الشوق والحنين إلى بيت الله الحرام

الحمد لله الذي أمر خليله ببناية البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مبرأةً من الشركِ والشك والجهل وتطرق الأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، هداة الأنام وسلم تسليماً كثيراً.
فاتقوا الله – عباد الله - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).
إخوة الإيمان والعقيدة ... في هذه اللحظات تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق والمشاعر المقدسة إلى عرفة والمزدلفة، ومنى والملتزم والحطيم وزمزم.
أشواقنـــــــــــــــــــــــــا نحو الحجاز تطلعت *** كحنين مغترب إلى الأوطــــــــــــــــــــــــان
إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تسمـــــــــــو بفطرتها إلى الطيـــــــــــــــــــــــران
إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله تعالى.
أَيُ لحظةٍ تلكَ، اللحظةُ التاريخيةُ المحفورة في عمق الزمن، المسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف وحرمة الزمن وعظمة المكان وتؤسس ركن الحج إلى قيام الساعة، يوم أن قال الله جل وعلا لخليله إبراهيم ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ).
فإذا المواكب تتدفّق بالحَجيج مِن كلّ فجٍّ عميق، ما أجملَ أصوات التلبيةِ تعُجّ بها الطائراتُ في الأجواء، والمواخِر في عُباب البحار، والمراكِب التي تلتهِمُ الطريقَ وتغُذّ السيرَ آمّين البيت الحرام، كلُّهم مستجيبون، ثمّ في حرَمِ الله يلتقون. إنها قوافِلُ الإيمان، ورِحلةُ الحياة إلى مَهوَى الأفئِدَة، ورمزِ الإسلام، وقِبلة المسلمين.
جهتهم واحدة، وهدَفهم واحِد، ربهم واحد، نبيهم واحد، دينهم واحد، لباسهم واحد، صوتهم بالتلبية واحد لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
الحج إجلال وتعظيم وتكبير وتقديس فيه تلهج الألسنة بالتكبير وترتفع الأصوات بالتلبية ويجتمع الجميع على نداء التوحيد.
فما أعظم أن يقول المسلم ( الله أكبر ) فالله أكبر وأعظم. الله أعلى وأجل. الله أكرم وأرحم. لبيك اللهم لبيك.
واليوم اليوم ... حجاج بيت الله في أرض عرفة ... مشاعر مقدسة وبقاع طاهرة، ورحاب واسعة، ومواسم فاخرة، وجموع كثيرة وغفيرة، ملايين البشر مجتمعون جميعاً في مكان واحد بلباس واحد، لا فرق بينهم بين الشريف والوضيع والقوي والضعيف والغني والفقير والذكر والأنثى لا يتفاضلون إلا بالتقوى. كلهم يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي وتقبل مني وكلهم يهتف اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار . واللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا.
عرفات، وما أدراك ما عرفات !! ( ما مِن يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عَبدًا من النار من يومِ عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ) إنهم يريدون رحمةَ ربهم وجنّتَه، يريدون مغفِرةَ ذنوبهم والعتقَ من النار، جاؤوا من أقاصي الدّنيا وأطراف الأرض، ترَكوا أهلَهم وأوطانهم، وأنفَقوا كلَّ ما يستطيعون للوصولِ إلى هذه الأماكن الشريفة. يطمعون في ثواب الله، يرجون الغفران، ويخشون النيران، ويطمعون أن يكونوا من أهل التقوى والإيمان ممن يقول عليهم الرب الرحيم الرحمن (أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم ).
لا يملك الإنسان وهو يرى تلك الجموع المجتمعة والوفود المحتشدة إلا أن يسكب عبرته ويسيل دمعته. هناك تسكب العبرات وتنزل الرحمات وتفيض العطايا والهبات وتمنح الهدايا والشهادات وتمحى الهفوات والزلات وترق القلوب لرب الأرض والسموات.
عبرة وعبرات ودمعات وبسمات في أيام معدودات ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) ( وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ )
نسأل الله تعالى أن يتقبل من الحجيج حجهم، اللهم تقبل من الحجاج صالح أعمالهم وتجاوز عنهم خطاياهم وزلاتهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... هل اشتقنا إلى أن نرى تلك البقاع الطيبة المباركة المقدسة لنتذكر فيها الذكريات النبوية والنفحات الإيمانية والمواقف المحمدية. يوم أن وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حجته الوحيدة التي حج فيها، وقال للناس مودعاً لهم وموصياً ( أيها النَّاسُ .. خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا ) ثم أنزل الله عليه في يوم الجمعة وهو واقف بعرفة ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) .
تذكروا حجة الوداع يوم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج معه مائة وعشرون ألف من المسلمين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الوداع فانشرح صدره بهذه الجموع الغفيرة والألوف المؤلفة، التي لبت النداء، وجاءوا رجالاً يمشون على أرجلهم وركبانا فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة قال فيها ( تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ ) ثم قال ( لَا تَرْجِعُوا مِنْ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، إِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعراضكم حَرَامٌ علَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، ألا هل بلغت ) فقال الناس :نعم. فقال ( إنكم ستُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ الرسالة وَأَدَّيْتَ الأمانة وَنَصَحْتَ الأمة، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ ( اللهُمَّ، فاشْهَدْ، اللهُمَّ، فاشْهَدْ اللهُمَّ، فاشْهَدْ )
وقف صلى الله عليه وسلم في حجته خاضعاً لربه منكسراً بين يدي مولاه مكثراً من الدعاء والتضرع والمناجاة ( فبدأ بالحَجَر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء ) صلى الله عليه وسلم.
كأنني برسول الله مرتدياً *** ملابس الطهر بين الناس كالقمر
نور وعن جانبيه من صحابته *** فيالقٌ وألوف الناس بالأثر
ملبياً رافعاً كفيه في وجل *** لله في ثوبِ أوّابٍ ومفتقر
يمضي ينادي خذو عني مناسككم *** لعل هذا ختام العهد والعمُر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا *** مُمَتَّعُ القلب والأسماع والبصر
يا رب لا تحرمنا من شفاعته *** وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
هذه حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم حجة حُجت، وأطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة كبرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، وأعظم نفس حجت بقلب خاشع، وإحرام طاهر وخلق عظيم صلى الله عليه وسلم.
والله إنه لموقف تتجدد فيه الذكريات وتسكب فيه العبرات ويقضي فيه الحجيج عبادة من أعظم العبادات وقربة من أعظم القربات تجرَّدوا فيه لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة على صعيدِ عرفات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، فتملأ المكان وتتطرب الزمان وتتصاعد في إخلاصها وتوحيدها إلى الواحد الديان : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
هنيئًا لكم يا ضيوف الرحمن .. بلوغُ بيت الله المعظّم، هنيئًا لكم هذه الشّعائر والمشاعر، شرفُ الزمان وشرف المكان مع عظيم الأعمالِ، فاحمدوا الله على ما حبَاكم من هذه النِّعَم، واشكروه فقد تأذّن بالزِّيادة لمن شكَر، قدِمتم أهلاً، ووطئِتم سهلاً، وأنتم ضيفُ الله ووفدُه، الواجِبُ إكرامُه ورفده.
وتذكروا أنَّ قصدَ هذه البقاع الطاهرةِ يكفّر الذنوبَ، ويمحو الآثامَ، ويحطّ الأوزارَ، فليس للحجِّ المبرور جزاءٌ إلا الجنة.
يسّر الله حجَّكم، وحفِظكم من كلِّ مكروه، وجعل حجّكم مبرورًا وسعيَكم مشكورًا، تقبَّل الله منّا ومِنكم.
المشاهدات 3363 | التعليقات 0