الصلاح في القرآن || الدكتورة: هيا علي محمد الدعوم
الفريق العلمي
1438/07/01 - 2017/03/29 10:04AM
الصلاح في القرآن
مفهوم الصلاح.
أنواع الصلاح.
صلاح الخلق.
الدكتورة: هيا علي محمد الدعوم
مفهوم الصلاح.
أنواع الصلاح.
صلاح الخلق.
الدكتورة: هيا علي محمد الدعوم
[align=justify]الصلاح في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
أول مراتب الإيمان هي ظهور الصلاح على المؤمن، ولمس أثره في من حوله من أهل وعشيرة وجميع البشر، وحتى على الشجر والأحياء كلهم، وهذا ما لمسنه في الذي أرسل رحمة للعالمين، محمد صلى الله عليه وسلم، ونجد أن الإيمان لا ينفصل عن الصلاح، وصورة الصلاح العمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرة الإيمان ونتيجته، وهو مظهر للإيمان أمام الآخرين؛ ولأن العمل الصالح هو الترجمة الفعلية للإيمان والتطبيق العملي للإيمان، ولا تتم حقيقة الإيمان إلا بالعمل الصالح وهذا ما أكدته الآيات القرانية فحيثما ذكر الإيمان ذكر العمل الصالح. فالإيمان ليس فقط مشاعر مجردة عن العمل، بل هو مشاعر مرتبطة بالعمل الصالح، والصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان ومستقر الإيمان في القلب.
أولاً: الصلاح في اللغة
جاء في كتب اللغة تحت مادة:صلح:الصَّلاح ضدّ الفساد صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً، الصلاح, والمصلحة واحدة المصالح والاستصلاح نقيض الاستفساد, وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه, وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت، صُلُوحُ وهو صالح وصَلِيحٌ، والجمع صُلَحاءُ وصُلُوحٌ وصَلُح كصَلَح، ورجل صالح في نفسه من قوم صُلَحاء ومُصْلِح في أَعماله وأُموره، وقد أَصْلَحه الله وربما كَنَوْا بالصالح عن الشيء الذي هو إِلى الكثرة.
والصُّلْحُ هو إنهاء الخصومة وإنهاء حالة الحرب والسلم وقد يوصف بالمصدر فيقال هو صلح لي وهم لنا صلح مصالحون، والصلح أيضا: تَصالُح القوم بينهم، والصالح هو المستقيم المؤدي لواجباته، والصُّلْحُ بالضم السِّلْم وقد اصْطَلَحُوا وصالحوا واصَّلَحُوا وتَصالحوا واصَّالحوا مشدّدة الصاد قلبوا التاء صاداً وأَدغموها في الصاد بمعنى واحد وقوم صُلُوح مُتصالِحُون كأَنهم وصفوا بالمصدر والصِّلاحُ بكسر الصاد مصدر المُصالَحةِ والعرب تؤنثها والاسم الصُّلح يذكر ويؤنث( ).
ثانيًا: الصلاح في الاصطلاح
عرف الصلاح في الاصطلاح بتعريفات عدة أبرزها:
أولا: ما ذكره الألوسي بأن الصلاح عبارة عن الاتيان بما ينبغي والاحتراز عما ينبغي( ).
ثم قال رحمه الله:"وهو جامع لكل خير وله مراتب غير متناهية، ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام. " كما قال سليمان -عليه السلام-: قال تعالى: (... وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل:19] ( ).
ثانيًا:ما ذكره الأصفهاني بأن الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة "( ).
ثالثا: ما ذكره ابن تيمية بأنه إذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير, وكذلك الفساد يتناول جميع الشر"( ).
قلت: وبناء على ما تقدم يلحظ أن الصلاح يشمل كل معاني الاستقامة والخير، فلا معصية ولا فساد، ولا ظلم ولا طغيان، قال ابن الشيخ: " الصلاح الكامل هو أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية وهو درجة عالية يطلبها كل نبي وولي وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً وتارة بإزالة ما فيه من الفساد والأول أعز وأندر ولذلك جاءت أوائل الأحوال لأكثر الرجال متكدرة مشوبة وبالحجب الكثيرة مصحوبة ( ). "
وقال بعض العلماء" في فطرة الإنسان: أنها قوة يعقل بها طرق الصلاح والفساد ويفقه بها الحق والباطل, ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقل وحدها بتمييز المعروف من المنكر, وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه فإنها- وإن بلغت في الإدراك أشدها- قد تنبو عن الحق, ويعزب عنها وجه المصلحة, ولا تهتدي إلى عاقبة العمل, وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى فتحسبها سيئة, وقد يتراءى لها الشر في شبه من الخير فتتلقاه بالقبول ( )."
