الصداقة والأخوة الصادقة
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
الصداقة والأخوة الصادقة
الحمد لله وبعد : فقد اختصرت وعدلت وأضفت إضافات على الخطبة الجميلة للشيخ هلال الهاجري والتي عنوانها : الصداقة ، وهي على هذا الرابط https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/364524 جزاه الله خيرا
الحمدُ للهِ يَهدِي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ، نحمدُه سبحانَه على فَضلِه السَّابِغِ وجُودِه العَظيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له البَرُّ الرؤوفُ الرَّحيمُ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه مِن خلقِه ذو الخُلُقِ القَويمِ ، صلى الله عليه ، وعلى آلهِ وصحابتِه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) ..
معشر الكرام :حديثنا اليوم عن أمر مملوء بالمشاعر والأحاسيس، وليس ألفاظاً تدرّس في الكراريسِ، حديثنا عن أمر له ارتباط وثيق بالأرواح ! التي ما تعارف منها أأتلف ، حديثنا عن أمر تَسقي شجرتَه مياه الأخلاق والمواقفُ التي فيها بذلُ النَّفسِ والصَّفاءُ، والحياة التي فيها كرمُ الأخلاقِ والعطاءِ،حديثنا عن الصداقة وعن أمر له ارتباط بها : ألا وهو : الأخوة الصادقة !
أيها الأحبة : الصَّداقةُ تبعثُ في النَّفسِ السَّعادةَ والأمانَ، والأُنس والاطمئنان ، ويشعرُ معها الإنسانُ بالدِّفءِ والحنانِ ، ورحم الله القائل : سَلامٌ على الدُّنيا إذا لَم يَكُن بِها *** صَديقٌ صَدوقٌ صَادِقُ الوعدِ مُنصِفا
وفي المثل : رب أخٍ لك لم تلده أمك !
ولعل الصَّداقة مأخوذة من الصِدق ! صدق مَشاعر، صدق أحاسيس، صِدق كلام، صِدق استماع، صِدقُ نصح .
الصَّداقة إعجاب لتوافُقٍ ما؛ قد يكون عاطفياً، أو نفسياً ، أو فكرياً ، أو عقلياً، وقد تكون كلها ، ثمَّ يلي التوافق خطواتُ تقارب تتعمق مع الأيام شيئاً فشيئاً .
أيه الأحبة : والصداقات درجات ، وقد يعتري بعض الصداقات مدٌ وجَزْر ، وأحلى الصداقة وأعلاها إذا كان الصديقان متعاونين على البر والتقوى ! إذ أن صداقتهم تتميز بالربح والاستمرار في الآخرة ! {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }الزخرف67
والعادة أنَّ الصداقة لا تأتي حين نرغَب في استِحداثها بإرادتنا وفي الوقت الذي نريد؛ لأنها بالأرواح ، فالحب والارتياح موضعه الأرواح ! " وفي الصحيحين مرفوعا " والأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ "
ولأن الصداقة بطبيعتها تَنمو ببطءٍ يَسقيها عبر الأيام والسنين التواصلُ والمواقف الطيبة والأخلاق الحسنة !
وليست كثرة اللقاءات معيارا لقوة الصداقة وإن كانت مؤشرا على ذلك ، فربما كان أحب صديق إليك في بلد آخر وربما في دولة أخرى ! يقول الإمام أحمد – رحمه الله – " إن لنا إخواناً لا نراهم إلا في العام مرة نحن أوثق بمودتهم مِمَن نراهم كل يوم " !
ومما يدل على وجوب العناية بالصداقة حديث : " المرءُ على دينِ خليلِهِ ، فلينظُر أحدُكُم مَن يخالِلُ " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه ابن حجر ، ومما يبين أيضا منزلة الصداقة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صلة الرجل لأهل صديق والده من البر ! فكيف بصديق الأب نفسه ! ففي صحيح مسلم مرفوعا : " إنَّ مِن أَبَرِّ البِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ " أي بعد موته .
وموت الصديق مصيبة وقد تُحدث للصديق الحي فجوة لا تُسد ! وفي الحديث : " يقولُ اللَّهُ تَعالَى: ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ " رواه البخاري .
أيه الأحبة : ويوجد أمر يشبه الصداقة في بعض الأمور بل قد يكون أحيانا أعظم ! إنها الأخوة الإيمانية الصادقة!
أخي حتما أن في جوالك عدد من الأصدقاء الذين تتصل بهم ويتصلون بك و تلتقى بهم وتحبهم ويحبونك وتأنس بالجلوس معهم أوقاتا كثيرة فهولاء أصدقاء ، ولكن ربما أن أناسا تحمل أرقامهم بعد زمالةٍ قديمة أو جِيرةٍ أو أمر جمعكم يوما ما، وأنت الآن منقطع عنهم لا تلتقي بهم ، لكنك تجد نفسك تحبهم وتثق بنصحهم وتعجب بأخلاقهم وربما تدعو لهم بظهر الغيب ويدعون لك ، فهذه الأخوة الإيمانية الصادقة !
