الصلة بين إعلان الفواحش وظهور الأوبئة

ياسر دحيم
1441/12/24 - 2020/08/14 01:03AM
الخطبة الأولى
 
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)..
 
أما بعد: حديثي إليكم اليوم حديث العظة والعبرة, ولنا في كل يوم عبر وعظات, لكن الذين يتعظون قليل, حديثٌ عن عملاقٍ صغير, صغيرٌ في حجمه, كبيرٌ في أثره, عملاقٌ في فعله, قلب حياة الناس, وأدخل الخوف إلى نفوسهم, وأصبح حديث المجالس والنشرات, سيطر اسمه على الأخبار؛ لعظم أثره وفعله!.
 
كورونا ذلك الفيروس المتناهي في الصغر, رسالة الخالق إلى الخلق؛ أن الفساد جم, وقد تعاظم وطم, وما عاد الناس يعصون ربهم في السر, بل يعلنون معاصيهم بكل وسيلة, وينشرون فسادهم بأي طريقة, حتى أصبح الكلام عن الفواحش والمنكرات أمراً عادياً لا يغضبُ مؤمنٌ بسببه, ولا يتمعَّر وجهه لأجله, ولا ينكر على صاحبه!.
 
إذا فرط الناس في إنكار المنكرات, حلت بهم العقوبات, وعمت الفاسق منهم والصالح, تحدث أم المؤمنين زَيْنَبُ بنت جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: "لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ, فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمأجُوجَ مِثْلُ هذِهِ ,وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا" قَالَتْ: رَسُولَ اللهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ", إذا كثر الخبث لا ينفع الصالحين صلاحهم في دفع العذاب إذا نزل, ورد العقاب إذا حل, وإنما يدفع العذاب قبل وقوعه, بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والأخذ على أيدي المفسدين, والمجاهرين بالمعاصي والذنوب.
 
أيها المؤمنون:  أين فيكم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟, أين النصيحة لمن وقع في المنكرات؟ أين من يأخذ على يد المعلنين للمعاصي فيمنعهم من المجاهرة بالفسق والفجور؟ ألا ترون أن هذه الشعيرة العظيمة قد غابت عن مجتمعاتنا, وعطلت في أوطاننا, وأصبح الواحد منا يعتقد أن لا دخل له بالآخرين, فليفعلوا ما شاؤوا, وليفجروا كما أرادوا, وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْنَ الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَامَّةَ وَالخَاصَّةَ"(الطبراني وضعفه الألباني).
 
ويشهد لمعنى هذا الحديث أحاديث أخرى صحيحة, من ذلك ما جاء في السنن عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ, أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ", وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ»(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ), وَفِي رِوَايَةِ أبي دَاوُد: «إِذا رَأَوْا الظَّالِم فَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ», وَفِي أُخْرَى لَهُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ», قال بلال بن سعد: "إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة", وقال عمر بن عبد العزيز: "كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا كلهم العقوبة", قال ابن العربي: "والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق".
 
قال العلامة الطاهر بن عاشور: "فَعَلَى عُقَلَاءِ الْأَقْوَامِ وَأَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمْ إِذَا رَأَوْا دَبِيبَ الْفَسَادِ فِي عَامَّتِهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا لِلسَّعْيِ إِلَى بَيَانِ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَنْ يَكْشِفُوا لَهُمْ مَاهِيَّتَهُ وَشُبْهَتَهُ وَعَوَاقِبَهُ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْهُ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَزْجُرُوا الْمُفْسِدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ حَتَّى يَرْتَدِعُوا، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ، وَتَوَانَوْا فِيهِ لَمْ يَلْبَثِ الْفَسَادُ أَنْ يَسْرِيَ فِي النُّفُوسِ وَيَنْتَقِلَ بِالْعَدْوَى مِنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَكَادُ، فَيَعْسُرُ اقْتِلَاعُهُ مِنَ النُّفُوسِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ يُفْسِدُ عَلَى الصَّالِحِينَ صَلَاحُهُمْ وَيُنَكِّدُ عَيْشَهُمْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا حَلَّتْ بِقَوْمٍ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خَاصَّةً بَلْ تَعُمُّهُ وَالصَّالِحَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ اتِّقَاؤُهَا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ أَضْرَارَ حُلُولِهَا تُصِيبُ جَمِيعَهُمْ".
 
عباد الله: لم تعد المنكرات خافية, ولم تعد الفواحش تعمل في الخفاء, فأصحاب المنكر يجاهرون ويفاخرون, يسجلون وينشرون, يتداعون للفجور ويتواصون, فأين أهل الحق من قول كلمة الحق؟! وأين أهل الغيرة من الانتصار للطهر والفضيلة؟! ولا يكون ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبذل النصيحة للخلق, والأخذ على أيدي الفساق, فلو كان الناس ينكرون المنكرات, ويغضبون لرب الرض والسموات؛ لأخفى العاصي معاصيه, واستخفى الفاجر بفجوره, وقبُح المنكر في نفسه, وخشي أن يطلع عليه الناس.
 
