(الصيف بين ألم وأمل) للشيخ عبدالله بن عائض الحاج عسيري
الفريق العلمي
1435/05/12 - 2014/03/13 08:36AM
الخطبة الأولى:
عباد الله: خطبتنا عن الصيف ما بين أمل وألم.
نعم -يا أحبّتي-: نحن نتقلّب في نعم العيش الوافر، فاحمدوا الله على ما أعطاكم من نعمه، وأصبغها عليكم ظاهرة وباطنة.
احمدوا الله يا أهل الحمد، مجّدوا الله يا أهل المجد لله.
نحن -يا عباد الله-: في ظل دعوة أبينا إبراهيم -عليه السلام- حينما قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126].
فيا رب بك أستجير ومن يجير سواك *** فأجب فقيرًا يحتمي بِحماك
يا رب قد أذنبت فاغفر زلتي *** أنت المجيب لكلّ من ناداك
يا أحبتي: إنه يمتزج على القلب، ويهيمن على الذهن: ألم وأمل!.
ألم لما وصل إليه الحال، وانتهى إليه المآل، من قلوب متباينة في الوعي، وأنفس متشنّجة في الفهم.
فوقتنا -بارك الله فيكم-: لم ننظّمه، فأصبح لا يعرف للزمن قيمة، ولا للحياة ثمنا.
وأمل في صحوة القلوب من غفلتها، واستفاقة العقول من سباتها، وانتباه المشاعر من غوايتها، فعلينا جميعا المبادرة إلى ترميم حبال الوقت الذي يذهب منا سدى، وإقامة جسور الهمّة، وتشييد صروح الحق، واجتماع الشعور والمشاعر، لكي تلتقي الأرواح والأجساد معًا.
عن نضلة بن عبيد الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟".
وهنا مصبّ خطبتنا حينما قال صلى الله عليه وسلم: "عن عمره فيم أفناه؟".
العمر وهو الوقت: عن العمر فيم أفناه؟ هل أفناه بأعمال صالحة أم أفناه في أعمال سيئة -والعياذ بالله-؟
عباد الله: إن الدين والشريعة ودستورها وهو كتاب الله -تعالى- يطالبوننا بالمحافظة على الوقت والزمان.
فالزمان هو الليالي والأيام، والشهور والسنين، فهنيئًا لمن حافظ عليها بتقوى الله، والأعمال الصالحة!.
ويا حسرة على من فرّط فيها، فهو الخاسر الذي قال الله -تعالى- عنه يوم القيامة: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)[الفرقان: 27].
(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
لماذا يعض على يديه؟
لأنه أضاع الوقت في الخسران والضياع -والعياذ بالله-.
يا عباد الله: إن الوقت سريع، قيمة نبيلة، وشعيرة عظيمة، سريع التقضّي منا، أبيُّ التأنّي.
ولأهمية الوقت انظروا كيف أقسم الله -عز وجل- به، فقال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1-2].
وقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)[الضحى: 1-2].
وقال: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[العصر: 1-2].
وقال تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)[الليل: 1-2].
الوقت -يا أخي-: هو عمرك وحياتك، فاعمل فيه ما يقربك من ربك، وإلا فالوقت يقطع، والعمَل مجزيّ به.
الوقت أنفس ما تعنيت بحفظه *** وأراه أهون ما عليك يضيع
فكم في هذه الحياة من يفرط في الوقت، وليته يفرط في جزء منه، لا –والله-: إنه يفرط فيه كله، والمثال على ذلك: تقبل علينا إجازة وعطلة الصيف: ماذا نرى من المدرسين والطلاب وكبار السن إلا الخمول والنوم طوال النهار؟! ألم يعلموا أنهم مسؤولون أمام الله عن سبات نومهم طوال هذه العطلة؟!
نقول: إن الدولة -بارك الله فيها-: عملت مراكز صيفية لمثل ذلك، وتلك المراكز كاضة بالعمل الدؤوب من الصباح حتى بعد الظهر، ومن الظهر حتى الليل؛ وذلك حرصًا منها -رعاها الله -: أن لا تخرج جيلاً كسولاً لا يعتمد على نفسه في شيء.
