الشُهْرَة الحَقِيقِية

سعود المغيص
1444/03/06 - 2022/10/02 20:24PM

اَلْخُطْبَةُ اَلْأُولَى :

إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.

أَمَّا بعدُ عباد الله  :

اتقوا الله تعالى واعلموا أن الشُهْرَة صِفَةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ.. هِيَ أُمْنِيَةُ الكَثِيْرِينَ.. وَفَرَّ مِنْهَا الكَثِيْرُونَ.. يَتَطَلْبُهَا وَيَسْعَى إِلَيْهَا أَقْوَامٌ.. وَيَهْرُبُ مِنْهَا آَخَرُونَ.. البَعْضُ يَعْتَقِدُهَا سَبِيلَاً لِلْمَجْدِ.. وَآخَرُونَ يَرَوْنَهَا بَلَاءً وَفِتْنَةً..  

ولَمْ يَأْتِ فِي الشَرْعِ الأَمْرُ بطَلَبِ الشُهْرَةِ.. بَلْ عَلَى العَكْسِ.. جَاءَتْ نُصُوصُ الشَرْعِ بِذَمِّ الشُهْرَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا, عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ ثَوْبًا مِثْلَهُ ثُمَّ تُلْهَبُ فِيهِ النَّارُ) وَفِي لَفْظٍ: (ثَوْبَ مَذَلَّةٍ)..  

وعَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ قَالَ: “مَنْ رَكِبَ مَشْهُورًا مِنَ الدَّوَابِّ وَلَبِسَ مَشْهُورًا مِنَ الثِّيَابِ أَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ كَرِيمًا”.

وقَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: “كُلُّ شَيْءٍ صَيَّرَ صَاحِبَهُ شُهْرَةً فَحَقُّهُ أَنْ يُجْتَنَبَ”.

وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَسَلَفُ الأُمَّةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَفِرُّونَ مِنَ الشُّهْرَةِ كَمَا تَفِرُّ الفَرِيسَةُ مِنَ الأَسَدِ، لِعِلْمِهِمْ بِخُطُورَتِهَا, وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي البُعْدِ عَنِ الإِخْلَاصِ للهِ تِعِالِى, فَهَذَا بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: “شَهِدْتُ خَيْبَرَ، وَكُنْتُ فِيْمَنْ صَعِدَ الثُّلْمَةَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى رُئِيَ مَكَانِي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ أَحْمَرُ، فَمَا أَعْلَمُ أَنِّي رَكِبْتُ فِي الإِسْلاَمِ ذَنْباً أَعْظَمَ عَلَيَّ مِنْهُ”. أَيْ: الشُّهْرَةَ.

قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيَهِ وَسَلَّم: ( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ ).

وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَدَهَمَ رَحِمَهُ اللهُ: “مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ”.

حُكِيَ أَنَّهُ بَيْنَمَا الحُجّاجُ يَطُوفُونَ بِالكَعْبَةِ وَيَغْرِفُونَ المَاءَ مِنْ بِئْرِ زَمْزَم، إِذْ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَحَسَرَ عَنْ ثَوْبِهِ، ثُمَّ بَالَ فِي البِئْرِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ! فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ اِنْهَالُوا عَلَيهِ بِالضَّرْبِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَمُوتَ، فَخَلَّصَهُ حُرَّاسُ الحَرَمِ مِنْهُمْ وَجَاؤُوا بِهِ إِلَى أَمِيرِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ: قَبَّحَكَ اللهُ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: حَتَّى يَعْرِفَنِي النَّاسُ فَيَقُولُونَ: هَذَا الذِي بَالَ فِي بِئْرِ زَمْزَم”!

أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. فِي ظِلِّ اِنْفِتَاحِ وَسَائِلِ التَوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ عَلَى النَّاسِ, وَفِتْنَتِهِمْ بِهَا.. وَأَصْبَحَ الهَاتِفُ فِي كُلِّ يَدٍ.. يُطَالِعُ يَومِيَاتِ النَّاسِ وَحَيَاتَهُمْ.. فِي ظِلِّ ذَلِكَ ظَهَرَ عَلَيْنَا جَمَاعَاتٌ كَثِيْرَةٌ مِنَ مَشَاهِيْرِ التَوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ.. وَكَثِيْرٌ مِنْهُمْ مَعَ الأَسَفِ الشَدِيْدِ لَمْ يَشْتَهِرُوُا بِعِلْمٍ نَافِعٍ أَوْ تَقْدِيْمِ مَشَارِيْعَ نَافِعَةً لِلْمُجْتَمَعِ.. أَوْ بِمَوْهِبَةٍ تَنْهَضُ بِهَا الأُمَّةُ.. بَلْ إِنَّمَا شُهْرَتُهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ مُهَرِّجًا يُضْحِكُ النَّاسَ.. أَوْ لِإِتْيَانِهِ بِالغَرَائِبِ مِنَ الأَقْوَالِ أَوِ الأَفْعَالِ.. أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْهَضُ بِهِ أُمَّةٌ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ مُجْتَمَعٌ..

