّلَهُ بقَبُولٍ حَسَنٍ. في الجنَّةِ مَا لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلبِ بَشرٍ،
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا - أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ. فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً رواه البخاري (6571)، ومسلم (186).
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ: ذُقتُمْ حَلاوةَ الإيمانِ وعَرفتُمْ طَعْمَهُ، صُمتُمْ وقُمتُمْ وصَلَّيتُمْ، ورتَّلْتُمُ القرآنَ تَرتيلاً , فَالْزَمُوا هذا الطريقَ المُنيرَ، واستَمِرُّوا على هذا الصراطِ المستقيمِ، حتى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ.
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله ......
المرفقات
1651770938_الطاعات بعد شهر الخيرات.docx