فماذا عليك -أيها المدرس-: إلا العمل في مثل هذه المراكز، راجيًا الثواب من الله -تعالى- لتنشئة جيل يعرف الله، وحق الله عليه.
فكم لك من الثواب، ألا تعلم -أيها المدرس-: إن كنت مخلصا أن الملائكة في السماء، والحيتان في الماء، والطير في الهواء؛ تستغفر لك؛ لأنك معلم البشرية بنور العلم.
وكم رأينا من الطلاب المحافظين على أوقاتهم في العطلة الصيفية؟!
عباد الله: إن الألم والأمل اشتركا في الحروف، ولكنهما يختلفان في المعنى، فشتان بين ألم يقطع الأواصر، ويباعد عن الحق، ويقرب من البا طل والضلال، وأمل تشرق به النفس، وتلتذ بحروفه الألسن وتعلو به الحياة همةً ورقيًا، وعلى هذا -يا أحبتي-: فلا يجتمع الحسن والقبيح، ولا النور ولا الظلام، ولا الألم ولا الأمل.
إذا الصيف ألم وأمل في فراغه وعمله، وقضائه وانقضائه، وفي حره واعتداله.
يا أحبتي: الصيف أمل للمتزوجين لبناء حياة جديدة، وأي حياة تبنى على غير طاعة الله فليست بحياة آمنة مستقرة.
فحذار حذار -أيها المتزوجون-: أن تكدروا صفو عيشكم، وصفو حياتكم بالاتجاه إلى المحرمات، وسماع المغنين والمغنيات، وتنشئة جيل على غير طاعة الله -عز وجل-.
يا أحبتي: الصيف أمل لعابد مشرق الوجه، يعيش عيشة ناضرة إلى ربها ناظرة، ويتشوق إلى نفحات الليل، وقد أزهرت نجومه.
قلت لليل كم بِجوفك سرًا *** فأخبرني من أروع الأسرار
قال ما سمعت في حياتي حديثا *** كحديث المنيبين فِي الأسحار
وعلى هذا فالصيف -يا أحبتي-: أمل لعابد قد صفّ في محراب السحر، ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيتلو بها آيات ربه، فيجد قلبه وروحه تتألّقان في روح وريحان، وحياته هناء وصفاء؛ لقول الله -تعالى-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وترى وجوه أهل صلاة الأسحار نورا؛ سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "ما بال المتهجدين لهم في وجوههم نور؟! فقال رحمه الله تعالى: أولئك قوم خلَوا بالله -تعالى- فأكسبهم نورًا من نوره".
فهنيئًا لأصحاب الأمل الخالد، والعمل التالد.
الصيف -بارك الله فيكم -: ألم لأقوام ما عرفوا في الليل إلا الظلام، زعموه سائرًا لقضاء شهواتهم ما بين أغنية ومزمار، ومسرح وطار، وفيلم وأوزار، وليالي حمراء، أشد منها الجمر في النار.
شباب على الأرصفة يلهون، وعلى الأعراض بالأبصار، والأسماع يتلصّصون!.
فهداهم الله من أقوام ما عرفوا من ليل جميل أسراره، وفيض أستاره، وجلاله وأنواره، بمناجاة رب العباد، وقيام الليل في الظلمات، بصلاة وخشوع، وسجود وركوع، وبكاء ودموع.
الله المستعان! شباب ما عرفوا إلا لهوًا وإعراضا -هداهم الله-.
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض *** الشوك يَحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً *** إن الجبال من الحصى
يا قاطع الأرحام: اسمع لهذه العبارة الجميلة، الصيف أمل لصلة الأرحام وزيارتهم، فكم من قريب عققناه وجفيناه؟! وكم من رحم قطعناه؟!
عباد الله: إن الله -تعالى- خلق الرحم حتى إذا فرغ منها قامت، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله -تعالى-: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: نعم.
الصيف ألم للبطالين الذين لا هم لهم إلا ضياع أوقاتهم في قيل وقال، في مجالسهم ومنتدياتهم، وكثرة السؤال، فيما ليس من ورائه ربح في دنيا، ولا فلاح في آخرة، وإضاعة المال في الإسراف والتبذير في الولائم، والعزائم والمناسبات.