وعليه فالصلاح يعني أن لا تعصي الله تعالى فيما أمر، ولا تفعل ما نهى عن فعله، ولا تقل ما نهى عن قوله، وتلتزم الصراط المستقيم في افعالك واقوالك، وبذلك تكون إنسانا صالحا في ذاته، طهر نفسه من الخبث وهذبها، حتى اصبحت نفسا طيبة صالحة، وهذه درجة عالية رفيعة المقام يطلبها الرسل عليهم السلام والأولياء، أو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة ويأتي بعد الإصلاح الذي هو جعل الأمر على تلك الحالة.
الصلاح في الاستعمال القرآني
ذكر القرآن الكريم الصلاح ومشتقاته المختلفة في مواضع عديدة، فوردت كلمة الصالحات في واحد وستين موضعًا، وكلمة(صالحا) في ستة وثلاثين موضعًا، والفعل الماضي صلح في موضعين( الرعد23، وغافر8)،والفعل الماضي أصلح في ثمانية مواضع(المائدة39، الأنعام48،الأنعام54الأعراف35،الأعراف142،الشورى40، الأحقاف15)، والفعل الماضي (أصلحوا) بالجمع في ستة مواضع (البقرة160، آل عمران89، النساء 146، الأنفال1، النحل11،النور5)، والفعل المضارع (يصلح) في يونس81، والأحزاب71، وفعل الأمر( أصلِح) مرتين في الحجرات9، و10، والجمع (مصلحون) في البقرة11، وهود117، و(المصلحين)في الأعراف170، والقصص19. والصلح بالمصدر مرتين في النساء128.
لفظ الصلاح عند علماء الوجوه والنظائر
حقيقة فسر علماء الوجوه والنظائر الصلاح على عشرة أوجه هي: " الإيمان: حسن المنزلة – الرفق –تسوية الخلق والصورة – الإحسان – الطاعة – الأمانة – بر الوالدين – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الحج( ).
أولا: الصلاح بمعنى الإيمان ؛قال تعالى (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [ الرعد: 23] يعني ومن آمن من آبائهم، وكقوله تعالى؛ (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [ النور: 32] اي بمعنى المؤمنين، وقال عن سليمان -عليه السلام- (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19] أي عبادك المؤمنين. وقوله في يوسف -عليه السلام- (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] يعني المؤمنين من آبائه.
ثانياً: الصلاح بمعنى حسن المنزلة؛ قال تعالى (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [ يوسف: 9 ] أي تحسن منزلتكم عند أبيكم. وقال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام- (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [ البقرة: 130]، أي في المنزلة عند الله تعالى؛ ومثلها في سورة النحل وقوله تعالى ( فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [ العنكبوت: 27 ] بمعنى في المنزلة، وكلها في إبراهيم -عليه السلام-.
ثالثاً: الرفق؛ قوله تعالى (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [ القصص:27]؛ اي رفيق بك، وقوله تعالى (وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [ الأعراف: 142]، بمعنى أرفق بهم.
رابعاً: الصلاح بمعنى تسوية الخلق؛ قال تعالى (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) [ الأعراف: 189-190] يعني سوي الخلق صورة الإنس.
خامساً: الصلاح بمعنى الإحسان قال تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [ هود: 88 ] الإحسان ما استطعت.
سادساً: الصلاح بمعنى الطاعة؛ قال تعالى (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [ البقرة: 11]، أي مطيعون لله تعالى. في الأرض. وقوله تعالى (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )[ الأعراف: 56]، يعني بعد الطاعة. وقال تعالى (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [الشعراء: 227] أي بمعنى فعلوا الطاعات ومثل هذا كثير في القرآن الكريم.
سابعاً: الصلاح بمعنى الأمانة؛ قال تعالى (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف: 82] أي بمعنى أنه صاحب أمانة
ثامناً: الصلاح بمعنى بر الوالدين؛ قال تعالى (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) [الإسراء: 25] أي بارين بأبويهم.
تاسعاً: الصلاح بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117] أي من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
عاشراً: الصلاح بمعنى الحج؛ قال تعالى (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) أي احج وأقوم بمناسك الحج. وأظن المقصود هنا هو أن الحج المبرور ثوابه مغفرة كل الذنوب السابقة فيعود من حجه؛ إذالم يرفث ولم يفسق كيوم ولدته أمه.
لفظ الصلاح على جهة العموم في القرآن الكريم:
أولاً: الصالح: المستقيم المؤدي لواجباته؛ الصلاح: الاستقامة، والسلامة من العيب والصلاحية للعمل: حسن التهيئ له ( ).،قال تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 102] ( ).
