الصدق والنصح في البيع وعدم الغش والاحتكار
محمد بن عبدالله التميمي
1444/08/03 - 2023/02/23 21:03PM
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أَمَر بالصدق عبادَه المؤمنين، ورغّب في ثوابه بالمغفرة والأجر العظيم، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مُعين، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه الصادقُ الأمين، بَرِئَ من الغاشِّ للمؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن صدق في اتّباعهم إلى يوم الدين، أما بعد:
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وانصحوا لأنفسكم وللمؤمنين، بلزوم الصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، فإن الصدق وصفُ أهلِ الإيمان، تصديقًا بالقول والعمل يُبرْهِن على صدق إقرار واعتقاد الجَنَان، فإنْ تَخَلَّفَ الجميعُ فذلك الكفر، وإن أظهر المرءُ خلاف ما يُبطنُ فذلك النفاق، وإن لم يُصدِّق القولُ والعملُ الاعتقادَ أو لم يُصدِّق عملُه قولَه فذلك الإرجاء، الذي ليس معه نَجاء، فالإيمانُ قولُ القلب الذي هو الإقرار، وقول اللسان، وعمل القلب من المحبة والتوكل والإنابة وغيرها، والرابع عمل الجوارح، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
عباد الله.. والمؤمن الصادقُ في إيمانه: صادقٌ في قِيْلِه وكلامه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفقٌ عليه.
فضدُّ الصدق: الكذب، والذي منه: الغِشُّ: نقيض النُّصح، فمَن نَصَحَكَ فَقَدْ صَدَق، ومن كذَبَكَ فقد غشّ.
الغِشُّ: كَتْمُ كلِّ ما لو علمه المشتري كرهه، وصور الغش كثيرة، فمنها: مَنْ يجعل الجيِّد من الطعام بالأعلى، والدُّونَ بالأسفل، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرة طعام، فأَدخل يده فيها، فنالت أصابعَه بَلَلًا. فقال: «ما هذا يا صاحب الطَّعام؟» قال: أصابته السَّماء يا رسول الله. قال: «أفلا جعلته فوق الطَّعام كي يراه النَّاس؟ من غشَّ فليس منِّي»، وفي لفظ: «فليس مِنَّا»، فتبرَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منه، وأخبر أنه ليس من المؤمنين، مما يدل على أنه من كبائر الذنوب التي تحتاج إلى توبة تمامها رَدُّ الحقوق إلى أهلها.
ومنها -عباد الله-: العلم بالعيب وعدم الإخبار به، وذلك يَمحق بركة المال الدنيوي، ويكون صاحبه مُتَوَعَّدٌ بالحساب الأخروي، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».
ومن صور الغش: تغرير المشتري بالسلع المقلدة على أنها أصلية، وإن الإثم يَعظُم في السلع التي تُودي بحياة آخرين من منزل أو مَرْكَبٍ أو دواء ونحو ذلك، وما أعظم غَبن البائع الغاش لمَّا يرى أنه قد كسب على أخيه ما لا يحل له، والمشتري عليه يدعو ومن ربه يطلب الكفاية قائلا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" ولو علم الغاشُّ أن المشتري قد وكل أميرا أو وزيرا ومَن له سلطة دنيوية لرجع بالاعتذار والمال وزيادة، كيف والوكيل هو ملكُ الملوك العزيزُ الجبار -وهو الحسْبُ والكافي ونعم الوكيل-!
عباد الله.. ومن الاعتداء على المؤمنين: احتكارُ السلعة ورفعُ سعرها، وتجاوز ما تستحقه حقيقة، ولْيَضَع البائعُ نفسُه مكانَ المشتري ويَفعل ما يريد أن يُفعل، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، والخاطئ هو المتجاوز عمدا المؤاخَذ على ذلك، كما قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}، فما أَغشَّ أولئك وأبعدَهم عن النصح، وتأمل حال الصحابة المَرْضِيِّيْن، روى الطَّبَرَانِيّ فِي تَرْجَمة جريرٍ رضي الله عنه أَن غُلَامه اشْترى لَهُ فرسا بثلاثمائة، فَلَمَّا رَآهُ، جَاءَ إِلَى صَاحبه فَقَالَ: إِن فرسك خيرٌ من ثلاثمِئة، فَلم يزل يزِيدُهُ حَتَّى أعطَاهُ ثَمَانمِئَة. وَقَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النصح لكل مُسلم.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ورَزَقنا اتباع سنة سيد المرسلين، والسلف الصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، امتنَّ بتآلُفِ المؤمنين، وحث على ما يحفظ ذلك وحذر مما يُكدره وهو أحكم الحاكمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ المبعوثِ رحمة للعالمين، وعلى صحبه المَرْضِيِّين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتنزَّهوا عن حقوق الناس فإنها لا تُغفر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، بل «الْمُفْلِس مَن يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، فاللهم سلِّم سلِّم.
عباد الله.. إن الناظر في آثار الغش يبعثه ذلك على البُعد عنه وطلب السلامة، فقد بَرِئ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مرتكب جريمة الغش، فالغاشُّ مرتكبٌ لكبيرة من الكبائر المحرمة، ومتهاون بنظر الله إليه، وممحوقُ البركة، وخائنٌ للأمانة، وسببٌ للفُرْقة بين المسلمين، ونشرِ البُغض والشحناءِ بينهم، وكيف يرجو إجابة دعائه من يَغُشُّ عباد ربه؟!
فعلى التاجر أن يستشعر مراقبة الله تعالى، ويَصبر في تحصيل الرزق الحلال، ويَقنع بما رزقه اللهُ الوهاب، ويخشى سوء العقاب.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمَّن سواك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحب ربنا وترضى، وخُذ بنواصيهما للبر والتقوى، واجعل عملهم في رضاك، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك، اللهم احفظ جنودنا، وأمِّن حدودنا، وادفع عنا، وبارك لنا، وأصلح ذات بيننا، واهد قلوبنا، واسلُل سخائم صدورنا، وثَبِّت حُجَّتَنا، وسدد ألسنتنا، واقبل توبتنا، واغْسِل حَوْبَتنا، وأَجِبْ دعوتنا، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.