الصبر عند المصيبة

محمود الطائي
1434/11/20 - 2013/09/26 21:04PM
سبحان المتفردُ بالبقاء والقهر، ذي العِزة والسِتر، لا نِدَّ له فيُبارى، ولا شريكَ له فيدارى.
كتب الفناءَ على أهلِ هذه الدار، فكانت الجنة ُ عقبى الذين اتقَوْا وعقبى الكافرين النار.
جعل للمحسنين الدرجات ، وللمسيئين الدَّركات؛
خلقَ الموت محتوماً على جميع العباد ، من الإنس والجان ، وجميع الحيوان ، فلا مَفرَّ لأحدٍ منه ولا أمان ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
ساوى فيه بين العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، والغني والفقير: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .
فالكيِّس من دانَ نفسَهُ، وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حُلولِ الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر،
والمؤمن من تيقَّن بصبره الثوابَ على المصيبةِ والضرر.


عباد الله : فقدُ الأحبة : من أعظم المصائب
نارٌ، تحرق الكَبـِد، وتـُفتِتُ العَضُد ، لكن العبد المؤمنُ يعلم يقينا ً ، إن ما يحصُل له من الأقدار بيد الله تعالى ، وأن من أركان إيمانه هو الإيمانُ بالقدر خيره وشره
فهذه الحياة ، لا تخلو من بلية ، ولا تصفو من رزية ، لا ينتظر الصحيحُ فيها إلا السَّـقم، ولا الكبيرُ إلا الهرم .


والمرءُ رهنُ مصائبٍ ماتنقضي
حتى يوسَّدَ جِسمُهُ في رَمسِه
فمؤجَلٌ يلقى الرَدى في غيرهِ
ومُعجَّلٌ يلقى الردى في نفسه


هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة ؟ لا والله
يقول أحدُ
السلف : ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس،


ثمانية ٌ لابد منها علىالفتى
ولابد أن تجري عليه الثمانية
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌوفـُرقة
ويُسْرٌ وعُـسرٌ ثم سـُقمٌ وعافية


اللهم نسألـُك الاحتسابَ عند المصائبِ يالله
اللهم لاتحملنا مالاطاقة لنا به .
يقول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقص ٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )

إنا لله وإنا إليه راجعون، علاجٌ من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة ؛ فإذا ما علِمَ العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ، ملكٌ لله عز وجل، وقد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعيرُ يأخذ عاريته ؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.
( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )
فمصير العبد ومرجـِعه إلى الله ، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراءَ ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّهُ فردا ً كما خلقه أول مرة ، بلا أهلٍ ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأل الله العفو والعافية .
واسمعوا يا عباد الله بعضَ أحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما حل بنا من الكروب والأشجان ، والهموم والأحزان، فقد روى
مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ما من عبد تـُصيبُهُ مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها } قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟- قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خيرٌ من رسول ِ الله صلى الله عليه وسلم .



فلرُبَّ أمرٍمحزن ٍ
لك في عواقِبـِهِ الرضا
ولـَرُبما اتسعَ المَضيقُ
وربما ضاقَ الفضا


فلا نعلم أين الخيرَ ، فكم محسودٍ على نعمةٍ هي داؤه، ومحرومٌ من دواءٍ حِرمانـُه هوَ شِفاؤُه!
ورُبَ مَحبوبٍ في مكروه، ومكروهٍ في محبوب! وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ

وفي
الصحيحين عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه }.
وفي
سنن الترمذي : {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة }.وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم } يشير لقول الله -عز وجل-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله.
فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار } أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب!
و في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم.
فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم.
فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع.
فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد } واللهِ انها لأعظمُ بـِشارةٍ بالموتِ على الإيمان؛ لأن الله تعالى إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيدهِ لابد لذلك العبد من أن يسكنهُ يوماً من الأيام.
وروى الإمام
أحمد : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتُحِبُّهُ ؟ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ ؟ " قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِيهِ : " أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا ؟ قَالَ : " بَلْ لِكُلِّكُمْ " .
اللهم ارزقنا ايمانا ً صادقا وقلبا ً خاشعا وجسدا على البلاء صابرا وقلبا عند الابتلاء راضيا
يقول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام

{إِنَّما أشكُوا بَثِي وَحُزنِي إلى اللّهِ}

وإذا عرتـــك بلية ً فاصبر لها صـبر الكــريمِ فإنه بك أعلمُ

وإذا شكــوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ



الحمد لله مفرج الهموم، ومُنفِّس الكروب، ومُبدِّد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجاً، لم يخلِّ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعَطِيَّة.
نحمده على حلوِ القضاء ومُرِّه، ونعوذ به من سطوته ومكره، ونشكره على ما أنفذ من أمره، والصلاة والسلام على من كان موته أعظمُ المصائب
فكل مصيبةٍ دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب ؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء.وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصابنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب }^.
فما من عزيزٍ أو حبيبٍ أو قريبٍ أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحُرقةِ وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم
فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم

فاصبر لكل مصيبةوتجَّلدِ
واعلم بأن المرء غير مخلدِ
واصبر كما صبرالكرام فإنها
نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد
أوَما ترى أنالمصائب جمة
وترى المنية للعباد بمرصدِ؟
من لم يُصب ممنترى بمصيبة
هذا سبيل لست عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها
فاذكر مصابك بالنبي محمد

ولابد أن يعلم المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاء وتبديداً لجميع الكرب والأدواء: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
ومما يكشف الكربة: الاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه، والتسليم لقدره.روى الإمام
أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: {ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى.
قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال صلى الله عليه وسلم: عجبت للمؤمن إن الله عز وجل لا يقضي قضاءً إلا كان خيراً له }^.
فليعلم المكروب أن حظَّه من المصيبة ما يحدث له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
من رضى بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله.
فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.جعلنا الله وإياكم من الراضين بقضاء الله وقدره.

لكل شيء إذا ماتمَّ نقصان
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كماشاهدتها دول
من سرَّه زمن ساءته أزمان


وروي عن علي رضى الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب: [[إنك إن صبرت جَرَتْ عليك المقادير وأنت مأجور،
وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور ]]
المشاهدات 3485 | التعليقات 1

الخطبة منقولة من خطبة شيخنا الفاضل
الشيخ علي القرني اثابه الله وجزاه عنا كل خير

والتي بعنوان كشف الكربة عند فقد الاحبة