فكم يحدث من التبذير ومن الإسراف بالمال وبالنعم التي رزقنا الله إياها.
فاصحوا -أيها المسرفون الغافلون-: فوالله إن هذه النعم كانت عند أهلها في أكثر البلدان، فيما مضى، وفي بلاد الأفغان فيما مضى، وفي البلاد التي تشكو الجوع الآن، كانوا كما نحن الآن في سرف وترف، وفي إضاعة المال والنعم، فلربما أنه استدراج لكم من ربكم؛ لقوله تعالى: (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق: 17].
وقال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)[القلم: 44].
انتبهوا فقد نزل القرآن محذرا المسلم العاقل الفطن من ضياع الوقت، وضياع المال، وإسراف المال، وهنا قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67].
فيا من جعلوا صيفهم أملا، من حق إخوانكم عليكم نصحهم، وتذكيرهم بالله أمرًا ونهيًا.
واعلموا: أن هذا من تكفير الذنوب، فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره؛ تكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، إن الصيف يكون أملا على من يحسن تربية أبنائه، ويذكرهم بأهمية الوقت، وحسن الرفقة، وسلامة النفس، والحفاظ على أعراض الناس.
ويكون أملا على من يعود ابنته وزوجته، ومن في طوره على ارتداء الحجاب الشرعي، وعدم السماح لهن بالنقاب؛ لأن العفة في الجلباب وليس في النقاب، وأصدق القائلين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)[الأحزاب: 59].
ولم يقل: من نقابهن.
لنكن أهل عقول واعية، وعفة ساترة، وغيرة شاملة لبناتنا وزوجاتنا، ومن كان في طورنا من النساء.
عباد الله: أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لا يزال الحديث عن الصيف أمل وألم، لذا فالدنيا دار شقاء، ومنزل بلاء، وموطن الضراء، وكدر الصفاء، جديدها بالي، ونعيمها فاني، سرورها زائل، وشديدها نازل، أبى نعيمها إلا بمخالطة شقائها، وملازمة لأوائها، وأبت أتراحها ومصائبها إلا دفعًا لسرورها وأفراحها.
عباد الله: ها هو الصيف قد حل بلفحه ولهيبه، وناره وسمومه، هل من ذكرى لأولي الألباب؟ أم هل من وقفة لأصحاب القلوب السليمة؟
نعم -يا أحبتي-: حري بكل عاقل أن تذكره الشدائد إخوتها، وأن تبصره المصائب بمواطن الشكر لله -تعالى-.
ولكن -يا عباد الله-: أين المعتبرون؟!
تعلمون أن شدة الحر من فيح جهنم، وقد أخبرنا به أصدق الخلق نبينا محمدًا –صلى الله عليه وسلم- إن شدة الحر من فيح جهنم، فإنه لقب لم يقف عند هذا الحرف؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الحر من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة"[رواه البخاري].
أي: من سعة انتشار جهنم وتنفسها، ومنه مكان أفيح، أي: متسع.
فالصيف -يا عباد الله-: إما موسم طاعة عندنا، أو موسم عصيان لربنا.
فيا رب عذرًا على التقصير، فالبضاعة مزجاة، والجراب خالي الإهاب، والصيد قليل في جوف الفراء.
فيا رب رحماك رحماك من تقصيرنا لذنوبنا وأنت بنا بصير، وأنت على ما تشاء قدير.
يا أحبتي: إن الهدف سامي، والمطلب غالي، وتربية النفس طريق طويل طويل، فقد يعين الله فيه من أخلص النية، وأصلح السريرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قالت النار: ربي، أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم"[رواه البخاري ومسلم].
فيا من لفحك الصيف بحره وحروره: هل تذكرت أن حر الصيف من فيح جهنم؟!
ويا من غزاك الصيف بحره: هل تذكرت جهنم؟!
ويا من ذقت حرارة الصيف: هل اتّعظت؟!
اعلموا -بارك الله فيكم-: أن الشيء بالشيء يذكر، فهل تذكرت شدة جهنم وأنت تصطلي حمارة القيظ.
يا أيها العاقل: ذكر قلبك وتفقده: هل فيه للعظة موضعا؟!
قال ابن رجب: "وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكرك بألم النار".
