الصراط ، اللهم سلم سلم

مريزيق بن فليح السواط
1433/01/27 - 2011/12/22 23:24PM
الحمد الله شديد الباس، أبدع الأنواع والأجناس، لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا ما يُخفى في صدور الناس، احمده سبحانه وأشكره، وأُثني عليه ثناءً يتجدد بتجدد الأنفاس، وأشهد آن لا آله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مستقرة في القلب ثابتة الأساس، سقاها الوحي من معينه فلم تحتج مع النص إلى قياس، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أجزل له العطا، وعلى قلوب أتباعه سطا فقلب لا يحبه ميت عديم الإحساس، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه ومن صلح من آمته خير أمة أخرجت للناس.
آما بعد فيا أيها الناس : اتقوا ربكم، وراقبوه في سركم وعلانيتكم، فتقوى الله خير زاد، وهي العدة يوم المعاد .
أيها المسلمون : إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ في الصور ليقوم الناس لرب العالمين "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" يقوم الناس من قبورهم، ويبعثون إلى ربهم، ويحشرون لسؤلهم وحسابهم "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا" يقف الناس في الموقف في يوم كان مقداره خمسين آلف سنة وتدنو الشمس منهم على قدر ميل ويأخذهم العرق حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم، ثم يكون العرض والحساب والمناقشة "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون" يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبه"
عباد الله: إذا وزنت الأعمال، وتقرر الجزاء، وعرف كل إنسان مصيره أما إلى الجنة وأما إلى النار، أمر الله تعالى فنصب الصراط على متن جهنم، ليمر عليه أهل التقوى والإيمان فيصلون إلى الجنان، ويمر عليه الجاحدون والمكذبون فتخطفهم الكلاليب، فيقعون في النار وبئس المصير.
عباد الله : الطريق إلى الجنة لا يكون إلا بعبور الصراط المنصوب على متن جهنم تمشي على هذا الجسر، وجهنم بزفيرها وشهيقها، و بغيضها و حرها، وبسوادها وظلمتها تحت قدميك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ويضرب جسر جهنم فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السَّعْدَان. أما رأيتم شوك السَّعْدَان؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال : "فإنها مثل شوك السَّعْدَان غير أنه لا يعلم قدرها وعِظََمَها ألا الله، تخطف الناس بأعمالهم منهم المُوبَقُ بعمله ومنهم المُخرْدلُ ثم ينجو" .
الصراط من الأمور الغيبية التي جاء النص بها فهو حق لا مرية فيه تؤمن به إيماناً صادقاً، ونعتقده إعتقاداً جازماً، قال تعالى: "وأن منكم ألا واردها كان على ربك حتما مقضيا" قال بن مسعود وقتادة وزيد بن أسلم: هو المرور على الصراط. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "والصراط كحد السيف دحض مزلة" فهو حاد مدحضة مزلة. قال الأمام أحمد رحمه الله:والصراط حق يوضع على شفير جهنم ويمر الناس عليه. قال الحكمي يرحمه الله:
ويُنصب الجسر بلا امتراء**** كما أتى في مُحكم الأنباءِ
يجوزه الناس على أحوال **** بقدر كسبـهم من الأعمال
فبين مُجتاز إلى الجنـــان**** ومُسرف يُكب في النيران
تصور نفسك يا عبد الله في ذلك اليوم الموعود، والوقت المشهود، شديدُ الأحوال، عظيمُ الأهوال، تضعُ قدميك على الصراط وتحته جهنم تزفر وتزمجر، ويطلبُ منك أن تعبرَ هذا الجسر الحاد المزلقة. لن ينفعك حينئذ حسبُكَ ولا نسبك، ولن يُنجيك سلطانُكَ ولا مالك، ولن تُسرع بك قبيلتُكَ ولا جاهك، طوقُ نجاتك وسبيلُ خلاصك، تقوى الله، والعمل بما يرضاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يلجُ النارَ احدٌ بايع تحت الشجرة" قالت حفصة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس الله يقول"وأن منكم إلا واردها" قال: "ألم تسمعيه قال: "ثم ننجي الذين اتقوا ونذرُ الظالمين فيها جثيا" يمر الناس على هذا الصراط على قدر سرعتهم في الاستجابة لأمر الله في الدنيا، ومبادرتهم إلى مرضاته، وتقفُ الأمانة والرحم على جنبي الصراط تطالبُ بحقهما، وتنفعُ القائم بهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالا فيمر أولكم كالبرق" قال أبو هريرة: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم ترو البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وأشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط ويقول ربي سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد وحتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير ألا زحفا" قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج، ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة بيده أن قعر جهنم لسبعون خريفا".
تقف الأمانة وهي الفرائض التي فرضها الله عليك، كل ما أمرك الله به وكل ما نهاك عنه أمانة حفظتها أم ضيعتها؟ أديتها أم خنتها؟ فالصلاة والزكاة والصيام والحج أمانة، وبصرك وسمعك أمانة، وزوجتك وأولادك أمانة، وبيعك وشرائك أمانة، ومنصبك وجاهك أمانة، فالدين كله أمانة، والله تعالى حذر من الخيانة "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا أمانتكم وانتم تعلمون" ستقف الأمانة على جنبي الصراط تطالب بحقها، وتشفع لصاحبها، وكذلك الرحم تقوم على جنب الصراط الأخر تطالب بالحقوق، وتشتكي العقوق. الرحم التي يوم خلقها الله تعلقت به، وقالت: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال لها: أما ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذالك لك" فليحذر قاطع الرحم من خطورة الموقف " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع" في هذا الموقف العصيب يقف الأنبياء ودعواهم: اللهم سلم سلم. فإذا كانت هذه دعوى الأنبياء فماذا يقول غيرهم؟ ماذا عساه أن يقول قاطع الرحم، ومضيع الأمانة؟ ماذا عساه أن يقول تارك الصلاة، والمفرط في الزكاة؟ ماذا عساه أن يقول أكل الربا، والواقع في الزنا؟ ماذا عساه أن يقول الظالم لحقوق الناس، وجامع المال من الحرام والرشوه والاختلاس. إذا كان أنبياء الله، وصفوة خلقه، دعواهم، اللهم سلم سلم. فماذا يقول من همه محاربة الدين ومنابذة شريعة رب العالمين ومخاصمة العلماء والمصلحين؟ اللهم يمن كتابنا، وخفف حسابنا، وثبت على الصراط أقدامنا، وارحم يوم العرض عليك ذل مقامنا.

