الصــبر .. فضـله وثمــاره
أحمد عبدالله صالح
خطبة جمعــة بعنوان :
( الصبر .. فضله وثماره )
الحمدُ لله الذي حضَّ على الصبر وجعله مفتاحًا لأسمى المطالب، وأعظَمَ به للصابرين الأجر وأنالَهم أسنى الرغائب، وبشَّرهم بأن عليهم صلواتٍ من ربهم ورحمةً، وأنهم هم المهتدون، أستغفرُه وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل عاقبة الصبر الظفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، أقوى مَن صبر، صلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم مقتدون.
اما بعد ايها المسلمون الكرام :
نقف اليوم مع جواد لا يكبو ، وصارمٌ لا ينبو ، وجندٌ لا يهزم، وحصنٌ لا يهدم.
فالنصر معه، والفرج نهايته، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد .
إنّه (( الصبر ))
ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من كتابه؛ آمِرا به، مرغِّبا فيه مبينا عظمَ الأجر المترتبِ على هذا الخلق العظيم، مبينا أن الصابر يُوفَّى أجرَه بغير حساب؛ ولذا كان الصبر خيرَ ما أُعْطي العبدُ من عطاء، كما جاء في الحديث: " ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر".
وكان أيضاً علامة على إرادة الله بعبده الخير، كما جاء في الحديث الذي اخرجه الترمذي بإسناد حسن " إذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، أي بما يصيبه من البلاء في الدنيا بما يكون به تكفير سيئاته وعلو درجاته وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَي به يوم القيامة، أي أخر عنه العقوبة حتى يأتي يوم القيامة، فيعظم ذنبه ويضاعف جزاؤه ".
ايها الأحباب الكــرام :
أمر الله بالصبر فقال :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ).
وقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).
بل رتّب عليه خيري الدنيا والآخرة فقال:
( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ).
وأخبر عن مضاعفة أجره فقال:
(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ).
وقال ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
بل لاتنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
وفوزهم بمعية الله لهم معية التأييد والنصرة :
( إنَّ اللهَ معَ الصَّابِرِينَ ).
بل جمع الله لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم، المغفرة والرحمة والرشد إلى الصواب فقال :( أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ).
وبالصبر والتقوى علق الله النصر على الأعداء وجعله وقاية من كيد كل ظالم فقال :
(بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) وقال : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
كما جعل الله الملائكة تسلم على الصابرين في الجنة فقال : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ).
فاصبـر لكـل مصيبـة وتجـلـدِ
واعلـم بـأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبــر الكرام
فإنهـا نوبُ اليـوم تُكشَف فـي غدِ
مـن لم يصب ممـن ترى بمصيبة؟
هذا سبيل لستَ عنه بأوحـد
فإذا ذكـرت مصيبـة ومصـابهـا
فاذكـر مصابـك بالنبي محمـد
وعلى قدر إيمان العبد يكون بلاؤه؛ فأشد الناس بلاءً رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين، فكم أُوذُوا في الله، وكم تجنَّى عليهم أقوامهم فصبروا واحتسبوا، ورسموا بذلك معالم الطريق للسالكين الصابرين المحتسبين ممن أوذي في الله، وامتحن من أجل استقامته على صراط الله .
(ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت1-3].
ويتنوع البلاء وتتشكل المحن وتتلون الأرزاء؛ فمن الناس من يُبتلى بفقد الأحبة الذين يكونون له بعد الله عُدةً وأعواناً على الشدة من الإخوان والأقربين، والأبناء والأصدقاء المقربين ..
ومن الناس من يبتلى بالفقر بعد الغنى، وبالعسر بعد اليسار، وبضنك العيش وقلة الحيلة بعد ناعم الحياة وخفض العيش وبسطة الرزق وسعة التدبير.
ومن الناس من يبتلى بكساد تجارته، أو فساد عشيرته، أو خراب بيته، أو تنكر أهله.
ومن الناس من يبتلى بالأمراض التي تنغِّص عليه عيشه، وتكدِّر عليه صفو حياته، وتقعد به عن بلوغ كثير من آماله، ومنهم من يبتلى بنقيض ذلك من بسطة في المال، وحُظوة في الجاه، ورفعة القدر وسعة النفوذ، والإمداد بمتع الحياة ولذائذها، والتمكن من بلوغ أقصى الغايات فيها كما قال سبحانه : (... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
أي اختباراً وإمهالا قد يكون استدراجاً إن كان من يبتلى بذلك ممن يستعين بنعم الله على معصيته فيترك أمره، ويرتكب نواهيه كما قال سبحانه : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
وخير ما يفعل المسلم الصادق أمام كل ابتلاء الوقوف موقف الصبر والاحتساب بما قضى الله تعالى فإنّ الصبر كما قال بعض العلماء ملاك الإيمان، وزينة الإنسان، وطريقه إلى المعالي والمكرمات، إليه يسكن وبه يطمئن، وفي ساحته يستقر ويستريح، وهو مقام عظيم من مقامات الدين، ومنزل كريم من منازل السالكين، وهو في الإسلام له خطره وعِظَمُ شأنه ..
