الشوق إلى لقاء الله
عبدالرحمن اللهيبي
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ، نَحْمَدُهُ تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ مَخْلُوقَاتُهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ ، وَشَهِدَتْ أَفْعَالُهُ وَأَقْدَارُهُ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وعظيم فضله وَرَحْمَتِهِ ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ، وَإِلَهٍ كَرِيمٍ، وخالق برٍ رحيم , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ أُنْسًا بِاللَّهِ ، وحبا له وَشَوْقًا إِلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ مُلَاقُو ربكم
والله تعالى يقول: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
أَيُّهَا النَّاسُ: الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْزِلَةٌ من أجل منازل المحبين ،ولا يَنَالُهَا الْعَبْدُ إلا حِينَ يمتلئ قلبه بمحبة ربه , فلا يكون في قلبه سوى الله , فيَسْتَوْحِشُ حينها مِنَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، فَلَا تَغُرُّهُ زَهْرَتُهَا، ولا تُضِله فِتْنَتُهَا، ولا يتعلق بزخرفها.
وَهكذا كان الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ شَوْقُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَظِيمًا؛ وحبهم لربهم كبيرا, لِعِلْمِهِمْ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ ربهم مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ ، فمن الذي خلقهم ورزقهم وأكرمهم وأنعم عليهم سواه ، فاشتاقوا إِلَيْهِ ، وأقبلوا عليه، وأنابوا إليه، وأنسوا بمناجاته، وتلذذوا بقرباته فهذا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَأَ حَيَاتَهُ بِابْتِلَاءَاتِ عظيمة مِنْ حَسَدِ إِخْوَتِهِ لَهُ، وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، وبعدِه عن والديه , وَبَيْعِهِ ليكون عَبْدًا مملوكا رقيقا، ثم اتِّهَامِهِ فِي عِرْضِهِ، ثُمَّ رَمْيِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، ثم خُتِمَتْ حَيَاتُهُ بِابْتِلَاءَاتِ من نوع آخر هي أشد من البلاء الأول؛ إنها ابتلاءات النعمة والسراء حَيْثُ الوجاهةُ وعلوُ المنزلة ، وَتَصْرِيفُ الْخَزَائِنِ، وَبُلُوغُ الْجَاهِ وَالْغِنَى، وَاجْتِمَاعُهُ بِوَالِدَيْهِ بَعْدَ طُولِ الْفِرَاقِ، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الصَّابِرِينَ الْمُوقِنِينَ فِي الضَّرَّاءِ، وَكَانَ مِنَ الشَّاكِرِينَ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ فِي السَّرَّاءِ ؛ إِذْ خُتِمَتْ قِصَّتُهُ الْعَجِيبَةُ بِدُعَائِهِ قَائِلًا: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾
لاحظوا أنَّهُ قَدْ دَعَا بالوفاة عَلَى الْإِسْلَامِ، بعد أن اكْتَمَلَتْ لَهُ دُنْيَاهُ، وَنَالَ أعظمَ الحظِ مِنْ جَاهِهَا ، وَبُسِطَ له أوسعُ المال من أرزاقها. يقول في دعائه : تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، فهو لَمْ يَدْعُ بالوفاة على الإسلام وَهُوَ فِي الْجُبِّ لِيَرْتَاحَ مِنْ ظُلْمَة الجب وَوَحْشَتِهِ، وَلَا دعا به وَهُوَ عَبْدٌ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ ذل رِقِّهِ، وَلَا دعا به وَهُوَ فِي السِّجْنِ ليتحرر من قيده. بَلْ كَانَ شَوْقُهُ إِلَى لقيا ربه وهو فِي أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ وأرغد عيشه؛ وأهنأ حياته قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ حِينَ تَكَامَلَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ إِلَّا يُوسُفُ ، فقد اشْتَاقَ إِلَى لِقَاءِ ربه.
وَأَمَّا عن شوق نَبِينَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه فَقد كَانَ يَدْعُو بذلك كثيرا فِي حَيَاتِهِ حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم: وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»
فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَأن لَا يكون الدافع إلى هذا الشوق وقوعُ فِتْنَةٍ مُضِلَّة؛ أو ضراءَ مضره وإنما شَوْقًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ تمام العَافِيَةٍ وَالنِعْمَةٍ، وَهُوَ الشَّوْقُ الْحَقِيقِيُّ الذي لا باعث له إلا حبُ جوار الله ولقائه , ففِي آخِرِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَبَيْنَ لِقَائِهِ سُبْحَانَهُ، فَاخْتَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى؛ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ، وَخَطَبَ حينها فِي أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خُطْبَةً يُخْبِرُهُمْ فِيهَا بِاخْتِيَارِهِ لجوار ربه؛ فَقَالَ لهم: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يقول أبو سعيد الخدري فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ وقد كَانَ أَبُو بَكْرٍ قد علم بأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العبد الْمُخَيَّرَ
وَمَضَى برسول الله صلى الله عليه وسلم شَوْقُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حتى قضى آخِر نفس في حَيَاتِهِ، ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: « فَلَمَّا نَزَلَ بِرسول الله الموت، وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، فَقُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فاللهم إنا نَسْأَلُك بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِك، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ…
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنِ اشتغل في الدنيا بذكر الله وَأكثر من مُنَاجَاتِهِ.. اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةُ تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَمَنْ كَانَ يريد أن يعرف قدر اشتياقه لربه.. فلينظر إلى قدر اشتياقه للصلاة لمناجاة ربه..
عباد الله : وإنه لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَلَا الدُّعَاءُ بِهِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ كُرْبَةٍ وَقَعَ فِيهَا؛ أو بلاء نزل به ، فَذَلِكَ مِنَ الْجَزَعِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ؛ فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي
إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَعليه يا عباد الله فمن أراد منكم الْفَرَحِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، والشوق إلى لقاء ربه، فليجتهد فِي حَيَاتِهِ بالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، والخشوع في صلاته وإقبال قلبه على مناجاة ربه، وَليجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَالْمُوبِقَاتِ، وَليحَفِظَ جَوَارِحَهُ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَليتَّقِ ظُلْمَ النَّاسِ وأكل حقوقهم والنيل من أعراضهم، وحينها سيقبل عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ خَفِيف الظهر مِنَ الْأَوْزَارِ، مشتاقا لربه لما له عنده من حسن الضيافة والجوار ..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…