الصد عن سبيل الله .... خطره وصوره
إبراهيم بن صالح العجلان
معاشر المؤمنين:
جرمٌ مَشين ، وصنيع مهين ٌ، هو بضاعة المفلسين، وسبيل المفسدين، وحِيلة المجرمين، هو باقٍٍ ما بَقِي للحقِّ صوتٌ وأعوان، وسيبقى الحقُّ ما بَقِي الليل والنهار.
هوحقيقة لا خيال، وواقع ليس مؤامرة، نراه كلَّ يوم يتجدد، فنزداد يقينًا بموعود الله إنَّه الصدُّ عن سبيل الله.
ذلك الانحراف الخطير، والوِزر الكبير الذي حذَّر منه المولَى - سبحانه - في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، وما ذاك إلا لتَجدُّد صُوَره، وتعدُّد أشكاله، وبقاء دُعاته.
الصدُّ عن سبيل الله - يا أهل الإيمان - جرثومةٌ قديمة، زَرَعها الكفَّار؛ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ثم تولَّى سقيها ورعايتها المنافقون؛ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16].
الصدُّ عن سبيل الله معركة متجدِّدة، وعداوة باقية، وأسلوبٌ متواصًى به، عُودِي به الأنبياء أزمانًا، واشتكى الصالحون منه دهورًا؛ {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
وتأمَّل في قول الحقِّ - سبحانه وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36].
فعبَّر - سبحانه - بفِعْل المضارع "ينفقون"؛ يعني أنَّه فِعْلٌ مُستمر في الحاضر والمستقبل.
ثم أكَّد - سبحانه - هذا المعنى بقوله بعدها: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
الصدُّ عن سبيل الله قد يكون عامًّا، وذلك بالصدِّ عن الدين كُليَّةً، وقد يكون الصدُّ جزئيًّا، وذلك بالصدِّ عن بعض تشريعات الإسلام، ومحاربتها ومَنْعها، والتضييق على أهلها، كالحجاب والنقاب، والأذان وحَلقات القرآن.
صور الصدِّ عن سبيل الله:
قد لا تأتي في صورة المواجهة باسمها الصريح، ووجْهها الكالح، بل قد يأتي الصدُّ عن السبيل في صُوَرٍ أخرى، يتستَّر فيها بالمعوقات والحواجز التي تَقِف دون قول الحقِّ وإقامة الحقِّ.
إخوة الإيمان، صُوَر الصدِّ عن سبيل الله كثيرة مُتعدِّدة، ذكَرَ المولَى - سبحانه - بعضها، وذاقَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمرَّها، ورآها المسلمون أزمانًا.
ولئن رأى أسلافُنا صُوَرًا من الصدِّ عن دين الله، وذاقوا بأْسَها، فهي تَظَلُّ صُوَرًا لم تتعدَّ نطاق مُحيطهم، لا تصل إلى مستوى عصرنا الذي وصلتْ فيه البشريَّة مَبلغًا عظيمًا من التقنية والسرعة والاحترافية، واستُعْمِل كثيرٌ منها في الصدِّ عن سبيل الله؛ حتى بلغَ شررُ الباطل وسمومُه الشرقَ والغرب.
فيا أخي المبارك، ارع لنا السمعَ، واستجمع معنا القلبَ إلى صُوَر خمس من صور الصدِّ عن سبيل الله؛ لنحذرَها ونتقيَها، ثم لنعرفَ أهْلَها ودهاقِنتها.
- أُولى صور الصدِّ عن سبيل الله:
تخذيل الناسِ عن فِعْل الخير واصطناع المعروف:
يكثر فِعْل الخير، وتتعدَّد صورُه، ويعم نفعُه، ويُرَى أثَرُه في صلاح المجتمع وتديُّنه، فيَشْرَق مَن يَشْرَق من مَرْضَى القلوب من هذا الإقبال والمسارعة نحو الخير، فيزرعون ألغامًا من العَثرات والمثبِّطات عن فِعْل المعروف، تارة بالتزهيد فيه، وتارة باتهام نيَّات أهْله.
وهذا أسلوب قديم مكشوف، فقد سعى المنافقون في عهْد النبوَّة إلى تخذيل غيرهم عن فِعل المعروف، فهتَكَ عالِمُ الغيب - سبحانه - أستارَهم، وفضح سرائرَهم، وقصَّ علينا أقوالَهم ووسائلهم.
