الصَّدَقَةُ اليَوْمِيَّةُ
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى :
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بعدُ عباد الله :
اتقوا الله تعالى واعلموا أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ المُؤْمِنُ كُلَّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ، إِذْ سَخَّرَ الله مَلَكَيْنِ يَنْزِلاَنِ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِلْمُنْفِقِينَ، وَالدُّعَاءِ عَلَى المُمْسِكِينَ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا مِنْ يَوْمَ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الصَّدَقَةُ اليَوْمِيَّةُ سَبَبًا فِي الحُصُولِ عَلَى دَعْوَةِ المَلَكِ بِالخَلَفِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا اتِّقَاءً لِدَعْوَةِ المَلَكِ بِالتَّلَفِ.
وَدُعَاءُ المَلائِكَةِ حَرِيٌّ بِالإِجَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ: [ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ] وَلِقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ».
وَالدُّعَاءُ بِالخَلَفِ عَلَى المُنْفِقِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] فَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى واللهُ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ.
وَاللهُ تَعَالَى يُخْلِفُ عَلَى العَبْدِ مَا أَنْفَقَ فِي الخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِوَعْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَبِدُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ:
أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي الحَدِيث القُدْسِيِّ: " يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ".
وَأَمَّا فِي الآخِرَة فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ.: { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }.
وَالنَّفَقَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الخَلَف فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَيَتَنَاوَلُهَا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَنَاوَلُهَا دُعَاءُ المَلَكِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هِيَ النَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ وَالمُسْتَحَبَّةُ، فَالنَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ هِيَ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَوْلاَدِ، وَبِرِّ الوَالِدَيْنِ بِالعَطَاءِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ بِالمَالِ وَالهَدَايَا؛ صِلَةً إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَصَدَقَةً وَصِلَةً إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ.
والنَّفَقَةُ المُسْتَحَبَّةُ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَكَفَالَةِ الأَيْتَامِ، وَالسَّعْيِ عَلَى الأَرَامِلِ، وَالإِهْدَاءِ لِلْجِيرَانِ، وَسَائِرِ الإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ.
وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّ المُنْفِقَ يَتَنَاوَلُهُ دُعَاءُ المَلَكِ بِالخَلَفِ سَوَاءٌ أَنْفَقَ مَالاً، أَوْ أَطْعَمَ طَعَامًا، أَوْ سَقَى مَاءً، أَوْ كَسَا كِسَاءً، أَوْ أَعْطَى مَتَاعًا، أَوْ بَذَلَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُوَسِّعُ دَائِرَةَ الإِنْفَاقِ لِلْمُنْفِقِينَ، لاَ مِنْ جِهَةِ النَّفَقَةِ ذَاتِهَا، وَلاَ مِنْ جِهَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يُعِينُ المُؤْمِنَ عَلَى الالْتِزَامِ بِالصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ، وَعَدَمِ الإِخْلَالِ بِهَا؛ لِلدُّخُولِ فِي دَعْوَةِ المَلَكِ بِالخَلَفِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الإِنْفَاقُ وَتَعَدَّدَ كَانَ الخَلَفُ عَلَى المُنْفِقِ عَظِيمًا وَمُتَعَدِّدًا.
مع لُزُومِ اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي النَّفَقَاتِ الوَاجِبَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَى أَهْلِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ، حَتَّى الكُفَّارُ وَالفُسَّاقُ، لَكِنَّ صَاحِبَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يُحَوِّلُ هَذَا الإِنْفَاقَ إِلَى طَاعَةٍ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا، وَتُدْخِلُهُ فِي دُعَاءِ المَلَكِ لَهُ بِالخَلَفِ.
وَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُنْفِقُ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ فِي نَفَقَاتِهِ الوَاجِبَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِبَشَاشَةٍ وَرَحَابَةِ صَدْرٍ، وَفَرَحٍ بالإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوفٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا يَقْضِي عَلَى كَثِيرٍ مِنَ المَشَاكِلِ الأُسَرِيَّةِ الَّتِي تَنْتُجُ عَنِ التَّأَفُّفِ وَالضَّجَرِ مِنْ كَثْرَةِ الإِنْفَاقِ عَلَى الأُسْرَةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ لاَ يُحْضِرُونَ حَاجَاتِ أُسَرِهِمْ إِلاَّ وَهُمْ يُتَمْتِمُونَ بِالسَّخَطِ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ؛ لِكَثْرَةِ طَلَبَاتِهِمْ.
وَأَيْضًا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى السَّرَفِ، والإِنْفَاقِ عَلَى مُحَرَّمٍ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوفٍ، وَلاَ يَتَنَاوَلُهُ دُعَاءُ المَلَكِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وَأَمَّا المُمْسِكُ عَنِ الإِنْفَاقِ فَمَدْعُوٌّ عَلَيْهِ بِالتَّلَفِ: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: "وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا"، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: "وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تَلَفًا"،
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ..
أَمَّا بَعْدُ عباد الله : الصَّدَقَةُ اليَوْمِيَّةُ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا حَدِيثُ دُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفِ، وَعَلَى المُمْسِكِ بالتَّلَفِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ كُلَّ يَوْمٍ؛ لِقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ، أَوْ لِكَثْرَةِ الشُّغْلِ، فَلاَ يَلْتَزِمُون بِهَا، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ بَرَكَةَ دُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفِ تَتَنَاوَلُهُ بإِنْفَاقِ أَيِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً زَالَ الإِشْكَالُ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»
اَللَّهُمَّ عِلْمنَا مَا يَنْفَعُنَا ، وَأَنْفَعُنَا بِمَا عَلَّمَتْنَا وَفَقِهَنَا فِي دِينكْ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ .
اَللَّهُمَّ صِلْ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدْ وَآلُهُ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ اَللَّهُمَّ أَعَزّ اَلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَانْصُرْ عِبَادَكَ اَلْمُسْلِمِينَ وَفَرَج عَنْ إِخْوَانِنَا اَلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ .
اَللَّهُمَّ اِحْفَظْنَا بِحِفْظِكَ ، وُوفِقَ وَلِيُّ أَمْرِنَا ، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا اَلْأَمْنَ وَالْأَمَانَ ، وَالسَّلَامَةُ وَالْإِسْلَامُ ، وَانْصُرْ اَلْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا ؛ وَانْشُرْ اَلرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا ؛
اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا بِرَحْمَتِكَ غَيْثًا هَنِيئًا مَرِيئًا، اللَّهُمَّ طَبَقًا سَحًّا غَدَقًا،
اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ،
اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ، وَأَكْرِمْنَا بِخَيْرَاتِكَ الْعِظَامِ.
اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ؛ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، أَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، اللَّهُمَّ أَغِثِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَالْحَاضِرَ وَالْبَادِيَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ؛
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.