ثانيًا:الصالحون مع أهل الدرجات العُلا في الجنة؛ قال -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69]
ثالثاً: إصلاح العمل أمان من المخاوف والأحزان؛ قال سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام: 48].
رابعًا: الإصلاح سبب من أسباب رحمة الله ومغفـرته؛ قال سبحانه: (.... وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 129]، وقال جل وعلا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا (25)) [الإسراء: 25].
خامساً: المصلحون أجرهم محفوظ عند الله تعالى؛ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
سادساً: الصالحون يستحقون ولاية الله؛ قال جل وعلا: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)،[الأعراف: 196]، والله تعالى ينجي أهل البلاد إن كان غالب حال أهلها الصلاح، والعكس بالعكس، قال جلَّ وعلا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، و عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعاً يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَـرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»( ).
سابعاً: الصلاح يوجـب وراثـة الأرض قـال سبحانه: (... أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ) [الأنبياء: 105] . ويبين الله تعالى أن ربما أفسد بعضهم الأرض بعد أن صلحت، فيأتي الفساد بعد الإصلاح.، قال تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) [الأعراف: 56].
وحذر القرآن من ادِّعاء الصلاح والإصلاح دون عمل نافع؛ فقال تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة: 11]
والصلاح هو إيمان وإذعان؛ قال تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِـحِينَ)[العنكبوت: 9] فالإصلاح التغيير إلى الأفضل، فهو انتقال من درجة إلى درجة ارقي وأفضل، قال شعيب -عليه السلام-، قال تعالى: (...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
الالفاظ ذات الصلة.
أولاً: الإصلاح لغة واصطلاحا.
الإصلاح لغةً: لقد قرن المعنى بالضد وهو الفساد ومن الضد يعرف الشيء، والحقيقة إن الإصلاح مرتبط بوجود الفساد، والفساد مرتبط بالإصلاح وسنعرف هذا الأمر من خلال المعاني التي قالها أهل اللغة.
صلح، يصلح، ضده الإفساد صلاحاً، وصلوحاً: صلح. فهو صليحٌ. أصلح في عمله أو أمره: أتى بما هو صالح نافع. والشيء: أزال فساده. وأصلح بينهما، أزال ما بينهما من عداوة وشقاق، قال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [ الحجرات: 9 ] فكان الإصلاح بعد الاقتتال فهو لاحق للقتل الذي هو فساد، (صلح) الصَّلاح ضدّ الفساد صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً، الصلاح, والمصلحة واحدة المصالح والاستصلاح نقيض الاستفساد, وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه, وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت، ومُصْلِح في أَعماله وأُموره وقد أَصْلَحه الله وربما كَنَوْا بالصالح عن الشيء الذي هو إِلى الكثرة.، والصُّلْحُ تَصالُح القوم بينهم والصُّلْحُ السِّلْم وقد اصْطَلَحُوا وصالحوا واصَّلَحُوا وتَصالحوا واصَّالحوا مشدّدة الصاد قلبوا التاء صاداً وأَدغموها في الصاد بمعنى واحد وقوم صُلُوح مُتصالِحُون كأَنهم وصفوا بالمصدر، واسْتَصْلَحَ: نَقيضُ اسْتَفْسَدَ ( ).
الإصلاح اصطلاحاً: بعد بيان الإصلاح لغة نأتي إلى بيان الإصلاح اصطلاحاً مع العلم أن الإصلاح هو دعوة الانبياء صلوات الله عليهم، فقيل " هو استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل "( ).
وقال آخر: معرفا الإصلاح " التغيير والتعديل نحو الأفضل لوضع شاذ أو سيء، ولا سيما في ممارسات وسلوكيات مؤسسات فاسدة، أو متسلطة، أو مجتمعات متخلفة، أو إزالة ظلم، أو تصحيح خطأ أو تصويب اعوجاج "( ).، "الإصلاح تلافي خلل الشيء ( ). "
فالإصلاح هو: تبديل وضع قائم فيه فساد وظلم وسوء إلى وضع آخر أفضل فيه صلاح وعدل واستقامة وتصويب الأخطاء الموجودة.
ثانياً: الفرق بين الصلاح والإصلاح.
قيل أن الصلاح متعلق بإصلاح النفس, والإصلاح متعلق بإصلاح الغير, وإذا أفرد كل واحد منها وأطلق فإنه يشمل الآخر على قاعدة: "إذا اجتمعا تفرقا, وإذا تفرقا اجتمعا". أما في خصوص مرجعية الإصلاح فنقول: هناك من هو مصلح يريد الإصلاح حقيقة وهناك من هم مقيم على الفساد والإفساد, والضابط الذي يميِّز بينهما هو كتاب الله جل وعلى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الصحابة الكرام, إذ الإصلاح كله مضمن فيما جاء به الشرع أو دل عليه وأرشد إليه, أو قبله, فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع معتمدا على مجرد عقله فهو مفسد وإن ادعى غير ذلك ( ).
فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع معتمدا على مجرد عقله فهو مفسد وإن ادعى غير ذلك، لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه بعض الصلاح والإصلاح في بعض الأمور, لكنها لا تستقل بإدارك الصلاح كله في الأمور جميعها. لأحد يدعو إلى الإصلاح عن الرجوع إلى الشرع والركون إليه والانطلاق منه, وهذا هو الفيصل بين المصلح والمفسد فإن الذي لم يجعل الشريعة دليله وقائده بل جعلها وراءه ظهريا فهو مفسد يقيم على الفساد ويدعو إليه وإن زعم أنه من دعاة الإصلاح! وهذا هو حال المنافقين فهم يفسدون ويزعمون أنهم يصلحون ( )،كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11].
إن الإصلاح لا يكون إلا من المصلح، والمصلح لا بد ان يكون من أهل الصلاح، فالصلاح أولا صفة مترسخة في الفرد أما الإصلاح فهو عمل من فرد صالح أو جماعة صالحين يصلحون ما فسد، ويقمون بعمل إصلاحي.
ثانياً: الفساد.
الفساد لغةً واصطلاحاً:
الفساد لغةً (فسد) الفسادُ نقيض الصلاح فَسَدَ يَفْسُدُ ويَفْسِدُ وفَسُدَ فَساداً وفُسُوداً فهو فاسدٌ وفَسِيدٌ فيهما ولا يقال انْفَسَد وأَفْسَدْتُه أَنا وقوله تعالى ويَسْعَوْنَ في الأَرض فساداً نصب فساداً لأَنه مفعول له أَراد يَسْعَوْن في الأَرض للفساد وقوم فَسْدَى كما قالوا ساقِطٌ وسَقْطَى قال سيبويه جمعوه جمع هَلْكى لتقاربهما في المعنى وأَفَسَدَه هو واسْتَفْسَد فلان إِلى فلان وتَفَاسَدَ القومُ تدابَرُوا وقطعوا الأَرحام، واستفسد السلطانُ قائدَه إِذا أَساء إِليه حتى استعصى عليه، والمَفْسَدَةُ خلاف المصْلَحة والاستفسادُ خلاف الاستصلاح وقالوا هذا الأَمر مَفْسَدَةٌ لكذا أَي فيه فساد قال الشاعر إِنَّ الشبابَ والفَراغَ والجِدَهْ مَفْسَدَةٌ للعَقْلِ أَيُّ مَفْسَدَهْ، وقوله عز وجل ظهر الفسادُ في البرّ والبحر الفساد هنا الجَدْب في البرّ والقحط في البحر أَي في المُدُن التي على الأَنهار هذا قول الزجاجِيِّ ويقال أَفْسَدَ فلان المالَ يُفَسِدُه إِفْساداً وفَساداً والله لا يحب الفساد وفَسَّدَ الشيءَ إِذا أَبَارَه ( ).
الفساد اصطلاحاً: " أخذ المال بغير حق ( ). "
الفساد: انتقاض صورة الشيء"، الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة، يقال: فسد فسادا وفسودا "( ). الفساد عند الحكماء: زوال الصورة عن المادة بعد أن كانت حاصلة.وعند الفقهاء: ما كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه، وهو مراد للبطلان عند الشافعي، وقسم ثالث مباين للصحة والبطلان عند الحنفي. واعلم أن الفساد في الحيوان أسرع منه إلى النبات، وإلى النبات أسرع منه إلى الجماد لأن الرطوبة في الحيوان أكثر، وقد يعرض للطبيعة عارض فتعجز الحرارة بسببه عن جريانها في المجاري الطبيعية الدافعة لعوارض العفونه فتكون العفونة بالحيوان أشد تشبثا منها بالنبات فتسرع فساده، وذلك حكمة قول الفقهاء يقدم ما يسرع فساده فيبدأ بالحيوان، فساد الوضع: أن لا يكون الدليل على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم. وفساد الاعتبار: أن يخالف الدليل نصا أو إجماعا، وهو أعم من فساد الوضع ( ).