فتارة يستخدمون أسلوب الغمز واللمز، والسخرية من فعل الخير، فإذا أنفَقَ أحدُ الصحابة نفقة كبيرة، لَمَزوه، فقالوا: ما أراد بها إلا الرِّياءَ.
وإذا أنفق أحدُ الصحابة جُهده، وقلَّتْ نفقتُه، غَمَزوه، فقالوا: إنَّ الله لغنيٌّ عن نفقة هذا؛ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
وتارة ينهَون الناسَ عن النفقة والبَذْل على المحتاجين من الصحابة؛ حتى ينفضُّوا عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجالسته، تحت وطأة الضيق والجوع؛ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7].
وتارة يخذلون عن الخير، وإيجاد المبررات لهذا التخذيل؛ {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81].
إذا رأَوا تحفُّز الهِمم نحو المعالي والقِمم، تحرَّكوا في المقابل نحو التخذيل والتثبيط؛ قال - تعالى - في شأْن أهْل النفاق: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72].
وقال – سبحانه -: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18].
هذه بعض أساليب أهْل النفاق في التزهيد في الخير، وعمل الخير، ونشْرِ الخير، ونحن اليومَ نرى نفسَ الأطروحات تتكرَّر، ولكن بأسلوب مغاير، نقرأ ونسمع من يتبرَّم من كثرة الأعمال الدعويَّة، والمشروعات الخيريَّة.
يتضجَّرون من كثرة تدريس الدِّين؛ في المسجد والمدرسة، والبيت والإعلام.
يتأفَّفون من كثرة الفتاوى في شؤون الحياة، وأنَّ كلَّ أمرٍ لا بدَّ أن يُربطَ بالدِّين، ورأْي الشرع.
فسبحان الله! اختلفتْ قوالبُهم، واتَّحدتْ قلوبُهم.
ثانيًا: من صور الصد عن سبيل الله:
فتْحُ باب المحرَّمات على مصراعيه من صور الإغراءات والشهوات، وإشاعة القول الباطل، ونشْر الشبُّهات، مع جذْبِ الناس إليها بالدعايات البرَّاقة، والوسائل الجذَّابة، وإلهاء الناس بها عن أصْل وجودهم، وأساس خَلْقِهم .
يملكون من الوسائل والأساليب ما يجعل قولهم مسموعًا؛ {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4].
فيا لله! كم كان لجريمة فتْح باب المحرَّمات من آثار وآثار في الصدِّ عن سبيل الله، كم راجتْ فواحش ومحرَّمات بسبب التسويق لإغراءاتها، والتهوين من مقدِّماتها، ثم لا تسلْ بعد ذلك عن مخرجات فِعْل هؤلاء الصادِّين، ونتائج صنيعهم؛ من خراب المجتمع، وانتشار الجريمة فيه، وإشاعة القول الفاحش بين أهْله.
لقد توعد الله - تعالى - أهْلَ النفاق؛ لأجل مسارعتهم وحبِّهم لإشاعة الفاحشة، فقال - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
ومن الأمور التي يقرِّرها العقل والدِّين، ويصدِّقها الواقع والحال، أنَّ النفوس إذا أُلْهِيتْ بالمحرَّمات، ابتعدتْ عن سبيل الله - تعالى - وطاعته ومَرضاته.
قال الشافعي: "صحبتُ الصوفية فما انتفعتُ منهم إلا بكلمتين:
"الوقت سيف، فإنْ قطعته، وإلاَّ قطعك"، "ونفسُك إنْ لم تشغلْها بالحقِّ شغلتْك بالباطل".
ثالثًا: ومن صور الصد عن سبيل الله:
الإعراض عن أحكام الشرع، والاعتراض عليها، والتشكيك فيها، أو السعي لعلْمنتها، وتحريفها عن معانيها.
لقد قصَّ الله علينا خبرَ المنافقين السابقين، الذين كانتْ لهم حَلقات من الاعتراضات على قول النبي - صلى الله عليه وسلم- وتمرُّدهم على دعوته، وإعراضهم عن هدايته.
