الصراط

أحمد بن علي الغامدي
1445/02/15 - 2023/08/31 21:07PM

الْحمدُ لِلهِ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ تَسْلِيْماً كَثِيْراً.

 أَمَّا بَعْدُ: هُوَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ الْسَّيْف. ‌دَحْضٌ ‌مَزِلَّةٌ: إِنَّهُ جِسْرُ الأَهْوَال، وَمَزِلةُ الأَقْدَام، والمَحْطَّةُ الأَخِيرَة، مِنْ رِحْلَةِ الآخِرَة، فمَنْ تَجَاوَزَ هَذِهَ العَقَبَةَ الكَؤُوْد، وَصَلَ إِلى دَارِ الخُلُود؛ إِنَّهُ الصِّرَاط.

عباد الله :الصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ : على قَدْرِ إِيْمَانِهِمْ وأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصَرِ، وَمِنْهُم كَالبَرْقِ، وَمِنْهُمْ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ كَالفَرَسِ الجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ، قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).

وجِسْرُ جَهَنَّمَ: مُظْلِمٌ شَدِيْدُ الظُّلْمَة. ويدل لذلك أنّه لما سئل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ ‌الْجِسْرِ".فدلَّ ذلك على أن العبور على الصراط يكون في ظلام إلا من أعطاه الله نورًا يمشي به .ويُعْطَى الْعَبْاد مِنَ النُّورِ بِحَسَبِ نُورِ إِيمَانِهِم؛ فَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ نُورُهُ كَالشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ كَالْقَمَرِ، وَمِنْهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، وَمِنْهُمْ كَالسِّرَاج، وَمِنْهُمْ مَنْ نُوْرُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يُضِئُ مَرَّةً، وَيُطْفَىءُ أُخْرَى.

   وَيُطْفَئُ نُوْرُ الْمُنَافِقينَ على الصراط أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْه، كَمَا طُفِئَ فِي الدُّنْيَا مِنْ قُلُوْبِهِمْ، فَيَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِيْن: قِفُوا وَانْتَظِرُونا (نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ)، فَإِذَا انْطَفَأَ نُوْرُهُمْ؛ تَسَاقَطُوا في النَّار.

 وإذا رَأَى المُؤْمِنُونَ مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ دَعَوْا رَبَّهُمْ خَائِفِيْن: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

عباد الله :جِسْرُ جَهَنَّم؛ مِنْ أَشَدِّ المَوَاطِنِ رُعْبًا؛ حَتَّى أنه لا يتكلم عند عبوره إلا الرسل داعين الله -تعالى- بالسلامة، قال صلى الله عليه وسلم:" ‌فَيُضْرَبُ ‌الصِّرَاطُ ‌بَيْنَ ‌ظَهْرَانَيْ ‌جَهَنَّمَ،[ أي: على وسطها] فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ".

وحسبكم بدعائهم ذلك بياناً لما سيكون عليه الأمر من كرب شديد. قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إن المؤمن لا يسكن رَوْعُه حتى يترك جسر جهنم وراءه".

 عباد الله :وَفِي حَافَّتَيْ الصِّرَاطِ خَطَاطِيفُ ‌وَكَلَالِيبُ [وهي الحدائد المعوجة كالكلّوب]  وَ[ فيها]حَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ [وهي الشوكة الصُلبة العريضة] لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ[أي منعطفة معوجة] مِثْلُ شَوْكٍ تَكُونُ بِنَجْدٍ .يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ ،قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[ للصحابة رضي الله عنهم]: هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ " ، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: " فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، مُعَلَّقَةٌ، مَأمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ ،فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، قَالَ: وَتُرْسَلُ ‌الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ ، يَمِينًا وَشِمَالًا،[ فَلَا يَجُوْزُ الصراطَ خَائِنٌ، وَلَا قَاطِعُ رَحِم].

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ [أي : مصروع]فِي نَارِ جَهَنَّمَ؛ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا".متفق عليه .              

وقد قسَّم النبي عليه الصلاة والسلام الناس في هذه النجاة من عدمها إلى أقسام ثلاثة :

الأول : ناجٍ مُسلَّم لا يصيبه شيء أصلا .

الثاني : مخدوشٌ مرسل ؛ أي ناج من النار، لكن يصيبه ما يصيبه من الخدش ،وهو الجُرح الخفيف، يعني: أنه يصاب إما من لفح جهنم، أو يصاب بخدوش من الكلاليب والخطاطيف العظيمة التي على الصراط.

الثالث :مكدوسٌ في نار جهنم ،والمكدوس هو الملقى فيها بقوة، قال ابن الأثير: ((كأن الإنسان تجمع يداه، ورجلاه، ويشد، ويلقى في النار، )) وهؤلاء الساقطون في نار جهنم من الموحدين : لا يعني ذلك ،أنهم خالدون فيها، ولكن تأخذهم النار على قدر أعمالهم، ومنهم مَن يخرج منها بالشفاعة؛ كما جاء في صحيح السنة.

  عباد الله :وإذا مر المؤمنون على الصراط ونجوا :فإنهم يُحبسون قبل دخول الجنة في موضع يقال له: "القنطرة" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ"(البخاري)، [والقنطرة: هي "طرف الصراط مما يلي الجنة"(ابن حجر)".]

وهذا القِصاص غيرُ القِصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قِصاص أخص لأجل أن يذهب الغلُ، والحقد، والبغضاء التي في قلوب الناس فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص، فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار لأجل تنقية ما في القلوب حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل"(ابن عثيمين)، قال الله تعالى:"وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ".

أسأل الله أن ينجينا ووالدينا وأهلينا والمسلمين من أهوال وكربات هذا اليوم العظيم.

عباد الله: بارك الله لي ولكم ....

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد: فإنّ مَنْ ثَبَتَ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ في الدنيا ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى جَهَنَّمَ. لأن الجزاء من جنس العمل ، فعلى قدر لزوم العبد لهذا الصراط في الدنيا وسيرِه عليه سرعةً وبطئا ، وثباتًا واستقامة :تكون حالُه يوم القيامة على الصراط الذي يُنصب على متن جهنم ؛ فأسرع الناس سيرًا عليه هنا أسرعهم سيرًا عليه يوم القيامة ، وأبطؤهم هنا أبطؤهم هناك ـ ومن نكَب عن الصراط في الدنيا، وخَطِفَتْهُ كَلالِيْبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم؛ فقد تخَطِفُه الكَلَالِيبُ على ذَاكَ الصِّرَاطِ، وَتعَيقُه عَنِ الْمُرُورِ عَلَيْهِ (جَزَاءً وِفَاقًا)، (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

 

 

المرفقات

1693505227_الصراط.doc

المشاهدات 641 | التعليقات 0