الحمد الله على إحسانه ....
إذا اعتقد العبد حقيقة الصراط وأن الناس سيمرون عليه كان لزاما على المسلم أن يستحضر فزع ذلك اليوم، وأن يأخذ حذره، حتى لا يكون ممن تزل بهم الأقدام، ويخرون في النار التي أعدها الله لعباد الأصنام، يستشعر ذلك اليوم ليزداد إيمانه بقدرة الله وعظيم تدبيره وسلطانه، يعرف شدة ذلك الموقف الرهيب، ليبادر فعل الخيرات، ويحذر من المعاصي السيئات، فيستقيم على أمر الله في الدنيا، ليستقيم على الصراط يوم القيامة،ويثبت على شرع الله هنا، لتثبت قدمه يوم تزل الأقدام، فيحذر من الانحراف ومضلات الفتن، ويبتعد عن الشبه والشهوات وسوء المحن.
أيها المسلم: ستمر على الصراط مع ضَعْف حالك، وثِقل ظهرك، بما اقترفت من الذنوب والأوزار، فتخفف من حمل الذنوب، ليسهل على الصراط المرور، ستمر على الصراط الحاد المظلم، ما معك من نور ينير طريقك، ألا عملك الصالح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيُعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يُعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك، حتى يكون أخر من يُعطى نوره على إبهام قدمه يُضيء مرة ويُطفئ مرة إذا أضاء قدّم قدمه، وإذا أطفأ قام" إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: "فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار"
تصور هذا المشهد العظيم، الذي يخلع القلوب بشدته، وتشيب الرؤس لهوله وقسوته، تمر على الصراط الذي لا يعلم طوله إلى الله تقول عائشة يا رسول الله: أين يكون الناس حين يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: "يا عائشة هم في الظلمة على الجسر" تصور كل الناس منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على هذا الصراط الدقيق الحاد المظلم، منهم من يمر كالبرق، ومنهم كالطير، ومنهم من يزحف كل هذه المسافة العظيمة والنار تحته يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسعفه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من العالمين.
أبتْ نفسي تتوبُ فما احتيالي *** إذا بَرز العبادُ لذي الجلالِِِِِ
وقامـوا من قبورِهم سُـكـارى *** وقد بَرزوا كأمثال الجــبـــالِ
وقد مُد الصراطُ لكي يجوزوا*** فمنهم من يُكبُ علىالشمال
ومنـهـم يِـسـيــرُ لدار عدن *** تلقـاهُ الـعـرائـس بالـغــوالـي
يقولُ له المهيـمنُ يا وليي *** غفرتُ لك الذنوب فـلا تبالي
أيها المسلم: إذا أردت الأمان من الزلل على الصراط، والسلامة من كلاليب جهنم فسارع إلى عمل الصالحات، وبادر أوقاتك بفعل الطاعات، رغبة في رضى رب الأرض والسموات، واجعل قدوتك في ذلك رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم فهو المسابق إلى كل عمل جميل، المسارع إلى كل خلق نبيل، يقوم في صلاته حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة مشفقة عليه: " تصنع ذلك يا رسول الله، وقد غفر لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر فيقول لها: "أفلا أكون عبدا شكور" ويسابق في الصيام حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر" ويسابق في الأخلاق الحميدة والأداب