إذا دُعُوا إلى التحاكُم إلى الكتاب والسُّنة والتسليم لها، والانقياد إليها، فروا وصدُّوا؛
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61].
وإذا كان لهم مصلحة في الأخْذ بالكتاب والسُّنة، رأيتَ المواعظ الثعالبية، والاستشهاد بالآيات القرآنية؛ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور : 48 - 50].
هؤلاء الذين لم يدخلوا في السِّلْم كافَّة، ولم يستسلموا لأحكام الله عامَّة، يصدُّون عن السبيل !!! متى ؟
إذا شرهنوا لأهوائهم ,,,, ترى الواحد من هؤلاء لا يُعرَف بالعلم، وليس هو من أهْل الاختصاص فيه، والتضلُّع في فنونه، ومع ذلك يقتحمُ مَيدان الشرع بلا علم، ويجعل لنفسه حقَّ الاجتهاد، والنظر في المسائل الشرعيَّة، ثم يُردِّد على المعترضين بمواعظ، من أمثال: لا رهبانيَّة في الإسلام، وليس الدين حِكرًا على أحد، وهم رجال ونحن رجال.
يبحثون في التراث عن القول الشاذ؛ لحاجة في صدورهم، فإذا وجدوه أبرزوه وأظهروه، ورفعوا من شأنه، وأقنعوا بعدها الآخرين أنَّ منطلقاتهم شرعيَّة، وأنَّهم لا يخالفون الكتاب والسُّنة، وأنَّ لهم سلفًا في قولهم؛ فيغتر بهم بعد ذلك مَن يغتر، ويُترَك القولُ الصحيح، ويقلُّ العمل به، وهل هذا إلا صدٌّ عن سبيل الله؟!
رابعًا: ومن صور الصد عن سبيل الله:
تشويه صورة الحقِّ وأهله:
هذا الفِعْل له ما بعده من الأفعال؛ من جُرأة السفهاء، وتسافُل الجُهلاء على أهل العلم، ودُعاة الحقِّ، وإحداث البلابل داخل المجتمع بعد ذلك.
وهذا أسلوب عرفناه من قُدماء المنافقين، لقد حضَر المنافقون مشاهدَ الجهاد، ولكن لم يكنْ حضورُهم لرفْعِ راية الدِّين؛ وإنَّما لزعزعة صفوف المؤمنين، وخَلخلتها من داخلها؛ قال - سبحانه - عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
ونحن اليومَ نرى بعض مَرْضَى القلوب يحضرون مجالس العلم، أو يتسمعون ندواتهم، لا للاستفادة منها، أو نشْر الخير الذي فيها؛ وإنَّما لتصيُّد كلمة حمَّالة، أو بَتْر عبارة من سياقها؛ ليُزَاد عليها بعد ذلك، ثم تُبَث وتُنْشَر على أنَّها من قول هذا العالم أو الداعية؛ كل ذلك لتشويه صورته وتجهيله وتقزيمه .
ويزداد الأمر سفالةً حين يستخدم هؤلاء أسلوب التحريض، ولغة الوشاية ضدَّ أهْل العلم والاحتساب.
لقد عرفنا قديمًا غمزاتِ المنافقين ولمزاتهم ضدَّ أهل العلم من الصحابة، حين قالوا: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء.
وها نحن اليوم نرى صوت النفاق يسلق بحدِّةٍ أهْلَ العلم، ويصفهم بالتشدُّد والرجعيَّة، والتَّزمُّت والظلاميَّة.
إن الغمزَ واللمز في العلماء ليس طعنًا في ذواتهم، بل هو طعْنٌ للعلم الذي أخذوه وورثوه من نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم.
فتشويه صورتهم، وإسقاط كلمتهم، إنَّما هو في الحقيقة إسقاط للحقِّ الذي معهم ويقولون به.
خامسًا: ومن صور الصد عن سبيل الله:
التضييق على صوت الحق وتكميمه، ومنعه من أن يقول كلمته الرشيدة الهادية.
وهذه سُنة قديمة، فقد سعى المشركون لمنع الحق بقولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26].
ثم لَمَّا رأوا إقبال الناس على دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأثُّرهم بها، وأنَّها دعوة قد خرجتْ من إقليميَّة مكة، وبلغ صداها ومؤيدوها خارج مكة - سعوا لحبس صاحب هذه الدعوة، وخَنْق صوته، أو لقتْله، أو لإخراجه؛ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأنفال: 30].
