الصلاة الناهية

سامي بن محمد العمر
1443/11/03 - 2022/06/02 14:33PM
الصلاة الناهية   أما بعد: فكم مِن صاحبِ قلبٍ حيٍّ تأملَ في قولِ الله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فتوقفَ مُتسائلاً: كيف تنهى الصلاةُ عن الفواحشِ والمنكرات؟ وها هي المنكراتُ يقترِفُها أناسٌ يُصلون، ولربهم يركعون ويسجدون. كيف تنهى الصلاةُ عن الفواحشِ والمنكرات؟ ومِن المصلينَ مَن يُبادر إليها فورَ انتهاءِ صلاتِه وخروجِه من مسجدِه. هذا إشكالٌ قديمٌ؛ يُثيره الشيطانُ وأتباعُه من أهلِ الكفرِ والزندقةِ والإلحادِ بُغيةَ تشكيكِ المسلمينَ في دينهِم، وزَعزعةِ يقينِهم في كلامِ ربهم؛ وخابُوا وخسِروا؛ فكلامُ ربِّنا صدقٌ وعدلٌ، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].  ونهيُ الصلاةِ لأهلِ الفواحشِ عن فواحشِهِم لا يلزمُ منه استجابتُهم لها وامتناعُهم عن باطلِهم. فاللُه تعالى أخبرَنا أنَّ الصلاةَ تنهى، كما أخبرنا أنه سبحانه ينهى أيضاً، فقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وكثيرٌ من الناسِ "لا يَنْتَهُون، وليسَ نهيُ الصلاةِ بأعظمَ مِن نهيِهِ سبحانه وتعالى، .... وما هذا الإشكالُ إلا مبنيٌ على تَوهُّمِ استلزامِ النهيِ للامتناع، وهو توهمٌ باطلٌ وتخيلٌ عاطلٌ لا يشهدُ له عقلٌ ولا يُؤيدُه نقلٌ"([1]). لكنَّ الذي يُريدُ أن تكونَ صلاتُه ناهيةً له فِعلاً، وكابحةً لجماحِ فواحشِه حقاً وصدقاً؛ فليعلمْ أن ذلك يمرُّ بمرحلتين؛ مَن أحسنَ فيهما أفلحَ ونجحَ، ومَن أساءَ فيهما خابَ وخسِر: المرحلة الأولى: إقامةُ الصلاةِ كما أمرَ اللهُ بها ورسولُه؛ بإحسانِ وضوئِها، وحفظِ أوقاتِها وحدودِها، والمسارعةِ إليها عند وجوبِها، والحزنِ والكآبةِ والأسفِ عند فواتِ حقٍّ من حقوقِها، والتجمُّلِ لها بأجملِ الثيابِ، والطمأنينةِ وقلةِ الحركةِ فيها، وتنويعِ الأذكارِ في ركوعِها وسجودِها، وابتغاءِ الخشوعِ فيها مع تعظيمِ الربِّ ودعائِه بقلبٍ قد شعرَ بعظمةِ مَن هو واقفٌ بين يديه، فامْتلأَ إجلالاً من هيبتِه، وذلَّتْ عُنقه له، واستحى مِن ربِّه تعالى أن يُقْبِلَ على غيرِه أو يلتفتَ عنه([2]). ومَن أحسنَ في هذه المرحلة: صلَحتْ له نفسُه وتذلَّلتْ، وأَلْبسَها اللهُ من إِجلالِه ومراقبتِه سِربالَ التقوى والفلاحِ، وأغدقَ عليها مِن هِباتِه وعَطاياه ما يَشرحُ صدورَ أهلِ الصلاحِ. والمرحلةُ الثانيةُ: إدامةُ الذكرِ والتّذكرِ لتلكَ المنزلةِ العليّةِ التي نالها المصلي في المرحلةِ الأولى، فكُلّمَا همّتْ به نفسُه الأمّارةُ بالسُّوءِ؛ استشعرَ صلاتَه تلك تُنادِيه: لا تَفعلْ فقدْ صلّيتَ وأحسنتَ، لا تفعلْ فقد قُرِّبتَ وأُكرِمت، لا تفعلْ فأنتَ تعصي مَن كنتَ في صلاتِكَ تُعظِّمه، وتجترئُ على حدودِ مَن كنتَ في صلاتِكَ تَرجُوه، وتُهينُ أمرَ مَن كنتَ في صلاتِكَ تَدعُوه. فهذِهِ هي الصلاةُ الناهيةُ: مَن أخذَ بندائِها وتذكرَ؛ فازَ برضوانِ ربِه، وصبرَ على طاعتِه وبرِّه، حتى يأتيَ وقتُ الصلاةِ الأُخرى فيزدادَ من خيرِ ربِه وعطائِه، ويُكثرَ مِن شكرِه وثنائِه. وما مَثلُ المصلي معَ ربِه - وللهِ المثلُ الأعلى - إلا كمَثلِ مَن كانَ يخدمُ ملِكًا عظيمَ الشأنِ، كثيرَ الإحسانِ، حتى قرَّبَه وأدناه، ويرى عبدًا من العبيدِ قد طردَهُ الملكُ طردًا لا يُتصورُ قَبولُه، وفاته الخيرُ بحيثُ لا يُرجى حصُولُه. فيستحيلُ مِن ذلكَ المُقرَّبِ أن يترُكَ خِدمةَ الملكِ ويدخلَ في طاعةِ ذلكَ المطرودِ؛ فكذلكَ العبدُ إذا صلّى للهِ صارَ عبدًا له، وحصلَ لهُ منزلةُ المناجِي لربِهِ، فيستحيلُ منهُ أن يتركَ عبادةَ اللهِ ويدخلَ تحتَ طاعةِ الشيطانِ المطرودِ، وإنما يحمِيهِ مِن وساوسِ الشيطانِ تذكُّرُه للقُربِ مِن ربِه الذي حصَّلَهُ في الصلاةِ فيقْوَى فيه داعي الخيرِ حتى يمتنعَ عنِ المعصيةِ. اللهم اجعلنا مِن مقيمي الصلاةِ على الوجهِ الذي يُرضِيكَ عنّا بارك الله لي ولكم ..   الخطبة الثانية   أما بعد: ومثلٌ آخرُ يُقرّبُ صورةَ الصلاةِ الناهيةِ: وهو أنَّ مَن كانَ له لِباسٌ نظيفٌ رفيعُ القدرِ؛ فإنه إذا لبِسهُ تحرَّزَ تحرُّزاً شديداً مِن أن يُصيبَه قذرٌ ووَسخٌ، وكُلما كانت مادةُ ثوبِه أغلى وأرفعَ كانَ احترازُه أشدَّ وأكثرَ؛ فكذلك العبدُ إذا صلى لبِسَ لِباسَ التقوى لأنه واقفٌ بينَ يدَي اللهِ، ولباسُ التقوى خيرُ لباس، ومكانتُه في قلبِ المؤمنِ أعلى من مكانةِ الديباجِ والحريرِ، فمَن أكرمَهُ اللهُ به في صلاتِه، فإنّه سَيتَلذَّذُ ببقائِه لابِساً له حتى تأتيَ الصلاةُ التي تلِيها، وسيتذكرُ العاقلُ ذلكَ الفضلَ فيمتنعُ مِن تدنيسِ ذاكَ اللباسِ بوَسخِ الفواحشِ والمنكراتِ إِلا مَن شاءَ الله، والصلواتُ متكررةٌ؛ واحدةٌ بعدَ واحدةٍ فيدومُ هذا اللِّبسُ ويدومُ ذلكَ الامتناعُ([3]). اللهم اهدنا فيمن هديت..    

 

 

([1]) ينظر: تفسير الألوسي = روح المعاني (10/ 367)

([2]) ينظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 21)

([3]) هذا المثل والذي قبله مُلخصان من تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (25/ 61)

المرفقات

1654180403_الصلاة الناهية.docx

1654180403_الصلاة الناهية.pdf

المشاهدات 780 | التعليقات 0