عباد الله: كان السلف يتذكرون ظلمة الليل فيبكون، فيقال لهم: ما يبكيكم؟! فيقولون: ظلمة الليل تذكرنا ظلمة القبر.
فلا يعرف ليلهم من نهارهم، وهم مولعون السراج في الليل رضي الله عنهم، لهم قلوب يفقهون بها ولهم عقول يدركون بها؛ قرئ عند عمر بن الخطاب هذه الآية: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 50].
وكان أعرابي جالس فانتحب، وقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيتني أهنأ البعير بالقطران فيهرج البعير، فكيف بابن آدم؟!
عباد الله: كم منا من لفحه حرّ الصيف وعرقه يقطر من وجهه، فما تذكر يوم القيامة يوم النشور، يومًا يسيل العرق من العباد، منهم من يلجمه العرق إلجاما، ومنهم من يكون على خاصرته، ومنهم من هو إلى ركبتيه.
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته *** فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا
فِي ظل مقفرة غبراء مظلمة *** يطيل تحت الثرى في عمها اللبثا
أي: القبر، الله أكبر!.
وعن المقداد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل".
عباد الله: كم في حر الصيف من ذكرى؟ أرأيتك وأنت تفر من حر الشمس وبينك وبينها ملايين الأميال والكيلومترات، فكيف بي وبك إذا دنت منا مقدار ميلا؟! فكيف كان الميل؟ أنطيق ذلك؟!
فلنقف أنفسنا في عتبات المحاسبة، ونقول لها: أي نفسي، أتراك تطيقين الحر في ذلك اليوم؟!
قل لي -أيها الضعيف-: كيف تهرب من حر الشمس ونسيت فيح وحر جهنم ولا تهرب منها؟!
ليتك -أيها الغافل- عملت لظل الجنة كما عملت لداء الهرم والسقم، وليتك هربت من زفير النيران كما هربت من شمس النهار.
قيل لأحد السلف عند موته: ما يبكيك؟ قال: لا أبكي إلا على ظمأ الهواجر وحر النهار؛ لأن عملها مضاعف عند الله، وظمأ الهواجر، يعني الصوم في شدة الحر.
قوم ورجال عرفوا حقائق الأمور، ووقفوا على غرور دار الغرور.
رجال أبصرت قلوبهم، فللَّه من حياة لهم.
تزود من الدنيا فإنك هالك *** وتترك للأعداء ما أنت مالك
ووسع طريقًا أنت سالكه غدً *** فلا بدّ من يوم تضيق المسالك
أيها الغافلون: أما تذكرتم لفح السعير تتلظّون بلفح النهار؟! إنها النار! إنها النار!.
يا عباد الله: قال أحد السلف: "يا مَن الكلمة تقلقه، والبعوضة تسهره، أمثلك يقوى على وهج السعير، أو يطيق صفعة خده على سمومها؟!".
قال تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 16].
من منا -يا أحبتي -: يرضى بالنار؟! لو قلنا: من يريد النار؟ هل من مجيب بنعم؟!
لا –والله- فلماذا نعمل بعمل أهل النار، ونتبع الشيطان، وهو جندي من جنود النار الكبار والمخلّدين؟!
إذا مد الصراط على الجحي *** تصول على العصاة وتستطيل
فقوم فَي الجحيم لَهم ثبورُ *** وقوم فَي الْجنان لَهم مقيل
وبان الحق وانكشف الغطاء *** وطال الويل واتصل العويل
أيها العاقل: فليكن صيفك واعظًا لك، ومذكرًا لك نارًا وقودها الناس والحجارة.
يا أحبتي: تأملوا حال الصالحين، وكيف كان خوفهم من النار، أولئك الأحياء حقًا.
اعلموا -بارك الله فيكم-: الصيف كم أشعل من أحشاء؟ وكم هيج من عروق؟ فترى الناس يهرعون إلى الماء البارد طلبًا لبرد الأحشاء، وراحة البدن.
نعم، ما أحلى الماء البارد مع الظمأ، قال أحد السلف: "إن شرب الماء البارد في اليوم الحار يستخرج الحمد من الجوف حقًا".
إنها نعمة تستحق الشكر الكثير، وتدعو صاحبها إلى وقفة محاسبة متأنية.