كم شَرِقَ مَن شَرِقَ في هذا العصر من كثرة المواقع والقنوات والمنابر الإعلاميَّة الإسلاميَّة الداعية إلى الدِّين والهدى، والخير والسُّنة، والمحذرة من الشرِّ والغواية والبدعة، مما كان لها أثرٌ ملموس على الناس.
فسعت أيادٍ خفيَّة، وأنفس غير زكيَّة إلى تكميم هذه المنابر وحَجْبها بمبررات غير منطقية، مع أنَّ فضاء الإعلام مَلِيء بقنوات الرقْص والتعرِّي.
وإعلام أهْل البدع والضلال يسبحُ في هذا الفضاء بلا منع ولا إنذار !!
والعجب أن يحدثَ هذا التسكيت والتبكيت في زمن شعارات الحريَّات وقَبول الآخر.
لقد أصمَّ هؤلاء آذاننا لسنوات، وأقنعونا أنَّ عصر المنع وزمن الرقابة قد انتهى، ثم ها هم ينسون مبادئهم ومواعظَهم، ويباركون بإسكات صوت الحقِّ، وكلُّ ذنبه أنَّه دعا إلى الله على بصيرة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
تلك عباد الله بعض صور الصدِّ عن السبيل، وشيء من أشكاله، جعلنا الله وإياكم دعاة لكلِّ معروف، مفاتيح لكلِّ خيرٍ، مغاليق دون كلِّ شرٍّ.
وأستغفر الله، فاستغفروه وتوبوا إليه.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، روى الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بَشِّرْ هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة والدِّين، والنصر والتمكين في الأرض)).
فالعِزُّ والرِّفعة وظهور الحقِّ هو قَدَرُ الله - تعالى - لهذه الأُمَّة، ولن يخلوَ عصرٌ من عصور أمة الإسلام من طائفة تقوم بالحقِّ وتقول به، فهذا الصدُّ عن سبيل الله مَهْمَا طالَ واشتدَّ، فلا ينسينا هذه الحقيقة: أنَّ الله - سبحانه - قد اختار هذا الدين واصطفاه، ليبقى في الأرض، وليصلَ كلَّ سهلٍ ووادٍ، وكلَّ جبلٍ ووعرٍ، وسيبلغ نورُه ما بلغ الليل والنهار؛ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
قلِّبْ نظرَك في مسارب التاريخ، ترى أحداثًا وصورًا كاد فيه الباطل وزاد، فذهب هو وكيدُه، وبَقِي نورُ الحق، أُوذِي أحمد بن عبدالحليم بن تيميَّة، وشُوِّهتْ صورتُه، وأُلِّبَ عليه، وأُفْتِي بكفره، وسُفِك دمُه، حتى مات مسجونًا من أجل مبادئه، ثم ذهب ذلك الجيل وأهله، فلم يبقَ إلا اسم ابن تيميَّة، وعلمه، وتراثه، وطويت صحائف أهل الباطل، فلم يُعرفوا، ولم يُذْكروا.
كم مرَّ على المسلمين من صورٍ قاتمة في الصدِّ عن سبيل الله، بل كم ذاقوا من مواجع وفواجعَ وصلتْ إلى حدِّ التصفية الجسديَّة، حتى دبَّ اليأس في نفوس أهل ذلك الزمان.
تسقط بغداد عاصمة المسلمين في عهْد العباسيين، ويُقتل فيها ما يُقارب مليوني مسلم، حتى قال بعض المؤرِّخين عن تلك الحقبة: "لن تقوم للإسلام بعده قائمة".
ثم أغفى الزمان إغفاءَه، فإذا هو أمام جيل من أهْل الإسلام يفتح القسطنطينية، ويقف بعِزَّة وشموخ أمام أسوار "روما" مَعْقل قلب النصرانيَّة.
كم بُذلتْ من المليارات لتنصير المسلمين، وتشويه دينهم!
كم عقدوا المؤتمرات قديمًا؛ لجعل إفريقيا عام ألفين للميلاد قارة نَصرانية!
فمضى هذا العام، وأعوام في إثره، وخيَّب الله مسعاهم، بل غزاهم الإسلام بنوره وهداياته في قلب أرضهم.