وَلِلأَسَفْ فَإِنَّنَا كَثِيرًا مَا نَصْنَعُ مِنَ الحَمْقَى مَشَاهِيرَ.

لَقَدْ أَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ المَشَاهِيرِ رَقْمًا فِي بُورْصَة سُوقِ الدَعَايَةِ وَالإِعْلَانِ.. وَأَصْبَحَتْ قِيمَتُهُ بِعَدَدِ مُتَابِعِيْهِ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُل..

فَأَصْبَحُوا يَتَسَابَقُونَ لِجَذْبِ أَكْبَرِ عَدَدٍ مِنَ المُتَابِعِينَ وَلَوْ عَلَى حِسَابِ التَّخَلِّي أَوِ التَّنَازُلِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ المَبَادِئِ.. كُلُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ كِسْبِ مُتَابِعِينَ جُدَد.. أَوْ أَلَّا يَخْسَرَ أَحَدًا مِنْ مُتَابِعِيهِ.. فَأَصْبَحَتْ حَيَاتُهُم كَدَّاً وَسَعْيًا وَاِلْتِهَاءً فِي التَكَاثُرِ مِنَ المُتَابِعِينَ.. وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَولُ اللهَ تَعَالَى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)

وفِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ بَدَأَتْ تَرْتَفِعُ أَصْوَاتُ كَثِيرٍ مِنَ المَشَاهِيرِ.. نَدَمًا عَلَى اللَّحْظَةِ الَّتِي وَلَجُوا فِيْهَا بَابَ الشُّهْرَةِ.. إِذْ أَنَّ كَثِيْرًا مِنْهُمْ يَشْتَكِي مِنَ التَنَمُّرِ الذِي يَتَعَرَضُ لَهُ عَبْر تَعْلِيقَاتِ المُتَابِعِينَ.. وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْخُذَ رَاحَتَهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَذْهَبُ إِلَيهِ.. بَلْ إِنَّ بَعْضَهُم يَتَعَرَضُ لِضُغُوطٍ مِنْ شَرِكَاتِ الإِعْلَانِ أَو غَيْرِهَا لِلإِدْلَاء بِمَا يُخَالِفُ قَنَاعَاتِهِ.

عباد الله : الشُهْرَةُ إِنْ حَصَلَتْ لِلْمَرْءِ بِلَا طَلَبٍ مِنْهُ.. وَكَانَتْ طَاعَةٍ أَو فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ.. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوظِّفَهَا صَاحِبُهَا فِيْمَا يُرْضِيْ اللهَ تَعَالَى وَيَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ.

وَيَنْبَغِي عَلَيهِ كَذَلِكَ أَنْ يُجَاهِدَ نِيَّتَهُ فِي ذَلِكَ.. فَيَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ..  

أَلَا وَإِنَّ الشُهْرَةَ الحَقِيقِيةَ هِي الشُهْرَةُ فِي السَّمَاءِ.. أَمَّا شُهْرَةُ الأَرْضِ فَهِيَ نَعِيمٌ زَائِلٌ.. مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كَانَ مَشْهُورًا فِي السَمَاءِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيَهِ وَسَلَّم قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ).. (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ نَكُونَ مَشْهُورِينَ عِنْدَكَ.. وَثَبِّتْنَا عَلَى القَوْلِ الثَابِتِ حَتَّى نَلْقَاكَ يَارَبَّ العَالَمِينَ.

 

أقول قولي هذا ..

 

اَلْخُطْبَةُ اَلثَّانِيَةُ :

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

 

أَمَّا بَعْدُ عباد الله :

تَأَمَّلْوا مَعِيَ هَذَا الحَدِيثَ.. لِنَعْرِفَ مَصِيرَ ثَلَاثَةٍ مِنَ المَشَاهِيرِ.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيَهِ وَسَلَّم قَالَ: (إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ )

اللهم ارزقنا  الإخلاص والقبول في القول والعمل

اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم لا رياء ولا سمعه ياذ الجلال والإكرام ..

المشاهدات 1037 | التعليقات 0