هذا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، محمد بن عبد الله وآله...
عباد الله: خطبتنا عن الصيف ما بين أمل وألم.
نعم -يا أحبّتي-: نحن نتقلّب في نعم العيش الوافر، فاحمدوا الله على ما أعطاكم من نعمه، وأصبغها عليكم ظاهرة وباطنة.
احمدوا الله يا أهل الحمد، مجّدوا الله يا أهل المجد لله.
نحن -يا عباد الله-: في ظل دعوة أبينا إبراهيم -عليه السلام- حينما قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126].
فيا رب بك أستجير ومن يجير سواك *** فأجب فقيرًا يحتمي بِحماك
يا رب قد أذنبت فاغفر زلتي *** أنت المجيب لكلّ من ناداك
يا أحبتي: إنه يمتزج على القلب، ويهيمن على الذهن: ألم وأمل!.
ألم لما وصل إليه الحال، وانتهى إليه المآل، من قلوب متباينة في الوعي، وأنفس متشنّجة في الفهم.
فوقتنا -بارك الله فيكم-: لم ننظّمه، فأصبح لا يعرف للزمن قيمة، ولا للحياة ثمنا.
وأمل في صحوة القلوب من غفلتها، واستفاقة العقول من سباتها، وانتباه المشاعر من غوايتها، فعلينا جميعا المبادرة إلى ترميم حبال الوقت الذي يذهب منا سدى، وإقامة جسور الهمّة، وتشييد صروح الحق، واجتماع الشعور والمشاعر، لكي تلتقي الأرواح والأجساد معًا.
عن نضلة بن عبيد الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟".
وهنا مصبّ خطبتنا حينما قال صلى الله عليه وسلم: "عن عمره فيم أفناه؟".
العمر وهو الوقت: عن العمر فيم أفناه؟ هل أفناه بأعمال صالحة أم أفناه في أعمال سيئة -والعياذ بالله-؟
عباد الله: إن الدين والشريعة ودستورها وهو كتاب الله -تعالى- يطالبوننا بالمحافظة على الوقت والزمان.
فالزمان هو الليالي والأيام، والشهور والسنين، فهنيئًا لمن حافظ عليها بتقوى الله، والأعمال الصالحة!.
ويا حسرة على من فرّط فيها، فهو الخاسر الذي قال الله -تعالى- عنه يوم القيامة: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)[الفرقان: 27].
(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
لماذا يعض على يديه؟
لأنه أضاع الوقت في الخسران والضياع -والعياذ بالله-.
يا عباد الله: إن الوقت سريع، قيمة نبيلة، وشعيرة عظيمة، سريع التقضّي منا، أبيُّ التأنّي.
ولأهمية الوقت انظروا كيف أقسم الله -عز وجل- به، فقال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1-2].
وقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)[الضحى: 1-2].
وقال: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[العصر: 1-2].
وقال تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)[الليل: 1-2].
الوقت -يا أخي-: هو عمرك وحياتك، فاعمل فيه ما يقربك من ربك، وإلا فالوقت يقطع، والعمَل مجزيّ به.
الوقت أنفس ما تعنيت بحفظه *** وأراه أهون ما عليك يضيع
فكم في هذه الحياة من يفرط في الوقت، وليته يفرط في جزء منه، لا –والله-: إنه يفرط فيه كله، والمثال على ذلك: تقبل علينا إجازة وعطلة الصيف: ماذا نرى من المدرسين والطلاب وكبار السن إلا الخمول والنوم طوال النهار؟! ألم يعلموا أنهم مسؤولون أمام الله عن سبات نومهم طوال هذه العطلة؟!
نقول: إن الدولة -بارك الله فيها-: عملت مراكز صيفية لمثل ذلك، وتلك المراكز كاضة بالعمل الدؤوب من الصباح حتى بعد الظهر، ومن الظهر حتى الليل؛ وذلك حرصًا منها -رعاها الله -: أن لا تخرج جيلاً كسولاً لا يعتمد على نفسه في شيء.
فماذا عليك -أيها المدرس-: إلا العمل في مثل هذه المراكز، راجيًا الثواب من الله -تعالى- لتنشئة جيل يعرف الله، وحق الله عليه.
