الطَائف بَلاء وسَناء ,, ( الجمعة 1441/12/24هـ )
يوسف العوض
1441/12/23 - 2020/08/13 15:12PM
الخطبة الأولى
أيُّها المُسلمونَ : تكالبت الأَحْزَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَت عَلَيْه هُمُومُه وتضاعفت بِوَفَاةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَعَمَّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ، فـخديجةُ كَانَت خَيْرَ نَاصِرٍ وَمُعَيَّنٍ لَه -بعد اللَّه تعالى- وَعَمَّهُ كَان يحوطه وَيَحْمِيَه ، وَيُحِبُّه أَشَدَّ الْحُبِّ ، وَضَاعِف مِنْ حُزْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنَّهُ أَبِوطَالِبٍ- مَاتَ كافراً .
وتَستغلُ قُرَيْشٌ غِيَابَ أَبِي طَالِبٍ فَتَزِيدُ مِن إيذائِها لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتُضيَّقُ عَلَيْه ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِلدَّعْوَة وَصَاحِبِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُلاحقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْسِمِ الْحَجّ ، وَفِي الْأَسْوَاق يَرْمِيه بِالْحِجَارَةِ وَيَقُول : " أَنَّه صَابِئٌ كَذَّابٌ " ، وَيُحَذّرَ النّاسَ مَنْ اتْبَاعِهِ ، فَضَاقَت مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْحَالُ ، حَتَّى فَكَّرَ فِي أَنْ يَتَّخِذَ أُسْلوبا آخَرَ فِي دَعْوَتِهِ بِتَغْيِير الْمَكَان ، علَّه أَنْ يَجِدَ قبولاً ، فَاخْتَار الْخُرُوجَ لِلطَّائِف ، الَّتِي كَانَتْ تَمَثَّلُ مَركزاً مُهماً لِسَادَاتِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِهَا وَمَكَانًا استراتيجيا لَهُم ، حَيْثُ كَانُوا يَمْلِكُون فِيهَا الْأَرَاضِي وَالدُّور ، وَكَانَت رَاحَةً لَهُمْ فِي الصَّيْفِ . .
أيُّها المُسلمون : عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا راجياً ومؤمِّلاً أَنْ تَكُونَ أَحْسَنَ حالاً مِنْ مَكَّةَ ، وَأَنْ يَجِدَ مَنْ أَهْلِهَا نُصرَةً ، فَخَرَجَ عَلَى أقْدَامِه حَتَّى لَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ أَنّهُ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ ، وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ زَيْدٌ بنُ حارثةَ وَهُوَ ابْنُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبَنِّي ، وَكَان بِمَثَابَةِ الْحَامِي وَالْحَارِسِ لِرَسُولِ اللَّهِ ، وَبَعْدَ أَنْ أمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ السُّبُلِ ، وَأَخَذ الحيطَةَ والحَذَرَ ، أَقْبَلَ عَلَى الطَّائِفِ وَكُّلُه أَمَلٌ أَنْ تَكُونَ أَرْضَ خَيْرٌٍ وَإِسْلَامٍ ، لَكِنْ كَانَتْ الْمُفَاجَأَة !
فبَدَأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَاداتِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْتَهِي إلَيْهِمْ الْأَمْرُ ، فَكَلَّمَهُم عَنْ الْإِسْلَامِ وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ رداً قاسياً ، وَقَالُوا لَهُ : أَخْرَجَ مِنْ بِلَادِنَا ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِهَذَا الْأَمْرِ ، بَل أَغْرَوْا بِه سُفَهَاؤهُم وعبيدُهم فتبعوه يَسُبُّونَه ويصيحون بِه ويرمونه بِالْحِجَارَةِ ، فَأُصِيب عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ فِي قَدَمَيْهِ حَتَّى سَالَتْ مِنْهَا الدِّمَاءُ وَأَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحُزنِ وَالتَّعَبِ مَا جَعَلَهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ الشَّرِيفِ ، وَلَمْ يُفِقْ إلَّا وجِبْرِيل قَائِمٌ عِنْدَه يُخْبِرُه بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مَلَكَ الْجِبَالِ بِرِسَالَةٍ يَقُولُ فِيهَا : إنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ أُطْبَقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ ، فَأَتَى الْجَوَابُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَفْوِ عَنْهُم قائلاً : (أَرْجُو أَنْ يُخْرُجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
أيُّها المسلمون: وَاسْتَمَرَّ أَهْلُ الطَّائِفِ فِي إيذَائِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اضطروه إلَى بُسْتَانٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الطَّائِفِ ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يَلْتَمِسُ الرَّاحَةَ وَالْأَمْنَ ، ثُمَّ دَعَا اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلًا : اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وهواني عَلَى النَّاسِ ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِين ، وَأَنْت رَبِّى ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ، إلَى بُعَيْدٍ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَوْ إلَى عَدُوٍّ مَلَكتَه أمْرِي ، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكِ غَضِبٌ عَلِيٍّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك هِي أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَت لَه الظُّلُمَاتُ ، وَصَلُح عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَحِلَّ عَلِيّ غَضَبُك ، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك ، لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ .
أيُّها المسلمون : بَعْدَهَا تَحَرَّكَت الْعَاطِفَةُ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ ، فَصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الأوْبَاشَ وَالسُّفَهَاءَ ، ثُمَّ جَاءُوا بِغُلَامٍ لَهُم نَصْرَانِيٍّ يُدعى عَدَّاساً لَيَعْمَل عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيّ ، فَحَمَل مَعَه قِطفاً مِنْ الْعِنَبِ ، فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ وَقَالَ : (بسمِ الله) ثُمَّ أَكَلَ ، فَقَالَ عَدَّاسٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (من أَيُّ الْبِلَادِ أَنْتَ ؟ ) قَالَ أَنَا نَصْرَانِيٌّ مِن نِينَوَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؟ ) قَال عَدّاسٌ : وَمَا يُدْرِيكَ مايُونسُ ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( ذَلِك أَخِي كَان نبياً وَأَنَا نَبِيّ ) ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَمَيِه يَقْبَلُهُمَا ، فَقَال ابْنَا رَبِيعَةَ ، أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : أَمَّا غُلَامُك فَقَد أَفْسَدَه عَلَيْك ! فَلَمَّا جَاءَ عَدّاسٌ قَالَا لَهُ وَيْحَك مَا هَذَا ؟ قَالَ لَهُمَا مَا فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فحاولا تَوْهِينَ أَمَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، كَأَنَّمَا عَزَّ عَلَيْهِمَا أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ بِأَيِّ كَسب .
أيُّها المُسلمون : ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ ليستأنفَ خُطَّتَه الْأُولَى فِي عَرْضِ الْإِسْلَامِ وَإِبْلاغِ الرِّسَالَةِ لِلْوُفُودِ وَالْقَبَائِلِ وَالْإِفْرَادِ ، وَزَادَت قُرَيْشٌ مِنْ أَذَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَلَعَت جِلْبَابَ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ ، فَرَاح بَعْضُ رجالاتِها يلاحقونه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاسِم يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ ويُحذِّرون الْعَرَبَ مِنْ اتْبَاعِهِ .
الخطبة الثانية
أيُّها المُسلمون : إنّ رِحْلةَ النَّبِيّ إلَى الطَّائِفِ عَلَى مَا حَصَلَ فِيهَا مَلِيئَةٌ بالعظاتِ وَالْعِبَرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ :
- إنَّ فِي تَوَجُّهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطَّائِفِ بَعْدَ أَنْ أَعْرضَ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْه ، دليلٌ عَلَى حِرْصِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ وَاسْتِمْرَارِه فِي دَعْوَتِهِ لِلْإِسْلَام ، وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنْ اِسْتِجَابَةِ النَّاس .
- وَهَذِه الرِّحْلَةُ تُعَلِّمُنَا كَيْفِيَّةَ التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ مِنْ خُلُقِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ الَّذِي وَاجَه بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَادَاتِ ثَقِيفٍ وسُفَهائِها .
- وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمُبَارَكَةِ ، وَأَنَّهُ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ والصعابِ يَكُونُ الِالْتِجَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الدُّعَاءِ ، فَفِيه اِسْتِمْدادُ القُوَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، وَفِيه الِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ عِنْدَ شِدَّةِ الْأَذَى ، وَفِيه الْخَوْفُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ عَلَى الْعَبْدِ .
- وَفِي قِصَّةِ عَدّاسٍ حَيْثُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، نَتِيجَةٌ إيجَابِيَّةٌ لِهَذِه الرِّحْلَةِ ، حَيْثُ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ وَقَد هَدَى اللَّهُ عَدَّاساً عَلَى يَدَيْهِ .
- وَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ لِلطَّائِفِ وَمَا لَاقَاهُ مِنْ أَذًى السُّفَهَاء لعظةٌ وَعِبْرَةٌ للدعاةِ الَّذِين يتأسَّون بِسِيرَتِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ مَا لَقِيَ مِنْ الْمَشَاقِّ فِي سَبِيلِ إقَامَةِ هَذَا الدِّينَ ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَلْقَى الدُّعَاةُ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ أَشَدَّ .
وختاماً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَسْلِم لِهَذَا الْوَاقِع الْأَلِيمِ ، بَل صَبَر وصابرَ ، وَوَاصَلَ جِهَادَه فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ ، فَكَان عَاقِبَةُ صَبِرَة نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ ، وَفَتْحٌ عَظِيمٌ تَتَفَيَّأُ الْأُمَّةُ ظِلَالَه ، وَتَنَعم بِنُورِه إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِلَى يَوْمِ الدِّينِ . .