الضمــيرُ وكيف نربيه ( 2 )
أحمد عبدالله صالح
خطبة جمعة بعنوان
[ الضمير وكيف نربيه! 2 ]
أمّا بعد احبتي الكــرام :
اعلموا جيداً انّ الأمة اليوم لا تعيش أزمة اقتصاد ولا أزمة جهل ولا أزمة تدين ولا أزمة بطالة ولا أزمة تقاتل ولا أزمة تفكك؛ أكثر مما تعيش أزمة ضمير .
لقد عانَت المُجتمعات المُسلِمة في هذا العصر من غيابِ الضمير الحيِّ الواعِي، ذلكم الضميرُ الذي عوَّدَهم في غابرِ الأزمان أنّه إذا عطسَ أحدٌ منهم في المشرقِ شمَّتَه من بالمغرب، وإذا استغاثَ من بالشمالِ لامسَت استِغاثتُه أسماعَ من بالجَنوب.
إنّه لن يستيقظَ ضميرُ الأمة إلا بيقَظَة ضمائر أفرادِها؛ إذ كيف يستقيمُ الظلُّ والعُودُ أعوجُ ؟!
يحكى أنّه كتب في طرقات بعض البلدان :
(أنت لست وحدك.. كلنا نراك)، وهي رسالةٌ واضحة لإيقاظ هذا الضمير، فإذا عرفتَ أننا نراك فلا تخالف في الشارع، ولا تُلقِ بالقمامة على الأرصفة، ولا تقطع إشارة المرور ..
إذا عرفت أننا نراك فلا تُسِيئ في أفعالك ..
إذا عرفت أننا نراك فلا تُتلف ممتلكات الدولة
أو ممتلكات الآخرين..
إذا عرفت أننا نراك فأدِّ عملَك على أفضلِ صورة…
ونحن بصفتنا مسلمين هل نحن نحتاج إلى مثل هذه المقولة : (أنت لست وحدك.. كلنا نراك)؟
بل نعلم أنّ لنا رقيبا يراقبنا هو الله جل جلاله
ولكننا ننسى ذلك ونتناساه ونتجاهله، قال سبحانه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)..
يتحدث الناس عن الضمير .. فماهو الضمير ؟!
الضميرُ هو ذلكم الشعورُ الإنسانيُّ الباطنيُّ الذي يجعلُ المرءَ رقيبًا على سُلوكه، ولديه الاستِعدادُ النفسي ليميزَ الخبيثَ من الطيب في الأقوال
والأعمال والأفكار، واستِحسان الحسن، واستِقباح القبيح ..
وهذا ما أشار إليه النبي بقوله فيما روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان, ثم قال ما الإحسان؟
قال الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك .
نعم / في داخل كل منّا محكمة عادلة تبقى أحكامها يقظة في نفوسنا، هي الضمير لكن للاسف الكثير قد بلع لسانه وغطى ضميره وقديما قالوا :
الضمير المذنب يجعل الناس جبناء .!
لكن للاسف الشديد بعض الناس ماتت ضمائرهم،
والبعض نامت ضمائرهم، وآخرون تعفَّنت ضمائرهم، وهناك مَن باع ضميره ..!
ونحن نرى أصنافًا من هؤلاء اليوم، نرى المسؤول الذي باع ضميره، والإعلامي الذي باع ضميره،
والعالِم والموظف والمعلِّم الذي باع ضميره واشترى به ثمنًا بخسًا، حتى وصلت الأمة إلى هذه الحال المزرية.
لأجل ذلك نقول سيأتي يومٌ ويعرض ذلك الضمير للبيعِ في سوق الحياة وعندما يباع الضمير ستجد ذلك الصاحب والصديق الذي أتمنته على مالك قد خان الأمانة وتنكر لك ..
عندما يباع الضمير أو يغيب من النفوس تهمل الواجبات، وتضيع الحقوق والأمانات، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وتظهر الخيانات، وتحاك المؤامرات، وتقدم المصالح الشخصية الضيقة على مصالح المجتمع والأمة ..