فكم لك من الثواب، ألا تعلم -أيها المدرس-: إن كنت مخلصا أن الملائكة في السماء، والحيتان في الماء، والطير في الهواء؛ تستغفر لك؛ لأنك معلم البشرية بنور العلم.
وكم رأينا من الطلاب المحافظين على أوقاتهم في العطلة الصيفية؟!
عباد الله: إن الألم والأمل اشتركا في الحروف، ولكنهما يختلفان في المعنى، فشتان بين ألم يقطع الأواصر، ويباعد عن الحق، ويقرب من البا طل والضلال، وأمل تشرق به النفس، وتلتذ بحروفه الألسن وتعلو به الحياة همةً ورقيًا، وعلى هذا -يا أحبتي-: فلا يجتمع الحسن والقبيح، ولا النور ولا الظلام، ولا الألم ولا الأمل.
إذا الصيف ألم وأمل في فراغه وعمله، وقضائه وانقضائه، وفي حره واعتداله.
يا أحبتي: الصيف أمل للمتزوجين لبناء حياة جديدة، وأي حياة تبنى على غير طاعة الله فليست بحياة آمنة مستقرة.
فحذار حذار -أيها المتزوجون-: أن تكدروا صفو عيشكم، وصفو حياتكم بالاتجاه إلى المحرمات، وسماع المغنين والمغنيات، وتنشئة جيل على غير طاعة الله -عز وجل-.
يا أحبتي: الصيف أمل لعابد مشرق الوجه، يعيش عيشة ناضرة إلى ربها ناظرة، ويتشوق إلى نفحات الليل، وقد أزهرت نجومه.
قلت لليل كم بِجوفك سرًا *** فأخبرني من أروع الأسرار
قال ما سمعت في حياتي حديثا *** كحديث المنيبين فِي الأسحار
وعلى هذا فالصيف -يا أحبتي-: أمل لعابد قد صفّ في محراب السحر، ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيتلو بها آيات ربه، فيجد قلبه وروحه تتألّقان في روح وريحان، وحياته هناء وصفاء؛ لقول الله -تعالى-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وترى وجوه أهل صلاة الأسحار نورا؛ سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "ما بال المتهجدين لهم في وجوههم نور؟! فقال رحمه الله تعالى: أولئك قوم خلَوا بالله -تعالى- فأكسبهم نورًا من نوره".
فهنيئًا لأصحاب الأمل الخالد، والعمل التالد.
الصيف -بارك الله فيكم -: ألم لأقوام ما عرفوا في الليل إلا الظلام، زعموه سائرًا لقضاء شهواتهم ما بين أغنية ومزمار، ومسرح وطار، وفيلم وأوزار، وليالي حمراء، أشد منها الجمر في النار.
شباب على الأرصفة يلهون، وعلى الأعراض بالأبصار، والأسماع يتلصّصون!.
فهداهم الله من أقوام ما عرفوا من ليل جميل أسراره، وفيض أستاره، وجلاله وأنواره، بمناجاة رب العباد، وقيام الليل في الظلمات، بصلاة وخشوع، وسجود وركوع، وبكاء ودموع.
الله المستعان! شباب ما عرفوا إلا لهوًا وإعراضا -هداهم الله-.
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض *** الشوك يَحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً *** إن الجبال من الحصى
يا قاطع الأرحام: اسمع لهذه العبارة الجميلة، الصيف أمل لصلة الأرحام وزيارتهم، فكم من قريب عققناه وجفيناه؟! وكم من رحم قطعناه؟!
عباد الله: إن الله -تعالى- خلق الرحم حتى إذا فرغ منها قامت، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله -تعالى-: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: نعم.
الصيف ألم للبطالين الذين لا هم لهم إلا ضياع أوقاتهم في قيل وقال، في مجالسهم ومنتدياتهم، وكثرة السؤال، فيما ليس من ورائه ربح في دنيا، ولا فلاح في آخرة، وإضاعة المال في الإسراف والتبذير في الولائم، والعزائم والمناسبات.
فكم يحدث من التبذير ومن الإسراف بالمال وبالنعم التي رزقنا الله إياها.
