الشوق الى الله وشهر شعبان 28-7-1442
محمد آل مداوي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أيها المسلمون: أعظمُ لَذَّةٍ في الدُّنيا، وأَهْنَأُ نَعيمٍ فيها: الشَّوْقُ إلى لقاءِ اللهِ، وأعظَمُ لذَّةٍ في الآخرةِ، وأجَلُّ نعيمٍ فيها: النَّظَرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ.
وكانَ مِنْ دُعاءِ النبيِّ r: "وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ".
وشوقُ النبيِّ r كانَ ظاهرًا لمن تأمَّلَ سِيرتَه، وازدادَ شَوْقُه لربِّه في آخرِ حياتِه، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ t وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ؛ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.
ذلكَ الشوقُ إلى الله؛ هو الذي حَمَلَ موسى عليه السلام على أن يَسْبِقَ السَّبْعينَ الذين اختارَهُم لميقاتِ رَبِّه، فأمرهم أن يَتْبَعُوهُ وأسْرَعَ هو إلى موعدِهِ مع خالقِه وهو يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)، ازدادَ شوقُه وتَعَجَّلَ لذَّةَ الآخرةِ، (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)
ويقولُ ربُّنا تباركَ وتعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ) قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: "قيلَ: هذا تعزيةٌ للمشتاقينَ وتَسْلِيَةٌ لهم. أي: أنا أعلمُ أنَّ مَن كانَ يرجو لقائي فهو مشتاقٌ إليَّ، فقدْ أجَّلْتُ له أجَلاً يكونُ عن قريبٍ، فإنه آتٍ لا محالةَ، وكلُّ آتٍ قريبٌ".
يقولُ النبيُّ r: "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ" فقالت عَائِشَةُ: إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ! قالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وإنَّ الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ".
أيها المسلمون: وإنَّ أعظَمَ أنواعِ العَذَابِ الذي يُعَذَّبُ بهِ أعداءُ الله: عَذَابُ الحِجَابِ عن اللهِ في الآخرة؛ (كَلاَّ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، وأعظمَ أنواعِ اللَّذَّاتِ التي يَنْعَمُ بها أولياؤُهُ: لَذَّةُ النَّظَرِ إلى وَجْهِ اللهِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبّها ناظِرَةٌ)
فاتقوا الله عبادَ الله، وكونوا في شَوْقٍ إلى ربِّكم، شَوْقٍ يَدْفعُكم إلى القُربِ مِنْ ربِّكم، والتّوبةِ مِنْ ذُنوبِكم.. اللهم لا تحرمنا لذّةَ النظَرِ إلى وجهِكَ الكريم، واجعلنا من أهل الفردوس الأعلى يا رحمن يا رحيم.. أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، فطوبى للمستغفرين
الخطبة الثانية .
الحمد لله ربِّ العالمين، أكملَ الدِّين وأتمَّ النعمةَ على المسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد عباد الله:
فها نحن على أعتابِ شَهرِ شعبان، ومِنْ سُنَّةِ النبيِّ r صيامُ ما تيسَّرَ منه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله r يصومُ حتى نقولَ: لا يُفطر، ويُفطِر حتى نقول: لا يَصوم، فما رأيتُ رسولَ الله r استكمَلَ صِيامَ شهرٍ إلاَّ رمضان، وما رأيتُه أكثرَ صيامًا منه في شعبان" متفق عليه.
كما ينبغي الحذرُ مِنَ الوُقوعِ في شيءٍ مِنَ البِدَعِ المرتبِطةِ بهذا الشهر، كتخصيصِه بشيءٍ من الأعمالِ غيرِ الصيام، فلم يَكُنِ النبيُّ r يفعلُ ذلك.. ومِنَ البِدَعِ المُحْدَثة: تعظيمُ ليلَةِ النِّصْفِ مِنْ شعبان، وتخصيصُها بشيءٍ مِنَ الذِّكرِ أو القيامِ أو الدُّعاءِ ونحو ذلك، فليس هذا مِنْ هَديِ النبيِّ r ولا مِن فِعْلِ أصحابِه رضي الله عنهم.
ومَنْ كان منكم -عبادَ الله- عليه شيءٌ مِن رمضانَ الماضي فَلْيُبادِرْ إلى قضائه، فإنَّ أحدَنا لا يَدري ما يَعْرِضُ له.
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على مَنْ أمركم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ r، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه وولي عهده على البر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الناصحة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها.. اللهم وعُمَّ بالأمن والرخاء والاستقرار جميعَ أوطان المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ جنودنا المرابطين على الثغور، اللهم قوِّ عزائمهم وسدد سهامهم، واكبت أعداءهم، وانصرهم على القوم الباغين يا رب العالمين.
اللهم من أرادَنا وبلادَنا وأمنَنا وقادتَنا ومقدساتِنا والمسلمين بسوء؛ اللهم فاكشف سِرَّه، واهتِكْ سِترَه، وأبطل مَكرَه، واكفنا شَرَّه، واجعله عِبرةً يا رب العالمين.
اللهم يا رب العالمين بلّغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، ونحن في أمنٍ وإيمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم اجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خير مسؤول وأكرم مأمول.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) .. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1615477193_الشوق الى الله وشهر شعبان 28-7-1442.docx