ومن ثمّ تكون النتيجة أن يصبح الجلاد برئ
والضحية متهم ..
يتحول الإنسان لوحش كاسر ينتظر فريسة للانقضاضِ عليها ..
ويُصبِح كل شئ مباح : كلام الزور ، الخيانة، السرقة, المال الحرام القتل والسكوت عن الظلم والظالمين .. تزييف الحقائق وغيرها من موبقات الحياة ..
حين يموت الضمير : تغفو العقول وتثور الأحقاد تتعطل إنسانية الإنسان وتفقد حواسه قيمتها ويغدو صاحب عقل لا يفقه، وصاحب عين لا تبصر، وصاحب إذن لا تسمع، وصاحب قلب لا يدرك ..
عندما يموتُ الضميرُ : تزأرُ الأثَرَةُ وحبُّ الذات، ويُصبِحُ منطقُ الأفراد والمُجتمعات: عليك نفسَك، لن تُقدِّم أو تُؤخِّر، ماذا عساكَ أن تصنَع؟
لستَ كفيلاً على بني آدم، ولا وكيلاً، ولا حفيظًا.
عندما يموتُ الضميرُ : يُقال: دَع ما لله لله، وما لقيصرَ لقيصرَ ..
عندما يموتُ الضميرُ : نتخلى عن المسؤولية تجاه الظلمة ثم ندعوا فنقول: عليك بهم فإنهم لا يعجزونك..
عندما يموتُ الضميرُ : يُؤمَّنُ الخائنُ، ويُخوَّنُ الأمين، ويُصدَّقُ الكاذِبُ، ويُكذَّبُ الصادق.
عندما يموتُ الضميرُ : تستباح الارض وتنتهك المقدسات وتدنس الحرمات وترى مقدسات المسلمين يحكمها الصليبين واليهود !
عندما يموتُ الضميرُ : ستغرق السفينة ومن فى اسفلها سيخرقونها وسيغرقونها..
عندما يموتُ الضميرُ : سيتفكك بنيان الجسد الواحد الذى طالما عمل النبى صلى الله عليه وسلم على بناءه..
عندما يموتُ الضميرُ : ستنتشر الاخلاق المرذولة وتضيع الفضيلة وتشرب القلوب الفتن دون نكران.
عندما يموتُ الضمير : يستأسِدُ الحَمَل، ويستنوِقُ الجمَل، ويستنثِرُ البُغاث، وتستقِي البِحارُ من الرَّكَايا، وتنطِقُ الرُّويبِضَة، ويتَّخِذُ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فيضِلُّوا ويُضِلُّوا.
عندما يموتُ الضميرُ : يُصبِحُ التعييرُ نصيحةً، والغِيبةُ حُريَّةً، والنَّميمةُ تحذيرًا.
عندما يموتُ الضميرُ : يُمكنُ للظالِمِ أن يدُكَّ شعبًا كاملاً فلا يُبالِي في أي وادٍ هلَك، فيقتُل ويفجُر، ويأسِرُ ويُشرِّد، فيستصرِخون ويستغيثُون ويُنادُون، ولكن لا حياةَ لمن يُنادَى.
عندما يموتُ الضميرُ : يعلُو الظلمُ، ويخبُو العدل، ويكثُر الشُّحُّ، ويقِلُّ الناصِح، وتُستمطَرُ الآفاتُ والعُقوبات، ويُهدَمُ البُنيان لبِنَةً لبِنَةً، ولاتَ ساعة ترميمٍ.
عندما يموتُ الضميرُ : يتقدم صوت البندقية على صوت العدل ويعلو صوت الرصاص على صوت الحوار والمنطق..
عندما يموتُ الضميرُ : يموتُ الإحساس، وإذا ماتَ الإحساسُ استوَت الأعالِي والأسافِل، فصارَ باطنُ الأرض خيرًا لأهلها من ظاهرِها.