فاصحوا -أيها المسرفون الغافلون-: فوالله إن هذه النعم كانت عند أهلها في أكثر البلدان، فيما مضى، وفي بلاد الأفغان فيما مضى، وفي البلاد التي تشكو الجوع الآن، كانوا كما نحن الآن في سرف وترف، وفي إضاعة المال والنعم، فلربما أنه استدراج لكم من ربكم؛ لقوله تعالى: (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق: 17].
وقال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)[القلم: 44].
انتبهوا فقد نزل القرآن محذرا المسلم العاقل الفطن من ضياع الوقت، وضياع المال، وإسراف المال، وهنا قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67].
فيا من جعلوا صيفهم أملا، من حق إخوانكم عليكم نصحهم، وتذكيرهم بالله أمرًا ونهيًا.
واعلموا: أن هذا من تكفير الذنوب، فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره؛ تكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، إن الصيف يكون أملا على من يحسن تربية أبنائه، ويذكرهم بأهمية الوقت، وحسن الرفقة، وسلامة النفس، والحفاظ على أعراض الناس.
ويكون أملا على من يعود ابنته وزوجته، ومن في طوره على ارتداء الحجاب الشرعي، وعدم السماح لهن بالنقاب؛ لأن العفة في الجلباب وليس في النقاب، وأصدق القائلين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)[الأحزاب: 59].
ولم يقل: من نقابهن.
لنكن أهل عقول واعية، وعفة ساترة، وغيرة شاملة لبناتنا وزوجاتنا، ومن كان في طورنا من النساء.
عباد الله: أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لا يزال الحديث عن الصيف أمل وألم، لذا فالدنيا دار شقاء، ومنزل بلاء، وموطن الضراء، وكدر الصفاء، جديدها بالي، ونعيمها فاني، سرورها زائل، وشديدها نازل، أبى نعيمها إلا بمخالطة شقائها، وملازمة لأوائها، وأبت أتراحها ومصائبها إلا دفعًا لسرورها وأفراحها.
عباد الله: ها هو الصيف قد حل بلفحه ولهيبه، وناره وسمومه، هل من ذكرى لأولي الألباب؟ أم هل من وقفة لأصحاب القلوب السليمة؟
نعم -يا أحبتي-: حري بكل عاقل أن تذكره الشدائد إخوتها، وأن تبصره المصائب بمواطن الشكر لله -تعالى-.
ولكن -يا عباد الله-: أين المعتبرون؟!
تعلمون أن شدة الحر من فيح جهنم، وقد أخبرنا به أصدق الخلق نبينا محمدًا –صلى الله عليه وسلم- إن شدة الحر من فيح جهنم، فإنه لقب لم يقف عند هذا الحرف؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الحر من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة"[رواه البخاري].
أي: من سعة انتشار جهنم وتنفسها، ومنه مكان أفيح، أي: متسع.
فالصيف -يا عباد الله-: إما موسم طاعة عندنا، أو موسم عصيان لربنا.
فيا رب عذرًا على التقصير، فالبضاعة مزجاة، والجراب خالي الإهاب، والصيد قليل في جوف الفراء.
فيا رب رحماك رحماك من تقصيرنا لذنوبنا وأنت بنا بصير، وأنت على ما تشاء قدير.
يا أحبتي: إن الهدف سامي، والمطلب غالي، وتربية النفس طريق طويل طويل، فقد يعين الله فيه من أخلص النية، وأصلح السريرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قالت النار: ربي، أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم"[رواه البخاري ومسلم].
فيا من لفحك الصيف بحره وحروره: هل تذكرت أن حر الصيف من فيح جهنم؟!
ويا من غزاك الصيف بحره: هل تذكرت جهنم؟!
ويا من ذقت حرارة الصيف: هل اتّعظت؟!
اعلموا -بارك الله فيكم-: أن الشيء بالشيء يذكر، فهل تذكرت شدة جهنم وأنت تصطلي حمارة القيظ.
يا أيها العاقل: ذكر قلبك وتفقده: هل فيه للعظة موضعا؟!
قال ابن رجب: "وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكرك بألم النار".
عباد الله: كان السلف يتذكرون ظلمة الليل فيبكون، فيقال لهم: ما يبكيكم؟! فيقولون: ظلمة الليل تذكرنا ظلمة القبر.