ثالثاً: الغي
الغي لغةً واصطلاحاً:
الغي لغةً: " الغيُّ: (غَوِيَ) الْغَيْنُ وَالْوَاوُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ بَعْدَهُمَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الرُّشْدِ وَإِظْلَامِ الْأَمْرِ، وَالْآخَرُ عَلَى فَسَادٍ فِي شَيْءٍ. فَالْأَوَّلُ الْغَيُّ، وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ، وَالْجَهْلُ بِالْأَمْرِ، وَالِانْهِمَاكُ فِي الْبَاطِلِ. يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا الفسادُ، قَالَ: وَقَوله: (وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121]، أَي: فسد عَلَيْهِ عيشه، قَالَ: والغَوَّةُ والغَيّةُ واحدٌ. وَقَالَ اللَّيْث: مصدرُ غوَى الغَيُّ، قَالَ: والغوايةُ: الانهماك فِي الغَيِّ، وَيُقَال: أغواهُ: إِذا أضلَّهُ. قَالَ الله جلّ وَعز: (إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) [الصافات: 32] أي: "أضللناكم وكنا ضالين، ولكن هذا الضلال كنتم على استعداد له، فلم تكونوا مؤمنين من قبل حقاً، فالمؤمن الحق لو نشر بالمناشير ما ارتد عن دينه، لو أغري بتيجان الدنيا وعروشها لما غير دينه، ولكنكم في الأصل كنتم مهيئين للكفر، كنتم مهيئين لعدم الإيمان، طمعتم في قليل من الدنيا، مال أو منصب، فنحن وأنتم الآن سواء، أنتم غاوون، ونحن غاوون، أنتم ضالون ونحن ضالون ( )"، والتغاوي هُوَ التجمُّع والتعاوُن على الشرِّ وَأَصله من الغوَايةِ أَو الغَيِّ( )".
الغي اصطلاحاً: " الضلال والجهل من اعتقاد فاسد " ( ). الإغواء: الدلالة على الفساد، دللناكم على طريق الغواية وطريق الشر فذهبتم إليه.(إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) أي: كنا ضالين حين دللناكم على الشر ففعلتموه. ( )
ثانياً: الفرق بين الغي والفساد:
أن كل غي قبيح ويجوز أن يكون فساد ليس بقبيح كفساد التفاحة بتعينها ويذهب بذلك إلى أنها تغيرت عن الحال التي كانت عليها، وإذا قلنا فلان فاسد إقتضى ذلك أنه فاجر وإذا قلت إنه غاو إقتضى فساد المذهب والاعتقاد" ( ).
أنواع الصلاح
الصلاح نوعان صلاح الخلق – الأنس والجن – وصلاح الأعمال.
صلاح الخلق ويتضمن صلاح الأنس وصلاح الجن.
أولاً: صلاح الأنس.
إن الخلق هم الجن والأنس، ونبدأ الكلام عن الإنسان رغم أن الله تعالى خلق الجن قبله؛ وذلك لأن الإنسان تحمل الأمانة وفرض عليه الله تعالى من أجل ذلك أمور، إذا قام بها له الثواب وإذا قصر فله العقاب على ذلك، أما المخلوقات الأخرى التي خلقها الله عز وجل فقد رفضت حمل الأمانة وأختارت الطاعة لله فقط فلا حساب عليها، وقد سخرها الله عز وجل لهذا الإنسان جزاء له على حمل الأمانة.
قال تعالى( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الاحزاب: 72] والأمانة هي العبادة " الأمانة: تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الاقوال، والفرائض التي افترضها الله على العباد، هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والارض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها، فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، ومن الأمانة نشر العدل في الأرض، والسعي في الإصلاح بين الناس، وعدم الظلم والأذى، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهم ( )".
ونتيجة حمل الإنسان الأمانة وقبولها حملها، كانت هي سبب في تفضيل الإنسان على الملائكة والجن وسائر المخلوقات، و الملائكة وإن حصل لهم المحبة في الجملة لكن محبتهم ليست بمبنية على المحن والبلايا والتكاليف الشاقة التي تعطي الترقي إذ الترقي ليس إلا للإنسان فليس المحنة والبلوى. أنها الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سماه بالأمانة لأنه من صفات الحق تعالى فلا يتملكه أحد وهذا الفيض إنما يحصل بالخروج عن الحجب الوجودية المشار إليها بالظلومية والجهولية وذلك بالفناء في وجود الهوية والبقاء ببقاء الربوبية ( ).
وصلاح الخلق –الجن والأنس – هو عبادتهم لله كما بين ذلك في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )، [الذريات: 57] ؛ وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها. و لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً ؟ إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة كونه مريداً لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
فهل هذه العبادة التي خلقنا الله لها ومن أجلها قد قمنا بها حق القيام أو بعض القيام؟ وهل استغفرنا الله على النقص وعملنا جهدنا في بعض، عسى الله أن يغفر ذنوبنا؟ وأعظم شيء أن يعيش الإنسان موحداً وأن يموت موحداً، فيعبد الله ولا يشرك به أحداً، ويصدق رسله، ويصدق كتبه فمهما كان فهو إلى مغفرة في النهاية، إما بعد أدب وعذاب في النار، وقد يغفر ذلك بلا عذاب ولا نار، والله تعالى لا يسأل عما يفعل ( ).
( مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذريات: 57] أنّ شأن الله مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا. أو مرتب في فلاحة ليغتلّ أرضاً؛ أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنيّ عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا الله وحده (المتين) الشديد القوة.المعنى في صفة بالقوة المتانة أنه القادر البليغ الإقتدار على كل شيء ( ).
فالهدف من خلق الخلق هو العبادة لله تعالى باختيارهم لها وليس اجبارهم عليها، ولو أرادها الله تعالى منهم غصبا لجعل ذلك، ولكنه سبخانه وتعالى اعطى لهم الاختيار ولذلك عليهم الحساب على اختاروا.
قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [سورة الروم: 30] ومن لطف الله بعباده، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه بالفطرة، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها ( ).
الإنسان مخلوق تباهى به الله أمام خلقه الأخرين وقد مدح هذا المخلوق قائلا عز وجل (لقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )[ التين: 3] " أي خلق الإنسان في أحسن صورة، وشكل منتصب القامة، سَويّ الأعضاء حسنها ( )". وقال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ )[ البلد: 4] " والكبد: الاستواء والاستقامة. ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما ( ) "؛ وربما كان الكبد المحبة والشفقة عليه والرحمة به، ذلك أن الله ارحم بعبده من أمه الذي هو فلذة كبدها.
فإقامة الدين على الأرض هو العبادة وهو العمل الذي كلف به الإنسان من خالقه، وإن حاد عن هذا العمل وتركه تكاسلا أو تعمدا وكفرا، نال العقوبة في الدنيا والآخرة ذلك. وإذا أقام الدين وعبد الله كما أمر نال الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وهذا وعد الله تعالى لخلقه ولن يخلف الله عز وجل وعده.
ثانيا: صلاح الجن
لقد علمنا فيما سبق من بيان أن الجن مكلف بالعبادة كما الأنس، فهل عليه حساب وله جزاء على عمله، في الدنيا الحد والقصاص، وفي الآخرة الجنة أو النار كما الأنسان ؟ "و هل للجن ثواب كما للإنس ؟ قد اختلف فيه فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، لقوله تعالى: (وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله؛ وقيل أنهم في حكم بني آدم، لأنهم مكلفون مثلهم (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى
الاْرْضَ) أي: لا ينجي منه مهرب، ولا يسبق قضاءه سابق ( ). ونحوه قوله تعالى: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً) [الجن: 12]. والآن نبين ما جاء في التفاسير حول صلاح الجن:
أولا: أن الجن يسمون جناً لاستتارهم، بمعنى أنهم لا يرون بالعين، والجذر اللغوي لكلمة (جن) يدل على الاستتار، ولذلك يسمى الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت جنة عدن -أدخلنا الله وإياكم إياها- بذلك لأنا لم نرها.
ثانيا: أن الجن موجودون، وهذا رد على كل من أنكر وجود الجن من الملاحدة أو بعض الفلاسفة، وأن الله خاطبهم بالقرآن في قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن:13].
( ).
ثالثا: أن الرسالة المحمدية للإنس والجن، وأن القرآن الكريم كتابهم، قال تعالى (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)) [الجن: 1-7]
فهؤلاء مؤمنوا الجن الذين سمعوا القرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد حدث هذا كله والنبي -صلى الله عليه وسلم- -على ما تدل عليه ظاهر الآية- لم يرهم، وهو عليه الصلاة والسلام بشر لا يعلم الغيب، فأوحى الله إليه بعد انصرافهم أن الجن استمعت إليه، وهذا الوحي من الله جاء مرتين: المرة الأولى في قوله جل وعلا: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) [الأحقاف:29].والمرة الثانية في قوله -تبارك وتعالى-: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) [الجن:1]، فهذا مدخل لمفهوم سورة الجن، وهذا هو أصل القصة ومبناها( ).
ومعنى قول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف:29].
( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) [الجن: 11] ومعنى هذا في كتب التفسير " أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون، ومنا دون ذلك " أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الايمان والشرك ( ).
رابعا: الجن جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة، والقِدَّة: القطعة من الشيء، يقال: صار القوم قددًا إذا اختلفت حالاتهم، وأصلها من القَدّ وهو القطع. مسلمين وكافرين ولهم أهواء مختلفة، فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة، شيعًا وفرقًا لكل فرقة هوى كأهواء الناس.. (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم (وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) الجائرون العادلون " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك " هذا من قول الجن، أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء، أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.وقيل: مِنَّا الصَّالِحُونَ (منا الأبرار المتقون) وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ (ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا الطالحين ( ) ".
