الصوم .. مدرَسَةُ التركِ لوجه الله !

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1435/08/22 - 2014/06/20 05:20AM
خطبة الجمعة : الصوم .. مدرَسَةُ التركِ لوجه الله !
الحمد لله ربّ العالمين ، حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكا فيه ، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما ، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد ، و أشهد أن لا إله إلا الله ، له الحكمةُ البالغة سبحانه ، والثناءُ الحسنُ الجميل ،وأشهد أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار ، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم ، ثم أما بعد :
معشر المؤمنين : حديثنا اليومَ عن صفةٍ جليلةٍ خصّ اللهُ بها عبادة الصوم ، هي أبرزُ حقائقه ، وركيزتُهُ الأساسيّة التي عليها يقوم ، إنّها تربية النفسِ على عبادةِ التركِ لوجه الله جلَّ وعلاَ ! .
ما من عبادةٍ إلاّ وتقومُ حقيقتها على الفعلِ المشروعِ لوجه الله جلّ جلاله ، بالقلبِ أو اللسانِ أو البدن : الطهارة فيها غسلٌ لليدين و مضمضةٌ واستنشاقٌ واستنثار ، ثم غسلٌ للوجه و اليدين إلى المرفقين ، ثم مسحٌ للرأس والأذنين ، ثم غسلٌ للرجلين ، وهذه كلها أفعالٌ إيجابيّةٌ تُرَى ، قال ربنا سبحانه :[font="]} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين[font="]{[/font] ( المائدة : 06 ) . [/font]
الصلاة كذلك فيها إحرامٌ و قراءةٌ وركوع و رفعٌ وسجود و تشهّد و تسليم ، وهذه كلها أفعالٌ إيجابيّةٌ تُرَى ، قال ربنا سبحانه :[font="]] الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين[font="]{[/font] ( الشعراء :218-219 ) . [/font]
و الحج اجتمع فيه البذل والعطاء ، و السفر والأداء ، و فيه الإحرام والطواف و السعي والحلق وغيره من الأفعال التي تُرَى . و الجهاد و قراءة القرآن وغيرها من العبادات ، حتى الزكاة فإنّ فيها نقلاً ودفعًا وإخراجًا ! ، إلا الصوم - معشر المؤمنين- ؛ فإنَّهُ مدرسةٌ تعبُّديّةٌ خاصّة ، لا فِعلَ فيهِ يُرَى في الحقيقة ، بل هو محضُ تركٍ على وجهٍ مخصوص لوجه الله الكريم جلّ وعلاَ ! ، وهذا من أبرزِ مزاياهُ و مقاصدّه ! .
أجل - معشر المؤمنين - ؛ الصومُ مدرسةٌ تنطلقُ بالعبدِ من الهلال إلى الهلال ، من طلوع الفجر الصادِقِ في كل يومٍ إلى غروب شمسِ ذلك اليوم ، يدعُ فيها المؤمنُ طعامه وشرابه وشهوتَهُ الحلال لوجه الله وحده لا شريكَ له ، ثم يعودُ إلى أصله بعد الإذن له من الشرع .
و قد ثبتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على هذه الحكمةِ والمزِيّة :
في المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي . للصائم فرحتان ؛ فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولَخَلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . والصيام جنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب . فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " .
فانظُر كيف استوجبَ الصومُ تشريفَهُ بِنِِسْبَتِهِ إلى اللهِ مع أنّ كلّ العبادات لله سبحانه ! ، وانظُر كيفَ أنّ أجره بدون حساب لا كالأعمال الأخرى تضاعفُ إلى سبعمائة ضعف ، وانظُر كيف وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنّهُ محضُ تركٍ لأجل الله جلّ و علاَ ! ، وانظُر كيفَ يترُكُ صاحبُهُ الرفثَ و المقاتلة و السبَّ والصَّخب لأنَّهُ امرؤٌ صائم ! . جميعُ هذه المعاني شرّفَ اللهُ بها عبادة الصيام لأنَّها عبادةٌ تَركيَّةٌ في الأساس لا فعلَ فيها يُرى ، وهي تُربّي النفسَ الإنسانيّة على أن تدعَ لوجه الله جلّ وعلاَ ، وهذا هو المقصودُ الأعظم ! .