فلا يعرف ليلهم من نهارهم، وهم مولعون السراج في الليل رضي الله عنهم، لهم قلوب يفقهون بها ولهم عقول يدركون بها؛ قرئ عند عمر بن الخطاب هذه الآية: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 50].
وكان أعرابي جالس فانتحب، وقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيتني أهنأ البعير بالقطران فيهرج البعير، فكيف بابن آدم؟!
عباد الله: كم منا من لفحه حرّ الصيف وعرقه يقطر من وجهه، فما تذكر يوم القيامة يوم النشور، يومًا يسيل العرق من العباد، منهم من يلجمه العرق إلجاما، ومنهم من يكون على خاصرته، ومنهم من هو إلى ركبتيه.
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته *** فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا
فِي ظل مقفرة غبراء مظلمة *** يطيل تحت الثرى في عمها اللبثا
أي: القبر، الله أكبر!.
وعن المقداد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل".
عباد الله: كم في حر الصيف من ذكرى؟ أرأيتك وأنت تفر من حر الشمس وبينك وبينها ملايين الأميال والكيلومترات، فكيف بي وبك إذا دنت منا مقدار ميلا؟! فكيف كان الميل؟ أنطيق ذلك؟!
فلنقف أنفسنا في عتبات المحاسبة، ونقول لها: أي نفسي، أتراك تطيقين الحر في ذلك اليوم؟!
قل لي -أيها الضعيف-: كيف تهرب من حر الشمس ونسيت فيح وحر جهنم ولا تهرب منها؟!
ليتك -أيها الغافل- عملت لظل الجنة كما عملت لداء الهرم والسقم، وليتك هربت من زفير النيران كما هربت من شمس النهار.
قيل لأحد السلف عند موته: ما يبكيك؟ قال: لا أبكي إلا على ظمأ الهواجر وحر النهار؛ لأن عملها مضاعف عند الله، وظمأ الهواجر، يعني الصوم في شدة الحر.
قوم ورجال عرفوا حقائق الأمور، ووقفوا على غرور دار الغرور.
رجال أبصرت قلوبهم، فللَّه من حياة لهم.
تزود من الدنيا فإنك هالك *** وتترك للأعداء ما أنت مالك
ووسع طريقًا أنت سالكه غدً *** فلا بدّ من يوم تضيق المسالك
أيها الغافلون: أما تذكرتم لفح السعير تتلظّون بلفح النهار؟! إنها النار! إنها النار!.
يا عباد الله: قال أحد السلف: "يا مَن الكلمة تقلقه، والبعوضة تسهره، أمثلك يقوى على وهج السعير، أو يطيق صفعة خده على سمومها؟!".
قال تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 16].
من منا -يا أحبتي -: يرضى بالنار؟! لو قلنا: من يريد النار؟ هل من مجيب بنعم؟!
لا –والله- فلماذا نعمل بعمل أهل النار، ونتبع الشيطان، وهو جندي من جنود النار الكبار والمخلّدين؟!
إذا مد الصراط على الجحي *** تصول على العصاة وتستطيل
فقوم فَي الجحيم لَهم ثبورُ *** وقوم فَي الْجنان لَهم مقيل
وبان الحق وانكشف الغطاء *** وطال الويل واتصل العويل
أيها العاقل: فليكن صيفك واعظًا لك، ومذكرًا لك نارًا وقودها الناس والحجارة.
يا أحبتي: تأملوا حال الصالحين، وكيف كان خوفهم من النار، أولئك الأحياء حقًا.
اعلموا -بارك الله فيكم-: الصيف كم أشعل من أحشاء؟ وكم هيج من عروق؟ فترى الناس يهرعون إلى الماء البارد طلبًا لبرد الأحشاء، وراحة البدن.
نعم، ما أحلى الماء البارد مع الظمأ، قال أحد السلف: "إن شرب الماء البارد في اليوم الحار يستخرج الحمد من الجوف حقًا".
إنها نعمة تستحق الشكر الكثير، وتدعو صاحبها إلى وقفة محاسبة متأنية.
هذا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، محمد بن عبد الله وآله...