وقال غيرهم من المفسرين: " أن الجن ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليس بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون، ثم تلطفوا فقالوا: ومنا دون ذلك، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإرشاد إلى الخير ( ).
وكما تقدم نلاحظ أن الجن منهم الصالحون الذين يأتمرون بما أمر الله ويتناهون ما نهى الله عنه؛ ومنهم ضعيف الإيمان، ومنهم أيضا الفرق كالرافضة والمرجئة وغير ذلك من الفرق ولغاتهم متعددة إيضا الانجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات، ومنهم العرب ومنهم العجم؛ ومنهم الطيب والفاسق والخبيث ( )..
والجن المسلم له دية إذا قتل خطأ وله القصاص إذا قتل عمدا، " عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لاقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة).
فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى ! قال: فجئنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: (استغفروا لصاحبكم )- ثم قال: - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان) ( ).
وقد روي من وجوه أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا. ( ).
وهذا يدل على أن الجن لها حقوق في الدنيا، وحفظ الله لها حياتها ولا يحق لأحد أن يتعدى عليها إلا بالحق إذا كانت مسلمة وتهدر الحقوق بالكفر؛ وقد أفرد الله تعالى سورة في القرآن بإسم الجن تبين أنهم استمعوا للقرآن وقد دعاهم الرسول -عليه السلام- إلى الإسلام، مما يعني أنهم مكلفون بالإسلام وعبادة الله على منهج الإسلام.
وفي قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (132) قوله تعالى: (ولكل درجت مما عملوا) أي من الجن والإنس، كما قال في أية أخرى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [الأحقاف: 18] ثم قال: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف: 19]. وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار؛ كالإنس سواء. وهو أصح؛ وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار، كالإنس سواء ( )."
وهذه أقوال المفسرين على أن الجن مخلوقة مكلفة، ومنها ما هو الصالح ومنها غير ذلك، وقد آمن بعضهم برسالة الإسلام ومن قبل ذلك برسالة موسى -عليه السلام-، وهذا أيضا ما يثبت في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذرايات: 56]، فإذا كلف بالعبادة لا بد أن يكون هناك جزاء في الدنيا والآخرة على هذه العبادة وهذا ما يتوافق العقل والنقل.
صلاح الأعمال
حكمة ارتباط الإيمان بالعمل الصالح
الإيمان والعمل الصالح جملة متلازمة مع بعضها البعض، فإينما يذكر الإيمان يذكر العمل الصالح مقترنا به، وما هذا إلا دليل الارتباط الوثيق بينهما، وتأكيدا على أن الإيمان بدون عمل صالح ليس له ثواب والله تعالى أعلم، وهذا ما نراه في الآيات التي وردت في القرآن الكريم وهس كثيرة لا مجال لذكرها هنا بل ندلل منها بقدر يفي بالموضوع إن شاء الله.
إن ارتباط العمل الصالح بالإيمان، قد ورد في آيات كثيرة، منه قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد: 29 )، وطوبى هي كما قال بعض المفسرين الفرح والغبطة وقرة عين ونعم لهم أو الجنة، وهم الذين أنابوا الى الله ورجعوا اليه واطمأنت قلوبهم بذكره، وعملوا الصالحاتِ، يُحسن اللهُ مآبَهم إليه، ولهم الفرحُ وقُرَّةُ العين عند ربهم، وقيل: أنها شجرة غرسها الرحمن، -تبارك وتعالى- بيده من حبة لؤلؤة، وأمرها أن تمتد، فامتدت إلى حيث يشاء الله -تبارك وتعالى-، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة، من عسل وخمر وماء ولبن ( ) .
وقوله تعالى (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) (إبراهيم: 23) وهذا جزاء الذين مع الإيمان يعملون الصالحات فلهم الجنة بهذه الاوصاف، واعطاهم الله تعالى الأذن بدخولها. وقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 9) وهنا وعد من الله تعالى لمن آمن وعمل صالحا بالمغفرة للكل الذنوب والأجر الكبير العظيم، ومن أصدق من الله وعدا ؟!
فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة.ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح ( )، وهذا الكلام الطيب عن ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، وأنه في حركة ايجابية داخلية في النفس، فالإيمان حياة والكفر موت ! وهو حركة –اي الإيمان – وعمل وبناء كله بنية خالصة لله تعالى، فالإيمان ليس فقط نوايا طيبة بل هو نهر يجري بكل الخيرات والمسرات.
وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[ النحل: 97] هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. وقد اختلف المفسرون في المقصود بالحياة الطيبة أهي حياة طيبة في الدنيا، أم حياة طيبة في الآخرة ؟ فقال بعضهم هي في الآخرة – في الجنة تحديدا – لأنها حياة بلا موت وصحة بلا مرض وراحة بلا تعب وسعادة بلا شقاء.