أيها الإخوةُ في الله : العبدُ يضرُّهُ الاستِرسالُ في العوائدِ والشهوات ، و رمضانُ مدرسةٌ تفطِمُ أمّهاتِ الجوارحِ عن أمّهاتِ الملذّات ، لا يأتي إلاّ بعد أحدَ عشر شهرًا كلها انطلاقٌ في المباحات ، وإمعانٌ فيها ، و استرسالٌ مع دواعيها ، ثم يأتي بعد ذلك شهرُ الحِميَةِ لوجهِ الله جلّ وعلاَ ، شهرٌ يقيّدُ الناسَ عن الانطلاقِ في الحلالِ الطيّبِ بأمرِ الله و ابتغاءَ رضوانه ، في الحديث القُدسي :" يدع شهوته وطعامه من أجلي " ! ، أجل - معشر المؤمنين – يدعُ شهوتهُ التي أذنَ اللهُ له فيها ، وطعامه الذي له فيه لذَّةٌ و حاجَة ، يدعها لوجه الله وحده ، لا للعادَة ولا لوجه أحدٍ كائنًا ما كان في الحياة ، وهاهنا يبرزُ دورُ الإيمان و التقوى ، و يظهرُ أثرُ التربيةِ و التهذيب ، فإذا بتلكَ الأنفسِ التقيّة الزكيّة تعتادُ التركَ لوجه الله تعالى للمباحاتِ ، ويصيرُ لها بموجبِ ذلك استعدادٌ وتجهُّز ، فما بالك أخي بتركِ المناهي و المحرّمات ! . نسأل الله السلامة والعافية . أقول قولي هذا و أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم .
الخطبة الثانية :
معشر المؤمنين : إذا استقرّ في الأذهانِ أنّ الصومَ يفطمُ العبدَ عن الاسترسالِ في المباحِ لوجه الله جلّ وعلاَ ، فهل يستقيمُ بربّكُمُ أن يسترسلَ العبدُ في المكروهاتِ والمناهي والمحرّمات وهو صائم ؟! ، حاشا لله و أبعَد ! .
إنّ شهرًا يفطِمُ نفسَكَ عمّا أذنَ اللهُ فيه لحريٌّ أن يفطمَها عمَّا نهى اللهُ عنه ، فإذا خالفت هذا المعنى " فليس لله حاجةٌ في أن تدع طعامك وشرابك ! " : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري . ووردَ في لفظٍ للطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه " حسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب :1088 ) .
أجَل - معشر الأحباب - : إذا لم يحمِلكَ صومُكَ على تركِ الخنا والكذبِ و قولِ الزورِ والعملِ الزورِ - وهي محرّماتٌ بيقين - ؛ فكيف طاوعتكَ نفسُك في الحقيقةِ على تركِ الحلالِ لوجه الله جلّ وعلاَ ؟! . لا شكّ أنَّ تركَ الأوّل أولى و أعلَى عند الأيقاظِ بأدنَى عملٍ عقلي ! .
معشر المؤمنين : إنّ الصومَ عند الأيقاظِ المتأمّلين مدرسةٌ تعلّمُ التركَ لوجه الله جلّ جلالُه ، الترك في شهرٍ على وجه الوجوب والإلزام ، و إرشادًا إلى هذا التركِ في بقيّة أشهُر العام ، فلا ينبغي أن نُفسِدَ معنى التربيةِ على تركِ الملذّاتِ الحلال بالإفراطِ في التمتُّعِ بها في الليل حتّى كأنَّها واجبات فاتَتنا ! ، فكيفَ بتركِ الحرامِ والآثام معشر الكِرام ؟! ، هي واللهِ أعلىَ و أولى ارتباطًا بمعنى الصوم وحقيقته ! .
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضَى : اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين .
المشاهدات 2897 | التعليقات 2

الحقيقة خطبك شيخ رشيد لها نكهة تربوية تختلف وطعما توعويا راقيا سلاسة في الأسلوب ومهارة في الطرح وقوة في الجذب ولفت الانتباه وأسلوبا ساحرا في الإقناع.


جزاك الله خيرا