أشاد القرآن بذكره، ورتب عليه الثواب الجزيل وضاعف لأهله الحسنات؛ ليحببه إلى القلوب، ويرغب فيه النفوس؛ فما من فضيلة إلا وهو دعامتها؛ فإن كان صبراً على الشهوات سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه كان رضاً وتسليماً،
وإن كان على النعمة وشكرها كان ضبطاً للنفس وحكمة، وإن كان في قتال سمي شجاعة وقوة، وإن كان بين يدي حماقة وسفه سمي حلماً، وإن كان بكتمان سر سمي صاحبه كتوماً أمينا، وإن كان عن فضول العيش أو الحديث سمي زهداً؛ فالمرء بدونه في الحياة عاجز ضعيف لا طاقة له بما قد يثقله،
ولا حول له ولا قوة بين يدي أمر يشق عليه ".
ففي الوقوف أمام الابتلاء موقفَ الصبر خيرٌ عظيم اختُصَّ به المؤمنُ دون غيره كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" .
وفي الحديث أيضاً : "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" .
أي من رضي بقضاء الله النافذ الذي لا رادَّ له فعاقبة ذلك الرضا من الله على عبده، وأما من سلك سبيل السخط على ربه فيما دبره وقضى به من نكبة وبلاء، وشدة وعناء فإن عاقبة ذلك السخط من الله؛ جزاء سوء ظنه بالله، وعدم رضاه بقدر الله .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما: "ومن يتصبر يصبره الله".
أقول ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب انه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
أما بعد عباد الله:
جعل الله هذه الدنيا دار الفناء، ومنزل الاختبار والبلاء، فلا ينجو من بلائها غنيٌّ ولا فقير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مؤمنٌ تقي ولا كافر شقي، بل إن حظ المؤمن من البلايا أكبر، ونصيبَه أعظم؛ ليُكفِّر الله سيئاته، ويرفع له درجاته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما يُصِيب المسلمَ مِن نَصَب ولا وَصَب، ولا همٍّ ولا حَزَن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه)، النَّصَب: التعب، والوَصَب: المرض.
ايها المسلمون :
إن من رحمة الله بعبادِه أنْ أخبرهم بالبلايا قبل حلولِها، وبالمصائب قبل نزولها؛ ليُوطِّنوا أنفسهم على الصبر والتسليم، والرضا بتقدير العزيز العليم، وجعل في هذه المصائب تطهيرًا لأمراض القلوب، ورجوعًا إلى علَّام الغيوب، وتذكرةً بحقارة الدنيا وهوانها، واستصغارًا لأمرها وشؤونها، والصابرون هم الراضون بقضائه على بلائه، الذين يقولون عند صدمة المصيبة: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، ثم بشَّرهم ببشارتين: صلوات من ربهم ورحمة، وزادهم الهداية علاوةً، فنعمتِ البشارتان ونعمتِ العلاوة.
أعظمُ المصائب هي مصيبة الدين، فلْيَبْكِ على نفسه تاركُ الصلاة، وليندبْ حظَّه البخيلُ بالزكاة، وليعلم أن المال فداء النفوس، وأن النفوس فداء الدِّين، وأن ليس للدين فداء، ولا لله عِوَض؛ فمَن خسِر ماله، فليتسلَّ بنفسه ودينه، ومن خسِر دينه، فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
فيا عبدالله، إن عظمتْ مصائبك، فتسلَّ بالأنبياء والمرسلين، وتذكَّر ما أوذي به خاتم النبيين، وارضَ بحلو القضاء ومرِّه، وخيرِه وشره.
واعلم أن دنياك ظلٌّ زائل، وعَرَض حائل، إن أضحكتْ قليلًا أبكتْ كثيرًا، وإن أحسنتْ يومًا أساءت دهرًا، وما منحت سرورًا إلا خبَّأت شرورًا، ولو كانت تساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافر منها شربة ماء، فلا تتعلَّق بها حتى يعظم في قلبك أمرها، وتذكَّر عن نبي الله عيسى عليه السلام ما كان يقول : ( الحق أقول لكم : إن أشدكم حبًّا للدنيا أشدُّكم جزعًا على المصيبة، فاسعَوا فيها، ولا تغتروا بها، وجدُّوا فيها، فاحذروا منها؛ فإنها أسحر من هاروت وماروت؛ فهذان كانا يُفرِّقان بين المرء وزوجه، وهذه تفرِّق بين العبد وربه).
وأقلِلِ الشكوى إلى المخلوقين؛ فإنما كل بنفسه مشغول، وارضَ فإن مَن رضي فله الرضا، ومَن سخِط فله السخط.
فمن استرجع عند البلية، جبر الله مصيبته، وأحسن له عقباه، وجعل له خلفًا صالحًا يرضاه، ومن جزع وسخط لم يكن له إلا السخط.
اللهــم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن ايماننا وعن شمائلنا ومن وفوقنا ونعوذ بعظمتك ان نغتال من تحتنا ..
اللهمّ إنّـا نسألُك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ.
اللهمّ إنـا نسألُك العفوَ والعافيةَ في دِيننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا .
اللهمّ استُرْ عوراتنا وآمِنْ روعاتنا، ووحد صفنا، ولم شتاتنا، واجمع كلمتنا، واحقن دمائنا، وصن أعراضنا .
اللهــم شافي كل مريض، وعافي كل مبتلي، وارحم كل ميّت، واشبع كل جائع، وأغني كل فقير ، وأكسي كل عاري، وواسي كل مكروب، وأسعد كل محزون، وانصر كل مظلوم، واحمل كل عائل .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].