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقومُ الساعةُ حتى يمُرَّ الرجلُ على القبر فيتمرَّغُ عليه ويقول : يا ليتَني كنتُ مكان صاحِب هذا القبر، وليس به الدِّين، إلا البلاء » ..
ولا خيرَ في نَيْل الحياة وعيشِها
إذا ضاعَ مِفتاحُ الضمائرِ وانمَحَى
ألستَ ترَى أن الحُبوبَ ثَخينةً
تحُولُ دقيقًا كلما تطحنُ الرَّحَى
فلنحذر من الغفلة وبيع ضمائرنا ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه …
وما أتعس ذلك الإنسان عديم الضمير والوازع الديني عندما يخلو بمحارم الله فينتهكها فلا يردعه دين ولا خلق وإن أظهر من أعمال البر والخير ما أظهر فيحرم التوفيق في الدنيا والثواب في الآخرة لأن ضميره لم يكن مع الله ..
عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “لأعْلَمَنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها اللّه عزوجل هباء منثوراً”
قال ثوبان : يا رسول اللّه، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن
لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال : أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم اللّه انتهكوها”. رواه ابن ماجة .
وقال تعالى : ( وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)
ايها الكــرام:
لكل امةٍ رسول ولكل فردٍ من الامة رسول ايضاً خاص به الا وهو الضمير ..
ولن ينفعك اتباع الرسل ما لم تنتفع بضميرك
نعم / ضميرك هو الرسول المرسل إليك وحدك .؟
ولن ينفعك اتباع الرسل ومعصية رسولك أنت
والا فما فائدة صلاة او صيام او عبادة ما لم تنظف الجوارح والضمير..؟
لذلك نقول يا أيها المسلم : إنّ الضمير قد لا يمنعك من فعل الحرام ولكن يحول بينك وبين الاستمتاع به..
من هنا كان النّاسَ أصنافٌ مع ضمائرهم :
فصنفٌ ضميرُه ظاهرٌ حيٌّ، يعرفُ المعروف، ويُنكِرُ المُنكَر، يُشارِكُ أمَّتَه همومَها وآلامَها وآمالَها، يُواسِي ويُسلِي ويتوجَّع، ذليلٌ على المُؤمنين الصادقين، عزيزٌ على الجبابِرة المُجرِمين، لا يخافُ لومةَ لائمٍ، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
وصنفٌ من الناس ضميرُه مُستترٌ لا محلَّ له من الإعراب، مثلُ العبد الذي هو كلٌّ على مولاه أينما يُوجِّهه لا يأتِ بخير، وجودُه زيادةٌ في العدد، لا يهُشُّ ولا ينُشُّ، فهو لم يَمُتْ ولكنه مُستترٌ لُدنيا يُصيبُها، أو حظٍّ يستوفِيه، أو يخشَى ذريةً ضِعافًا من خلفِه، ولسانُ حالِه يقول: نفسي نفسي، فلا يستفيدُ منه فقيرٌ، ولا ينصحُ مُستنصِحًا، وكأنه خُلِق ليأكُل ويشرب، ومثلُ هذا إن لم يتعاهَد ضميرَه، فسيكونُ مع الزمن في عِداد الضمائر الميْتَة.
وصنفٌ ثالث وهو الضميرُ المَيت الذي يغلبُ شرُّه خيرَه أو لا خيرَ فيه، لا تجِده في المُقدِّمة ولا في السَّاقَة، لا يُشاطِرُ إلا في الشرِّ، ولا تراهُ إلا في دوائر القُبح يأمُر بالمُنكر، وينهَى عن المعروف، ويقبِضُ يدَيْه، نسِيَ الله فنسِيَه، لا تجِده إلا كاذِبًا غاشًّا أنانيًّا همَّازًا لمَّازًا مشَّاءً بِنَميمٍ، لسانُ حاله يقول :
أنا ومن وراء الطوفان، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك.