إن منزلة الأخوة الإيمانية عظيمة ؛ففي الحديث الصحيح : " أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له، علَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ، بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ " رواه مسلم .
عباد الرحمن : لقد جعل الإسلام منزلة الأخوة الإيمانية عالية قال الحق سبحانه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ) أخرجه مسلم ، والمسلم لا يتم إيمانه إلا إذا أحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه ! كما ثبت في الحديث الصحيح، وجاء الترغيب النبوي للنفوس الزكية " دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ. " رواه مسلم .
ولك أن تتخيل مدى التضحية التي وصلها السلف الصالح ، أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قَدِمَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَهُ وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ الأنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عليه أنْ يُنَاصِفَهُ أهْلَهُ ومَالَهُ، فَقَالَ: عبدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ دُلَّنِي علَى السُّوقِ ..." وصلت تضحية سعد بن الربيع الأنصاري أن أراد أن يطلق إحدى زوجته ليتزوجها عبد الرحمن بن عوف و عرض أن يناصفه ماله ، ولكن عبد الرحمن أبى ودعا له بالبركة ثم اتجه إلى سوق بني قينقاع ثم صار من كبار التجار !
وإليك صورة أخرى عجيبة قَالَ حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي، وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَسْقِيكَ؟، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: آهْ، آهْ، فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آه، آهْ، فَأَشَارَ هِشَامٌ: أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ)، فَكيفَ لبليغ أن يَصفَ هذه اللَّحظاتِ؟، وماذا عَسى أن تَقولَ الكلماتُ؟. نفعني الله وإياكم ...
الحمد لله ... أما بعد : فقد جاء أن سُفْيَان قال لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ : مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّتِكَ ؟ قَالَ : الْتِقَاءُ الْإِخْوَانِ , وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ ، وسأل أحمدُ بن الصباح أحمدَ بن حنبل كم بينا وبين عرش ربنا ؟ قال دعوة مسلم يجيب الله دعوته !
الصَّديقُ الصَّالحُ والأخ الصالح هو الذي يُضيءُ لكَ في الدُّنيا طَريقَ الخيرِ، يُعينُكَ إذا ذكرتَ، ويُذكِّرُكَ إذا نسيتَ، وينصحُكَ إذا غَفلتَ، ويدعوا لكَ إذا مِتَّ، كما قَالَ محمدُ الأصفهانيُّ: وأينَ مِثلُ الأخِ الصَّالحِ؟، أَهلُكَ يَقتسمونَ مِيراثَكَ، وهو قد تَفردَّ بحُزنِكَ، يَدعو لكَ في ظُلمةِ الليلِ، وأَنتَ تحتَ أَطباقِ الثَّرى.
وأما في الآخرةِ، فخيرُ الأصدقاءِ والإخوة في الله هم الشُّفعاءُ، يَقولُ عَليُّ بنُ أبي طَالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (عليكم بالإخوان، فإنَّهم عِدَّةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، أَلا تَسمعونَ إلى قَولِ أَهلِ النَّارِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) وتأملوا هذه اللطيفة في الآية فالصديق الحميم عملة نادرة،تأمل: {فمالنا من شافعين ولا صديق حميم}،"حيث جمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقلته" (تفسير القرطبي13/110)
إخوة الإيمان : اسمعوا إلى هذه الآياتِ: (ويوم يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، ليسَ على أُصبعِه فقط، بل على يديهِ جميعاً من شِدَّةِ النَّدمِ، (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)، وما الذي منعَهُ من ذلكَ؟، (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)، لا إلهَ إلا اللهُ، حياةُ الظَّالمِ مليئةٌ بالأخطاءِ، ولكنَّهُ خصَّ الاختيارَ الخاطىءَ للصَّديقِ، لأنَّها الغلطةُ الأكبرُ الذي كانَ لها التأثيرُ السيءُ في حياتِه.
ختاما أخي الحبيبُ .. صاحب من إذا خَدَمتَه صَانكَ، وإن صَحبتَه زَانكَ، ومن إذا مَددتَ يَدكَ للخيرِ مَدَّها، وإن رأى مِنكَ حَسنةً عَدَّها، وإن رأى منك سَيئةً سَدَّها، واسمعْ إلى نصيحةِ نبوية ففي الحديث عند أحمد والترمذي (لا تُصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ). حسنه الألباني .. ثم صلوا وسلموا ...
المرفقات
الصداقة-والأخوة-الصادقة
الصداقة-والأخوة-الصادقة