حتى قام بابا الفاتيكان السابق الهالك وقال قولته المشهورة: "هيا تحرَّكوا بسرعة؛ لوقف الزحْفِ الإسلامي الهائل في أوربا".
ما نسينا حملة الفاتيكان قبل سنوات (مليون ضد محمد) ، والهدف الحدُّ من انتشار الإسلام.
فأبشروا يا أهل الإسلام، فالدين منصورٌ، والحقُّ ظاهر.
وإنَّما الشأنُ كيف نكون دعاةً لهذا الحقِّ، وكيف نتسور الرِّفْعة بالعمل لنشْر الدِّين وتبليغه ............اللهم صلِّ على محمد.
المشاهدات 3750 | التعليقات 5
جزاك الله خيرًا على هذه الخطبة القيمة .
وكما ذكرتم ـ وفقكم الله ـ فإن الصد عن سبيل الله ما زال ولن يزال ما بقي في الأرض إيمان وكفر وهدى وضلال وحق وباطل ، يتولاه الذين كفروا ومن تابعهم من المنافقين ، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا ينظرون في الجزاء الأكبر ، يوم يوفى كل عامل ما عمل إن خيرًا وإن شرًّا ، وإنما هم متبعون لأهوائهم .
قال ـ سبحانه ـ : " وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ . الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا أُولئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ " وقال ـ سبحانه ـ : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلا في الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ في كِتَابٍ مُبِينٍ . لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ "
فهؤلاء المصروفون لا ينظرون إلا تحت أرجلهم ولا يهمهم إلا أمر دنياهم ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، وغافلون عن أن الله ـ تعالى ـ يحصي كل شيء في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ومن ثم فهم يظنون أنهم على شيء ، فيستغلون نفوذهم السياسي أو الإعلامي للصد عن سبيل الله ، بإغلاق المؤسسات الخيرية ومحاربة حلقات التحفيظ ، وإغلاق القنوات الإسلامية ، بحجة هي حجة فرعون حينما قال : " إِني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ في الأَرضِ الفَسَادَ "
فهذه المؤسسات في زعمهم تدعم الإرهاب ، وتلك الحلقات تفرخه وترعى صغاره ، والقنوات تنشره إعلاميًّا وتستضيف رموزه ... إلى غير ما هنالك من أسباب واهيات يتعلقون بها لا لعلم وتحقيق ، وإنما دفعهم إليها اتباعهم أهواءهم بغير علم . واتباع الهوى يصد عن سبيل الله ، قال ـ سبحانه ـ : " وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الحِسابِ " وفي الحديث : "وأما اتباع الهوى "
ولكن لله في اشتغال هؤلاء بالصد عن سبيله من الحكم ما نعلم بعضها ونحن عن أكثرها غافلون ، غير أن أوضحها مما بين الله في كتابه أن يميز الله بين الخبيث والطيب ، كما قال ـ سبحانه ـ : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ "
فهذه الأموال التي تنفق وتلك الجهود التي تبذل ، وإن قصد بها الصد عن سبيل الله وإضعاف الحق وإعجاز أهله ، فإنها ستذهب هدرًا ، وستكون على أهلها حسرة وندامة ، وسيكون للمؤمنين منها من الفائدة ما لم يكن لهم على حساب ، ألا وهو أنهم سيميزون بها بين الخبيث والطيب .
ولو ترك الناس بلا بلاء لاختلطوا واندس فيهم من ليس منهم ، ولكن إذا أذن الله لبعض الباطل بالبروز والظهور ، فإن المنافقين والذين في قلوبهم مرض سيظنون أن قد أديل على الحق وأن لن تقوم له قائمة ، فيظهرون ما في قلوبهم مما كانوا يخفونه من موالاة الباطل ومعاداة الحق ، ويوضعون في صفوف المؤمنين يبغونهم الفتنة ، فيعرفهم المؤمنون بذلك ويميزونهم ، فيَحذَرونهم ويتقون شرهم .