إنه مع التطور الذي حصل في وسائل الاتصال, استخدم بعض المسلمين هذه الوسائل لإشاعة الفاحشة, ونشر المنكر, في ملتقيات الفحش, وبرامج الرذيلة, يجتمعون فيها على المنكرات, ويتواصون بالفواحش والموبقات, ويتباهون بالكبائر المهلكات, قال -صلى الله عليه وسلم-:  "كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرَّجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويُصبِح يكشف سترَ الله عنه"(متفق عليه), قال الحافظ ابن حجر: "مَن قصد إظهار المعصية والمجاهرةَ، أغضب ربه فلم يستره، ومَن قصد التستر بها حياءً من ربه ومِن الناس، مَنَّ الله عليه بستره إياه", وقال الإمام ابن بطال: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف".
 
عباد الله: إن هناك ارتباط وثيق بين هذه الأمراض والأوبئة التي تظهر للناس بين الحين والآخر, وبين إعلان الفواحش والمجاهرة بها, إذا أعلن الناس الفاحشة ابتلاهم الله بهذه الأوبئة, وهذا واقعٌ لا يكاد ينكره أحد, فالأوبئة الفتاكة المستعصية على علاج الأطباء تتعاهد الناس بالزيارة, وكلما اختفى مرضٌ ظهر آخر, وهذا مصداق حديث الذي لا ينطق عن الهوى, حين قال عليه الصلاة والسلام: "لمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بها إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ", ونحن نشاهد اليوم أن الفواحش لم يعد يعلن بها فقط, وإنما يعلنونها مفتخرين بفعلها, مشجعين الآخرين على الوقوع فيها, سبحان الله! كأن هؤلاء حيواناتٌ لا بشر, لا خجل ولا حياء!.
 
هذا الوباء الجديد الذي غزا العالم ليذكِّر الناس بقدرة الله تعالى وشدة بطشه, فتك بمئات الآلاف من البشر موتاً, والملايين مرضى, كم فقدنا في بلادنا من أطباء!, وكم فقدنا من أحبة وأخلاء!, المقابر مفتوحة يوميا تستقبل المزيد من الضحايا, والمستشفيات مزدحمة بالمرضى, والأطباء حيرى؛ لا ترياق ينفع, ولا علاج يفيد!, ألا هل من معتبر من هذا الحال؟!.
 
كورونا رسالة الله للخلق, فليحذر المؤمنون أن يولوا عن هذه الآية معرضين, فإن الله تعالى يقول عن الكافرين: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4], ويقول سبحانه محذراً من القسوة والغفلة, وحاثاً على أخذ العظة والعبرة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44].
 
علينا أن ندرك أن التوبة هي أول خطوات دفع البلاء, ورفع الوباء, التوبة من المجاهرة والإعلان بالمعاصي والفواحش؛ الزنا وعمل قوم لوط, ثم التضرع والدعاء لمن بيده دفع الضر والبلوى, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالله يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}.
 
توبوا إلى ربكم, وتضرعوا إليه استغفروه؛ إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
 
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
 
أيها المؤمنون: رغم التحذيرات من خطورة هذا المرض, والتوجيهات للوقاية منه, إلا أنه وللأسف وعي الناس لازال صفرا لا يتحاشون من أي اجتماعات ولا يتخذون أي سبيل للوقاية, ويتحايلون على جميع الإجراءات التي تتخذها السلطة لحمايتهم من انتشار المرض.
 
حين صدر قرار تحديد عدد المدعوين لعقد القران بخمسة عشر شخصا تتم العقود في غرفة صغيرة بالعدد المحدد بينما المئات ينتظرون خارج البيت لتقديم التهاني ومعانقة العريس بالأحضان والقبل!!.
 
ألا نعلم ان عرسا واحدا نشر المرض في محافظة بالأردن وأصبح المئات حاملين للفيروس فما بال الناس يستهترون غير مبالين فلا طرق للوقاية ولا حدّ للاجتماعات, فالعادات الاجتماعية وإن كانت حسنة في حد ذاتها لكنها قبيحة في هذا الظرف.
 
اجتماعات في الأعراس.. اجتماعات في المقابر .. اجتماعات في الأسواق والمقاهي والمناسبات.. اجتماعات واجتماعات ويتخللها مصافحات ومعانقات دون اي وسيلة وقاية فلا عجب أن يحصد المرض أرواحا في دورة عجلته.
 
على الناس ان يدركوا ان الحكومات في العالم قد وصلت إلى قناعة أن المواطن هو الاساس في محاربة المرض والحد منه باتباع الإرشادات الوقائية وان موضوع الحظر والمنع والإغلاق من المستحيل تطبيقه إلى أجل غير مسمى.
 
فإذا أدركنا ذلك عرف كل منا دوره وصرنا سببا في الحد من انتشار المرض لا سببا في زيادته وإطالة عمره, فأعينوا الأطباء في عملهم, والجهات الصحية في مهامها, وجنبوا انفسكم ومن تحبون ألم المرض والفقد, صلوا الأرحام بالاتصال والسلام, تسامحوا ولا تتصافحوا, تقابلوا ولا تتقاربوا, ومن شعر بمرضٍ فليعتزل اجتماعات الناس ولا يضرهم, اعملوا بأسباب الوقاية وتوكلوا على ربكم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}, واعلموا انه لن يصيبكم إلا ما قدره الله لكم.
 
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
 
المشاهدات 802 | التعليقات 0