الصدق مع الله باب التوفيق
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
:الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأُصلي وأُسلم على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن ، فهي خير زاد لمعادكم وخير زينة لكم في دُنياكم، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً ، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)
عباد الله: روى الطبراني والنسائي بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنَّ رجلًا مِنَ الأعرابِ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فآمَنَ بِهِ واتَّبعَهُ ، وقالَ: أُهاجرُ معَكَ ، فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ، فلمَّا كانَت غزوةٌ غنِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيها أشياءَ ، فقَسمَ وقسمَ لَهُ ، فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم ، فلمَّا جاءَ دفَعوا إليهِ ، فقالَ: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسمَهُ لَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، فأخذَهُ فجاءَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا مُحمَّدُ ، ما هذا ؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ ، قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا وأشارَ إلى حلقِهِ بسَهْمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنَّةَ ، فقالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: إن تَصدُقِ اللَّهَ يَصدُقْكَ ، فلبثوا قليلاً ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ ، فأُتي بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُحمَلُ قد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَهوَ هوَ ؟ قالوا: نعَم ، قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ ، وَكَفَّنَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جُبَّةٍ ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ . فَكانَ مِمَّا ظَهَرَ مِن صلاتِهِ عليهِ: (اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ خرجَ مُهاجرًا في سبيلِكَ ، فقُتِلَ شَهيدًا ، أَنا شَهيدٌ علَيهِ)
:أيها المسلمون : مدار هذا الحديث الشريف على أمر عظيم ألا هو : ( الصدق مع الله تعالى) وذلك بأن تكون نية المرء ومقصده في أقواله وأعماله الصالحة ما عند الله تعالى من عظيم الفضل والعطاء الذي لا يملكه إلا هو جل وعلا ، ولنا مع هذا الحديث بعض الوقفات
الوقفة الأولى: كم من إنسان يتمنى اللحاق بركب الموفقين للخير من حفظٍ لكتاب الله تعالى، أو قيامٍ لليل، أو كثرة صيام النوافل، أو المحافظة على الحضور للمسجد عند سماع النداء، أو طلب العلم الشرعي، أو الدعوة إلى الله تعالى، أو دوام الذكر لله تعالى ونحو ذلك من سُبل الخير المتعددة ، ويمضي به العُمر وتمر به السنوات تلو السنوات ولم يتحقق له شيء مما تمنى ورجا وأمّل من الخير والأعمال الصالحة ، إن السبب في ذلك أيها المباركون : غياب الصدق مع الله جل وعلا، فلو صدق ذلك الإنسان مع الله تعالى حقاً لنال مراده من الخير الذي رجا ، وإنما كان ما أراد مجرد أماني علم الله عدم الصدق واللجأ والاعتماد عليه جل وعلا في تحقيقها فلم يُوفق صاحبها لمراده ، وينل مبتغاه من الخير الذي أمل ورجا
الوقفة الثانية: كم من إنسان يَعِدُ نفسه ويمنّيها بهُجران والإقلاع عن بعض المعاصي والمحرمات التي يأتيها كشرب الدخان أو الشيشة، أو سماع الغناء، أو الإسبال، أو حلق اللحية، أو مشاهدة النساء الأجانب والأفلام الماجنة وغير ذلك من المحرمات، وهو واقع في ذلك المحرم سنوات طِوال وربما هجر ذلك المحرم لفترة قصيرة ثم عاد إليه أخرى، وتمر به السنوات وهو باقٍ على هذا الضلال والإثم ، وقد يُختم له به والعياذُ بالله تعالى، إن السبب في ذلك أيها المباركون : غياب الصدق مع الله تعالى، فلو صدق ذلك العاصي مع الله تعالى واستعان به حقاً في توبته وهجره للمحرم لنال مراده ورُزق الثبات على الإقلاع وهجر ذلك المحرم، وإنما كان ما أراد أماني علم الله عدم الصدق واللجأ والاعتماد عليه جل وعلا في تحقيقها فلم يُوفق لمراده وينل مبتغاه
الوقفة الثالثة: كم من يطلب وظيفة يسد بها حاجته ويترفع بها عن الحاجة للناس وسؤالهم ، وكم من فتى أو فتاة يطلبان زواجاً ويسعيان إليه ويتمنيانه، أو زوجان يطلبان ذرية وقد طال حرمانهما وطرقا أبواب الطب ، وغير ذلك من صور الأماني والحاجات ولم يتحقق ما تمنى المتمني وسعى له الساعي ، إن السبب في ذلك أيها المباركون : غياب الصدق مع الله تعالى ، فلو صدق الساعي صاحب الحاجة مع الله تعالى حقاً لنال مراده، وإنما كان ما أراد أماني علم الله عدم الصدق واللجأ والاعتماد عليه جل وعلا في تحقيقها فلم يُوفق صاحبها لمراده وينل مبتغاه
الوقفة الرابعة: كم من صاحب حاجة يدعوا لله تعالى بحاجته ولم تتحقق، وربما ضجر وهجر الدعاء أو أقل منه، وكم من مريض يطلب الشفاء من مرضه بالأدوية والعقاقير الطبية ثم نُصِح بالرقية بالقرآن الكريم ولم يحصل له الشفاء، والله تعالى يقول: ( ونُنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، وقد يُنصح بالتداوي بالعسل وهو شفاء لقول الله تعالى عن النحل: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) ، أو يتداوى بماء زمزم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( طعام طعم ، وشفاء سُقم) رواه الطبراني وصححه الألباني ، ومع استعمال ذلك وتعاطيه لطلب الشفاء إلا أنه لا يُشفى ، إن السبب في ذلك أيها المباركون : غياب الصدق مع الله تعالى ، فلو صدق ذلك الداعي والمستشفي مع الله تعالى حقاً وآمن صدقاً بنفع ذلك الدواء وإجابة ذلك الدعاء لنال مراده، وإنما كان ما أراد أماني علم الله عدم الصدق وحسن اللجأ والاعتماد عليه جل وعلا وحُسن الظن به في تحقيق ذلك فلم يُوفق صاحبها لمراده وينل مبتغاه
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
:الحمد لله عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ( فأولى لهم طاعة وقول معروف، فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم)، "يقول الله تعالى مخبراً عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله تعالى عليهم وأمر به نكل عنه من في قلبه مرض، وكان الأولى لهم أن يصدقوا الله تعالى بامتثال الأمر ويُجمعوا عليه هممهم، ويصدقوا الله بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله، ففي ذلك خير لهم، وذلك من وجوه: منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده، ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ضعف عن العمل بوظيفة وقته وبوظيفة المستقبل، أما الحال فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يُعان عليه
ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته على ما يستقبل من أموره ، فأحرى به أن يُخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكره ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمه عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناً بربه في ذلك، فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره
.إخوة الإيمان: الصدق مع الله تعالى باب عظيم لنيل المراد وتحقيق المنى وتحصيل المقاصد في جميع الأمور ، وإذا غاب أو اعتراه ما يشوبه تخلف المراد والمقصد والهدف عن التحقق، فالله الله في مراجعة أنفسنا ويقيننا بالله تعالى وصدق اعتمادنا عليه وحُسن اللجأ إليه فالخير بيده لا ما نع لما أعطى ولما مُعطي لما منع
.اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل والصدق معك في أمورنا كلها يا كريم
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا
.اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة ونعوذ بك من سخطك ونارك
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1673865310_خطبة الصدق مع الله.pdf
1673865371_خطبة بعنوان الصدق مع الله.docx