هو كالذُّباب لا يقعُ إلا على الجُروح، يعوذُ مُجتمعه من أمثالِه حين يُمسِي وحين يُصبِح، وكأنه إنما خُلِق ليُثقِّل ميزانَه بالآثام فيلقَى ربَّه يوم القيامة وما في وجهِه مُزعَةُ لحمٍ.
عباد الله :
إنّ تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول
وبدونه لن يكون إلا مزيداً من الشقاء مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها وطرق ضبطها للجرائم وإدارة شؤون الناس .!
فأنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين
وبالتالي ما لذي يمنع الموظف أن يرتشي، والكاتب أن يزور، والجندي أن يخل في عمله، والطبيب أن يهمل في علاج مريضه، والمعلم أن يقصر في واجبه
والقاضي أن يظلم في حكمه، والمرأة أن تفرط بواجبها، والتاجر من أن يغش ويحتكر في تجارته ...
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبـة الثانيـة :
اما بعد احبتي الكــرام :
ما أحوجنا إلى إيقاظ الضمير؟
ما أحوجنا إلى إحياء الضمير؟
ما أحوجنا إلى تنبيه الضمير؟
ليعود بالمسلم إلى حياته عاملاً فاعلاً متواصلاً مثمِرًا مجتهدًا.
الضمير الحي هو ما تحتاجه الأمة من أبنائها…
فهلمُّوا إلى حملة إحياء الضمير؛ لنعيد للأمة حاضرها، ونمتلك زمام المستقبل.
ما احوجنا الـى ذلكم الضمير الذى جعل الفتاة التى تأمرها امها بغش اللبن بالماء تقول ان كان عمر لا يرانا فربُّ عمر يرانا.!
ذلكم الضمير الذى جعل الراعى يقول لابن عمر حينما اختبره ان يأخذ منه شاة ويقول لسيده اكلها الذئب فرد عليه وماذا اقول لله.
ذلكم الضمير الذى جعل القاضى يحكم بالدرع لليهودى فى خصومة بين اليهودى وسيدنا على لعدم البينة رغم انها لعلى..
ذلكم الضمير الذى وصفته الاية :
( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ).
ذلكم الضمير الذى جعل أمة كاملة تمكث سنة كامله لم يختصم فيها اثنان امام القضاء حتى طلب القاضى وهو ابن الخطاب عزل نفسه.
ذلكم الضمير الذى جعل الجنود يجيئون لعمر بغنائم خف وزنها وغلا ثمنها ولو اخفوها ما علم بهم احد.
ذلكم الضمير الذى يربط بينك وبين قوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر....
إنّها ضمائر متصلة بالله .!
فأين ضمائرنا المتصلة بالله وبالقيم والأخلاق في زمن الغاية تبرر الوسيلة ؟ ..
إنّه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله.!
وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر وأصبح جسد الإنسان خاوي من الضمير الحي والقيم النبيلة ...
ولله در من قال :
عَجِبْتُ وَحُقَّ لِي عَجَبِي
وَفِي جَوْفِي لَظَى اللَّهَبِ
وَقَلْبِي اليَوْمَ مُنْفَطِرٌ
وَدَمْعِي جِدُّ مُنْسَكِبِ
لِمَاذَا بَعْضُ أُمَّتِنَا
بِلا دِينٍ وَلا أَدَبِ؟!
وَغَاصُوا فِي بِحَارِ الجَهلِ
وَالفَوْضَى إِلَى الرُّكَبِ
اللهــم ارحم ضعفنا وتولى امرنا واحسن خلاصنا وأجب دعائنا ويمّن كتابنا ويسّر حسابنا ..
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....
https://www.youtube.com/channel/UCLJ79thojuudGAmodUO0sdw
القنـاة الرسميـة للداعية :
احمـــد عبـداللـه صـالـح