الشريفة فهو من جبل عليها حتى صارت سجية له فكان أشجع الناس يخرج أهل المدينة لصوت سمعوه، يريدون أن ينجدوه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم راجع من جهته، يقول لهم مطمئنا:" لن تراعوا، لن تراعوا" وهو أكرم الناس يأتيه الأعرابي يسأله مالا فيعطيه غنما في شعب بين جبلين، فيذهب الأعرابي إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ويقول لهم يا قوم أسلموا، فإن محمدا يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وهو أشد الناس تواضعا يُسلم على الصبيان، ويمازح الأطفال "يا أبا عُمير ما فعل النُغير" تأخذ العجوزُ بيده إلى ناحية الطريق، فيسمع لها الساعات الطوال، ويقضى حاجاتها دون ضجر أو ملل. وعلى ذلك سار صحابته الكرام في المسابقة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الصالحات، فهذا عُميرُ بن الحُمَام يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم بدر: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فيرمي بتمرات في يده ويقول: إن عشت حتى أكلَ هذه التمرات إنها لحياة طويلة فينغمسُ في العدو حتى يقتل شهيدا. وهذا عثمان بن عفان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للإنفاق وتجهيز جيش العسرة فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف يعير بأحلاسها وأقتابها، وألف دينار يضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" وعلى هذا سار السلف الصالح في المسارعة الى الخير فهذا أويسُ القُرَني يُصلي كل نهاره وجزءً من ليله ثم يغفو بعد العشاء غفوة يسيرة، ثم يستفيق منها، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من عين نوّامة وبطن لا يشبع. وهذا أبو بكر بن عيّاش، يختم القرآن كل ليلة فلما جائه الموت بكت أخته حُزنا عليه، فقال لها:لا تبكين فقد ختمت القرآن في هذه الزواية أكثر من ثمانية عشر ألف مرة. ولا يزال في هذه الأمة رجال يسارعون في الخير ويسابقون إليه فهذا الداعية عبد الرحمن السميط ألبسه الله لباس الصحة والعافية يترك بلاده الغنية ويخرج إلى أدغال أفريقيا يدعو إلى الله، وينشر دينه، فيسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليونا، ويبني أكثر من خمسة ألاف مسجدا،وأكثر من860 مدرسة، وأكثر من 11 ألف بئرا، وما يزيد عن 186 مستوصفا ومستشفى، تاركا ترف الحياة، ورغد العيش، خدمة لدينه، ونصرة لشريعته. فاستبقوا الخيرات، وبادروا الأوقات، واستعدوا لما هو آت، واحذروا التنكب لصراط الله المستقيم، والانحراف عن سبيل المؤمنين، والتباطؤ عن أعمال الصالحين.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والهدى فقد أمركم بذلك ربكم جلا وعلا.......
المشاهدات 4246 | التعليقات 3

تصحيح الآية "يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون" واتمنى من الاخوة الكرام التنبيه على الاخطاء لتصحيحها وتلافيها في القادم ، بارك الله في الجميع ورزقناالاخلاص لوجهه العظيم


خطبة رائعة ومؤثرة جزاك الله خيرا، ونفع بك، وسأخطب بها هذا الأسبوع إن شاء الله.


تقبل الله منا ومنك اخي الكريم وشكرا لمرورك