ثمة ملحوظة يسيرة في قولكم :
لقد عاتَبَ الله - تعالى - أهْلَ النفاق ؛ لأجل مسارعتهم وحبِّهم لإشاعة الفاحشة ، فقال - سبحانه - : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
فهل هذا عتاب أم وعيد وتهديد ؟
الذي أعرفه ـ وفقك الله وسددك ـ أن العتاب يكون من المحب لمن يحب على خطأ قد عفا عنه فيه ، لكنه أراد أن يذكره بإنعامه عليه ومحبته له في عفوه عنه ، قال الشاعر :
إذا ما رابني منه اجتنابُ
ويبقى الوُدُّ ما بقى العتابُ
ومن العتاب في القرآن قوله ـ جلا وعلا ـ لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " عفا الله عنك لم أذنت لهم " قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ :
الاستفهام في : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } للإنكار من الله ـ تعالى ـ على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث وقع منه الإذن لما استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ، ومن هو كاذب فيه . وفي ذكر العفو عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يدلّ على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى ، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه ...
وأما الآية التي ذكرت ـ وفقك الله وسددك ـ فقد قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في تفسيره عند الكلام عليها :
ثم هدّد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال : " إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة في الذين آمَنُوا " أي : يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر ، من قولهم : شاع الشيء يشيع شيوعًا وشيعًا وشيعانًا : إذا ظهر وانتشر ، والمراد بالذين آمنوا المحصنون العفيفون ، أو كلّ من اتصف بصفة الإيمان ، والفاحشة هي : فاحشة الزنا ، أو القول السيئ { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا } بإقامة الحدّ عليهم { والآخرة } بعذاب النار { والله يَعْلَمُ } جميع المعلومات { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } إلاّ ما علمكم به وكشفه لكم ، ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف ، وعقوبة فاعله .
لقد عاتَبَ الله - تعالى - أهْلَ النفاق ؛ لأجل مسارعتهم وحبِّهم لإشاعة الفاحشة ، فقال - سبحانه - : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
فهل هذا عتاب أم وعيد وتهديد ؟
الذي أعرفه ـ وفقك الله وسددك ـ أن العتاب يكون من المحب لمن يحب على خطأ قد عفا عنه فيه ، لكنه أراد أن يذكره بإنعامه عليه ومحبته له في عفوه عنه ، قال الشاعر :
أعاتب ذا المودَّة من صديق
إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العِتاب فليس وُدٌّ
ويبقى الوُدُّ ما بقى العتابُ
ومن العتاب في القرآن قوله ـ جلا وعلا ـ لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " عفا الله عنك لم أذنت لهم "
والله أعلى وأعلم
قال المناوي في (التوقيف على مهمات التعاريف) :
العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة ...
وقال العسكري في (الفروق اللغوية) :
وقال الشنقيطي في أضواء البيان :
قال بعض أهل العلم : ( وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( أي لا تطلب منهم العتبى ، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا .
وقال بعض العلماء : ( وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( أي يعتبون ، بمعنى يزال عنهم العتب ، ويعطون العتبى وهي الرضا . لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين . وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور : ( وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ( أي وإن يطلبوا العتبى وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم فما هم من المعتبين . بصيغة اسم المفعول : أي المعطين العتبى وهي الرضا عنهم . لأن العرب تقول : أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
أي لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ورضاه . وقول النابغة :
فإن كنت مظلوماً فعبد ظلمته
وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
وأما قول بشر بن أبي خازم :
غضبت تميم أن تقتل عامر
يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يعني أعتبناهم بالسيف ، أي أرضيناهم بالقتل . فهو من قبيل التهكم ، كقول عمرو بن معدي كرب :
وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينهم ضرب وجيع
لأن القتل ليس بإرضاء ، والضرب الوجيع ليس بتحية .
وأما على قراءة من قرأ ( وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ) ( بالبناء للمفعول ) فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ( بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله ، فما هم من المعتبين : أي الراجعين إلى ما يرضي ربهم ، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولاً . وهذه القراءة كقوله تعالى : ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).
ورحم الله امرأ أصلح عيباً ، أو قوَّم خللاً .
ورحم الله الله امرأً تواضع وزاده رفعة في الدنيا والآخرة .
إبراهيم بن صالح العجلان
تم تعديل الملاحظة
ورحم الله امرأ أصلح عيباً ، أو قوَّم خللاً .
تعديل التعليق