أما ابن كثير فقد اورد أقوال الصحابة -رضوان الله عليهم- في معنى الحياة الطيبة فقال: " والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. أو بالقناعة. وأنها السعادة.أو هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا، أو هي العمل بالطاعة والانشراح بها.والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ( ).
فالإيمان يفتقر إلى العمل الصالح ليكون اعتقادا حقيقيا إيمانيا وصادقا، والعمل يفتقر إلى الإيمان ليكون عملا متقبلا من الله تعالى، فالقرآن لا يعترف باي عمل لا يستند إلى الإيمان الخالص لله تعالى، وهذا ما جاء في صريح الآيات القرآنية قال تعالى (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) [ آل عمران: 117]،وقال تعالى أيضا (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23]،وقال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم: 18]،
وهذه صور لمن عمل الصالحات دون إيمان فلا جزاء ولا وزن لعمله مهما بلغ لأنه لا يستند للإيمان. ونلاحظ أمها صور يستطيع الإنسان تصورها ورسم هذا المعنى بصورة في الذهن حتى ترسخ وتستقر فيه فيكون بذلك أبلغ وأكثر أثرا في النفس.
أسباب صلاح الأعمال.
هناك عدة أسباب تجعل العمل صالحا ومقبولا من الله عز وجل، ومن أهم هذه الأسباب ما يلي:
أولاً: الإخلاص
الإخلاص عصب العمل وأهم الأسباب في جعل العمل مقبولا هو " الأخلاص " فهو أساس العمل وبدونه ينهار العمل فلا قيمة له ولا وزن، والإخلاص هو القاعدة الكبرى في صلاح الأعمال، وقد بين القرآن الكريم في كثير من الآيات اهمية الإخلاص منها قوله تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر: 11]، أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: (مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-/ فسر الإسلام في خبر جبريل -عليه السلام- بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله في هذه الآية: (وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ (أُمِرْتُ) لأنا نقول ذكر لفظ (أُمِرْتُ) أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً. ( ).
وقال صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية: " أنّ الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقاً. فإن قلت: كيف عطف) أُمِرْتُ (على) أُمِرْتُ (وهما واحد ؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ( ) " وحقيقة الاخلاص: هو التصفية والإنقاء، أي غير مشاركين في عبادة الله غيره ( ).
وقال ابو حيان " مخلصا: أي من كل شائبة وكدر، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن: الدين الخالص: الإسلام؛ وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله ( ). فالاخلاص عند كل الفقهاء هو: العبادة الخالصة من الشرك والرياء المتوجهة لله تعالى فقط بدون شوائب شرك ظاهر ولا خفي.
وقال تعالى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر: 14] فالإخلاص في العبادة سبب للرزق والحياة الطيبة وهي أي -العبادة لله بإخلاص - سبب لرفع الدرجات ( ). وذلك لأنه اعقبها بقوله تعالى (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ). وقد جاءت احاديث كثيرة تدل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون خالصا لله تعالى دون أن يشوبة شرك وهذا الشرط الأول والأساسي لقبول العمل ودخول الجنة، وقد روى جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام- أنه قال: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ» ( ).
ثانياً: متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام
القدوة الحسنة هي التي تجعل الإنسان يؤكد أن عمله صالح، وهي موافقة عمله لعمل النبي -عليه السلام-، والله نعالى أمرنا في كثير من الآيات إتباع الرسول -عليه السلام- واتخاذ القدوة الحسنة التي تنشئ الجيل الصالح صاحب الأعمال الصالحة لأنه اقتدى بالصالحين قال تعالى أمرا المؤمنين: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )[الاحزاب: 21]، يقولون: أُسوة، وأُخوة، وهذا عتاب من الله للمتخلفين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعسكره بالمدينة، من المؤمنين به، يقول لهم جلّ ثناؤه:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة): أن تتأسوا به وتكونوا معه حيث كان، ولا تتخلَّفوا عنه(لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللَّهَ) يقول: فإن من يرجو ثواب الله ورحمته في الآخرة لا يرغب بنفسه، ولكنه تكون له به أُسوة في أن يكون معه حيث يكون هو ( ).
وقال ابن كثير في هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي (6) صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ( ).
فالذي يقتدي ويتأسى بالني عليه الصلاة والسلام لا بد أنه يرجو الله ويخشاه ويخشى يوم القيامة والحساب، وقد جاء في موضع آخر أن من يدعي حب الله عليه أن يتبع الرسول حتى ينال شرف محبة الله تعالى. قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى) [آل عمران: 31] فمحبة الرسول لها أج